لماذا حياة الكاتب بؤسٌ دائم؟

حياة الكاتب القاسية

بعد يومٍ من نشري تدوينة ماذا حدث بعد أول محاولة انتحار، سألتني الفاضلة دليلة رقاي، صاحبة بودكاست رحلة كاتب، إن كنت أرغب بالحديث عن الجانب المظلم في حياة الكاتب، محاولةٍ إقناعي بأن “كُثر يتطلعون لسماع صوتي

اُضطررت للاعتذار، لكن ظلّ الموضوع يعبث في عقلي، إلى أن قرأت مقالة في نيويورك تايمز؛ تحدّثت بكل ما وددت قوله! وإليكم ترجمتها أدناه::

نبذة عن حياة الكاتب

هل كانت الكتابة أسهل على أيامكم؟” سألتني كاتبة شابة “أم أصبحت لا مباليًا؟” كان الأسى يغمر قلبها بعد أن رُفض مقالاً كتبته عن وفاة والدتها رغم أنها جاهدت لنشره.

لم أعلم بما أُجيبها، فحكيت لها قصة:

قبل تفجّر الجائحة مباشرة، انتقل الروائي وكاتب القصة القصيرة (ناثان إنجلندر Nathan Englander) ليصبح جاري في تورنتو، وكنا نجلس أحيانًا حول حفرة النار “Fire pit” في حديقة منزلي، حيث نحتسي النبيذ ونشتكي.
ذات ليلة، سألته سؤالك ذاته، وأيضًا لم تكن لديه إجابة، وإنما قصة:

كنت مدعوًا على العشاء في منزل (فيليب روث Philip Roth)، فسألته: هل سأصبح متلبّد الإحساس اتجاه الرفض مع كل كتاب أكتبه؟” لم يحتج روث لقصة، حيث كانت بحوزته الإجابة الشافية:

“على العكس، ستصبح مرهف الإحساس أكثر فأكثر، حدّ أن أحدهم لو رفعك أمام الضوء لرأى من خلالك!”.

المفارقة في حياة الكاتب

يرى الجمهور الكتّاب في انتصاراتهم فحسب، في حين يمضون حياتهم -غالبًا- في حالة هزيمة.

أعتقد أن هذا ما يفسّر لمَ يبدو الكتّاب، في لحظات الانتصار النادرة، قادمين من كوكبٍ آخر؛ بأزياءهم غير المهندمة، وشعورهم المُسرّحة كيفما اتفق. وابتسامتهم -التي تُُشبه ابتسامة السجناء المفرج عنهم مؤخرًا- في صور توزيع الجوائز الأدبية!

انتشرت مؤخرًا سرديّة “بغيضة” تدّعي أن طريق الفشل مُكلل بالنجاح. يحب جمهور الشابكة هذا: كبوة تتلوها نهضة؛ المثابرة التي تقود نحو العظمة. ستجني ثمرة جهودك بعد معاناة، وكلما زادت معاناتك، كانت الثمرة أشهى.

أكره تلك القصص!

لا تخبرني كيف ستكون العاقبة حميدة، لا تعنيني قصة (جيه كيه رولينغ J.K. Rowling) تخربش كتابها الأول عن هاري بوتر في المقاهي، وهي أمّ عازبة، عاطلة عن العمل وتعتمد على الرعاية الاجتماعية. فقصص كهذه مفيدة فائدة إعلانات اليانصيب لمن يودّ التخطيط لتقاعده!


