في بدايات حياتي المهنية، صادفت فكرة من مرشدي، كريس أرجيريس Chris Argyris، غيرت إلى الأبد الطريقة التي نظرت بها إلى نفسي ومن حولي:
كيف؟!
نجول في عالم ينضح بمَن يمتلكون رؤى وحكمة تساعدنا شخصيًا ومهنيًا. ولكن في سبيل اكتسابها، يتعين علينا تقبّل وطأة عدم المعرفة. وذاك ما لا يحدث!
فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، عملت مستشارًا لكبار المديرين التنفيذيين في شركات (فورتشن 500 Fortune) في جميع أنحاء العالم، وأشرفت على تدريب آلاف المدرّسين، وأدرت فرقاً من الأشخاص ذوي خلفيات ومهارات متنوعة، حتى أنني بنيت منظمة ناجحة من الصفر. ورأيت -مرارًا وتكرارًا- فشل الناس في التعلم من المحيطين، وتكلفة [هذه المشكلة] على العلاقات والفرق والمنظمات.
لكنني رأيت -أيضًا- كيف تنفتح آفاق جديدة كليّة، من التعلم والحكمة والتواصل، عندما يتغلّب الشخص على خجَله من الجهل.
لقد وصف القادة الذين عملت معهم الراحة الهائلة التي أحسّوها عندما تمكنوا أخيرًا من كسر الأنماط الراسخة، وشاهدت العلاقات تتحول من مصادر للنزاع والقلق إلى شعلة من التفاهم المتبادل.
وعلاوة على ذلك، اكتشفت أن تعلم ما يفكر فيه الآخرون حقًا ويشعرون به ويعرفونه هو مجموعة مهارات عملية-يمكن لأي شخص تعلمها وتطبيقها على حياته- في العمل، وفي المنزل، وفي مجتمعاته.
هل أنت جاهز لتزيد من وعيك الذاتي، وتتخذ قرارات أذكى، وترفع مستويات العمق والمعنى في علاقاتك؟
فضّل الفضول
ما لن تكن فضوليًا حقًا حيال ما تجهله، فلن تطرح أبدًا الأسئلة التي تحتاج إجاباتها. إذ يروي كل منّا لنفسه -باستمرار- قصصًا عن حياته وحيوات الآخرين:
- “لا يرد صديقي على مكالماتي لأنه غاضب منيّ. ولا أعرف السبب”
- “يصرّ زميلي في العمل على تفويت المواعيد النهائية لأنه يفترض أنني سأغطي عنه”
ندور في حلقة مفرغة، ونُدخل أنفسنا في حالة من الاضطراب والغضب والقلق، ومتيّقنين تمامًا من وجهة نظرنا لدرجة أننا لا نتسائل عمّا قد يغيب عنّا.
يساعدنا تفضيّل -أو اختيار- الفضول على الخروج من حلقات اليقين هذه. إذ نفضّل الاستسلام لليقين عوض اتباع الفضول نتيجة مزيج من التحيزات النفسية والتكييف الثقافي الذي يُشعرنا براحة أكبر عند تمسكنا بما نؤمن بمعرفته.
ما المشكلة؟
ننسى أن القصة التي نرويها لأنفسنا ليست سوى واحدة من ضمن عشرات الاحتمالات، وربما تختلف قصتنا تمامًا عن قصة شخص آخر. يكسر الفضول هذه الحلقة ويمنحنا فرصة كافية للتريّث والتفكّر فيما لا نعرفه بعد.
لذا، في المرة القادمة التي تجد نفسك “متيقنّا”، حاول ضخّ بعض الفضول في تفكيرك:
- ما المعلومات حول الشخص/الموقف التي ربما تتجاهلها؟
- هل ثمّة احتمال أنك تساهم -عفوًا- في المشكلة التي تقلقك؟
- ما التحديات التي ربما يواجهها الشخص الآخر، لكنك لا تراها؟
تُثير مثل هذه التساؤلات فضولك الحقيقي، فتحفزك على اكتشاف علم وحكمة الآخرين.
كُن مأمون الجانب
أثبتت عقود من الأبحاث التي أجرتها أستاذة كلية هارفارد للأعمال (إيمي إدموندسون Amy Edmondson) وآخرون أن شرط انفتاح الشخص للحديث معك، تيقّنه من عدم حكمك عليه أو إحراجه أو معاقبته على صراحته. وتزداد أهمية ذلك مع تباين مساحات الاختلاف بينكما، مثل العمر أو العرق أو الجنس؛ إذ تزيد من المخاطر (الحقيقية أو المتصورة) للمصارحة.
ماذا لو تفاعلت سلبًا -أو انتقاديًا- في أحاديث سابقة؟ لا بأس.. ابذل جهدك لتكون مأمون الجانب من الآن فصاعدًا.
ومع ذلك، فربما عانى محدثك -سابقًا- من العار أو العقاب من الآخرين للتحدث بصراحة، ولا يزال يشعر بعدم الأمان على مستوى ما.
هنا، يسهل أن تشعر بأنه “يجب” أن يستأمنك، لكن الأكثر فعالية: اتخاذك خطوات إضافية للتأكد من شعوره بالأمان فعلًا.
كيف تمنح محدثك الأمان؟
أخبره أنك قادر على التعامل مع أي شيء يقولونه -وهذه الجزئية جوهرية- ولن تحمله مسؤولية أي ردود فعل عاطفية تنتج عن مصارحته؛ السبب الأول لتكتّم الناس على المصارحة: خوفهم من إيذائك أو إزعاجك أو إغضابك.
وعبر كشف هذا الخوف وتهدئته -سلفًا- يتشجّع الشخص لبدء الإفصاح عن مكنوناته. إنما تذكّر: بمجرد أن تقطع هذا العهد، وجب عليك الوفاء به.
اختبرت ذات مرة قوة هذه العملية أثناء اجتماع تقدم العمل [Progress Meeting] مع مستثمرة. وقبيل استعراضي المستجدات، بادرت بقولها أنها لا تتوقع أن تكون الأمور مثالية، فترغب بالفعل معرفة أي الجوانب لم تسر كما خُطط لها في المشروع. أذابت مبادرتها كل افتراضاتي لما أرادت سماعه ومنحتني الأمان لمشاركة معلومات “أقل بريقًا” معها؛ معلومات بالغة الأهمية لفهم الصورة الكاملة لحالة المشروع.
والنتيجة؟ ختمنا الاجتماع بإحساس أكثر واقعية بحالة المشروع، علاوة عن توطيد أواصر الثقة أكثر.
طرح أسئلة نوعية
بعدما أسسنا للثقة، آن أوان بدء طرح الأسئلة.
لسوء الحظ، يطرح معظمنا أسئلة أقل بكثير مما ينبغي، وغالبًا ما تكون أسئلتنا مدفوعة برغبة أخرى عدا التعلم والفهم وتلقي الحكمة، مثل الإقناع أو الإثبات أو اللوم أو حتى مهاجمة الشخص (حتى لو لم ندرك).
لا تقدّم الأسئلة محصورة الإجابة بنعم أو لا (“هل تتفق معي؟”) أو التي تضع الشخص في موقف دفاعي (“ماذا دهاك؟”) أي معلومات قيمة، عدا عن احتمالية أن تُنهي المحادثة أصلًا.
على الطرف الآخر
- تساعدك الأسئلة النوعية على التعلم من الآخر. إذ تدلّ على الفضول الحقيقي، وتعكس نية صادقة للتعلم من حكمة الشخص وفهمه، عوض إثبات وجهة نظر أو التأثير عليه أو إصلاحه.
- تعزز الصدق لكونها واضحة ومباشرة، دون أجندة بديلة.
- تستثمر الأسئلة النوعية قصة الشخص الآخر في تسليط الضوء على المعاني والدوافع والعواطف والخبرات الجوهرية.
- تخدم الأسئلة النوعية مجموعة أهداف متنوعة. إذ تساعدك على تبيان ما يكترث الشخص لأجله حقًا (ما الأكثر أهمية بالنسبة لك في هذا الموقف؟) أو إبراز المنطق وراء معتقداته/أفعاله (هلّا شرحت لي آلية تفكيرك؟).
- يمكنك استخدام الأسئلة لطلب مشورة الشخص في حل مشكلة ما (أشعر أنني عالق. هل يمكنك مساعدتي في التفكير؟) أو إيجاد الثغرات في تفكيرك (عمّا أغفل برأيك؟).
لا بدّ من فهمك هدف سؤالك قبل اختيار التساؤل المناسب.
استمع لتتعلم
تحدد كيفية استماعنا مقدار ما نتعلمه ومدى عمق ارتباطنا.
وفي حين يؤمن 96% منّا أنهم مستمعون جيدون، وجدت الأبحاث أننا نسمع (ونسنذكر) جزءًا ضئيلًا فقط مما يقوله الآخرون! يسهل أن تشعر وكأنك تستمع، بينما ما تفعله -حقًا- الانتظار بهدوء حتى يحين دورك للرد، أو التنقيب في كلمات الشخص بحثًا عن ثغرات يمكنك استخدامها للدفاع عن نفسك أو دحض حجته.
كلما ضبطت نفسك تفعل ذلك..
ذكّرها بهدفك الوحيد: فهم ما يحاول الشخص مشاركته معك. يجب تنحية كل ما عدا ذلك -حتى أفضل حججك المضادة- جانبًا لتحرير مداركك؛ التي تحتاجها لإدراك مستويات المعنى المتعددة في آنٍ معًا.
يستمع معظم الأشخاص عبر مسار يتيم: محتوى ما يقوله الآخرون. لكن إن أردت الاستماع للتعلم حقًا، عليك الانتباه إلى مسارين إضافيين:
- الشعور: المشاعر والاحتياجات والرغبات الكامنة وراء الكلمات.
- السلوك: ماذا يحاول الشخص فعله بإخبارك بهذا؟ وما الذي يحثّك على فعله؟
يمكنك فهم ما يحاول شخص ما التعبير عنه بشكل كامل عبر الانتباه إلى المسارات الثلاث في ذات الوقت.
مؤخراً، خاضت صديقتي (آنا) محادثة عصيبة مع زميلتها؛ خلّفت داخلها انزعاجًا وغضبًا كبيرين. ولحسن الحظ، كانت قد سجلت المحادثة (بإذن منها بالطبع)، لذا أوصيتها بالعودة والتركيز على الشعور والسلوك. وقد صُدمت (آنا)؛ كانت شديدة التركيز على محتوى انتقادات زميلتها فلم تلحظ نبرة الخوف في صوتها وأن ما أرادته حقاً لم يكن انتقاد آنا، وإنما الطمآنة أنها لا تزال مرتبطة بالمشروع.
بمجرد فهمّ (آنا) مقصد زميلتها الحقيقي، تمكنتا من إجراء محادثة أكثر إنتاجية والتعاون في المشروع على أسس أقوى