شخصيًا، لطالما ارتحت لفكرة أن الفشل يشكّل جسد حياة الكاتب، والنجاح لا يعدو عن كونه رداء مؤقت. غير أنني اتسائل حول قضية شغلت بال الكتّاب، على مر الأزمنة: هل نعيش عصرًا رديئًا لأي كاتب، أم أننا نشعر بذلك فحسب؟

جزء من المشكلة، بالنسبة لكتّاب جيلي على الأقل، هو أننا نعيش تبعات مرحلة سيئة:

  • أدى السلام والازدهار النسبيان في فترة ما بعد الحرب لولادة مجموعة من المؤسسات الأدبية التي كانت في حالة تدهور مُدار منذ ذلك الحين.
  • ينتشر الفشل بسبب التغيرات التكنولوجية والاجتماعية الخارجة عن سيطرة أي شخص.
  • تمرّ الكتابة في عصرنا بمرحلة انتقالية مستمرة لا هوادة فيها، إذ يحتضر أحد أنماط الكتابة (المطبوعة) ويولد آخر (الرقمية).
  • وفي عصر الكتابة الرقمية، تظهر مشاريع واعدة من المعاني ثم تذوب أو تتعفن أو تشتعل، مُخلّفة الرماد والذكريات غير المؤكدة للوميض الساطع.

إذا أراد الكتّاب الشباب الاستمرار، فيتعين عليهم مراجعة هويتهم عدة مرات. خاصةً إن أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة التالية:

ستختفي، في غضون بضع سنوات، أنماط التعبير التي يتعلمونها الآن، والهويات الكتابية التي يتوقون لعيشها!

كيف كانت حياة الكاتب خلال القرن الماضي.. استثناءً؟

مع الاضطراب الشديد وكثرة المؤسسات المتعفنة في عصرنا، ستفيدنا العودة للمعيار التاريخي. لذا، في المرة التالية التي تخسر خلالها منحة، تذكر الكاتب الإيرلندي (جيمس جويس James Joyce).
في عام 1912. كان “جويس” قد بلغ لتوّه الثلاثين من عمره. حيث يعيش -مع زوجته نورا بارناكل “Nora Barnacle” وطفليهما- في منفى اختياري في إيطاليا، حين بدأ صاحب المنزل يهدد بطرده بسبب الإيجار المتأخر.

بدافع اليأس، تقدم بطلب لتوظيفه كمدّرس لغة إنجليزية في كلية مهنية محلية، لكنه افتقر للمؤهلات، ما قاده لأخذ دبلوم تدريس في مدينة بادُفة (3 أيام من التدريب، يليها امتحان شفوي).
يروي لنا التاريخ الأدبي قصة جويس، وكيف كتب -في هذه المرحلة- مجموعته القصصية “أهالي دبلن Dubliners” وجزءًا من روايته “صورة الفنان في شبابه A Portrait of the Artist as a Young Man“، ليثبت للمسؤولين في الكلية أنه يتقن اللغة الإنجليزية.

ببساطة، لم ترتبط قدرات الكتاب ومهنهم!

نوع فريد من السخرية ما قاد حياة الكاتب (هرمان ملفيل Herman Melville) العملية. كان كتابه الأول “Typee : A Peep at Polynesian Life” محض هراء وأحد أعلى الكتب مبيعًا. في حين بلغ الفقر منه حدّ عجزه عن نشر رائعته وآخر رواياته “البحّار الوسيم Billy Budd” [إذ ظلّت على شكل مخطوطة، ولم تنشر إلا بعد عقود على موته]!

“على الرغم من أنني كتبت أناجيل هذا القرن، إلا أنني سأموت في مزراب”.

من شكوى (هرمان ملفيل Herman Melville) لمرشده (ناثانيال هاوثورن Nathaniel Hawthorne)

كلما عدنا بالزمن، تجلّت قوة الفشل!

كتب الفيلسوف الروماني (بوثيوس Boethius) في القرن السادس الميلادي:

“أعتقد أن الحظ السيئ أكثر فائدة للمرء من حسن الحظ. فالأخير يجلب السعادة دائمًا، لكنه يخدعك بابتسامتها، في حين دائمًا ما يكون الحظ السيئ صريحًا لأنه -عبر تغيّر الأحوال- يظهر تقلّبات الحياة على حقيقتها”

وإن قال بوثيوس ذلك، فعليك تصديقه؛ إذ كتب “عزاء الفلسفة” بعد أن أدى تلفيق تهمة تآمره على الملك القوطي ثيودوريك لسجنه والحكم عليه بالإعدام.
كان -حتى تلك اللحظة- شخصًا محظوظًا، وعضوًا بارزًا في عائلة أرستقراطية، وأوصله نبوغه ليغدو رئيس الخدمة المدنية الرومانية بأكملها لفترة. إنما فقط بعد سقوطه استطاع أن يكتب “العزاء”!
وفقًا لبعض الروايات، عذّبه سجّانه بطريقة وحشية قبل أن يضربه حتى الموت. هل تتخيل حظًا سيئًا يفوق ذلك؟!

سقراط وكونفوشيوس ويسوع: إخفاقاتهم الأعمق، والأكثر شمولية!

  • لم تحرر قدرات الفيلسوف العظيم الكلامية حياته من حكم الإعدام.
  • شغل أكبر باحث في السياسة العملية منصبه لفترة وجيزة ولم يتمكن من الحصول على وظيفة.
  • قد يكون فشل المسيح الأعظم في التاريخ: إذ بشّر بالحب، فكانت عاقبته خيانة أصدقائه، وانقلاب شعبه عليه، والصلب.
    ليأتي تلاميذته -بعد وفاته- فيجمعوا تعاليمه في حفنة سير ذاتية تتعارض مع بعضها، وتُستخدم هذه النصوص، من بين أمور أخرى، لتبرير الإمبراطوريات الوحشية.
    واليوم، بعد ألفي عام، أصبح للمسيح أكثر من ملياريّ معجب مخلص. يجتمعون، أحيانًا أكثر من مرة في الأسبوع، ليقرؤوا نصوصه بصوت عالٍ لبعضهم البعض!

هل تتضمن حياة الكاتب أي قواعد؟

تحظى قوائم قواعد الكتابة -على غرار قواعد الحياة- بشعبية كبيرة، وتمنح كلتاهما -على ذات القدر أيضًا- إحساسًا مريحًا بالقوة.
بعض تلك النصائح جيدة، مثل نصائح (إلمور ليونارد Elmore Leonard):

  • “لا تفتتح أبدًا بالحديث عن الطقس”
  • “تجنب المقدّمات”
  • إياك أن تستخدم فعلًا غير “قال” في حوار.
  • قننّ استخدام اللهجة العامية والدارجة.

في حين بعضها الآخر بديهيات أو خارجة عن إرادتك؛ على غرار نصيحة الروائية الإنجليزية (زادي سميث – Zadie Smith) غريبة الأطوار::

“تأكد من قراءة عشرات الكتب.. [في طفولتك!]”

وربما كانت نصيحة مارجريت أتوود التالية شديدة الغرابة (لكنها تظلّ أكثر عملية)::

“قبل أي قراءة، اجلب قرص *Fisherman’S Friend”

*) مُستحلب بالمنثول، شديد التأثير، يُستخدم للآلام المزمنة

ونختم بنصيحة (جيمس بالدوين James Baldwin):

"اكتب.. ابحث عن طريقة للبقاء على قيد الحياة والكتابة. لا شئ آخر ليقال. إذا كنت ستصبح كاتبًا، فلا يوجد ما يمكنني قوله لإيقافك. وإذا لم تخلق لتختبر حياة الكاتب، فلن يساعدك أي شيء"

يُسدي الكتاب الجيدون النصائح، أما العظماء فيقدمون .. التعازي!

الكتّاب كائنات غريبة بإخفاقاتهم الناجحة ونجاحاتهم الفاشلة. إن جلودهم رفيعة للغاية بحيث يمكنك حملها أمام الضوء والرؤية من خلالها!

ختامًا، أدعوك لسماع رأي الكاتب الشهير تشارلز بوكوفسكي في كُتّاب عصره!

ستلاحظ في الفيديو تركيز (بوكوفسكي) على انتقاد مواطنه “مالكولم لوري” الذي عانى مشكلة لا يُستهان بها؛ الرواية الواحدة: العمل الناضج الذي يبقى عالقًا بأذهان الناس لفترة طويلة، ولا يهم إن كتب بعده شيئا أو لم يكتب!

لماذا حياة الكاتب بؤسٌ دائم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى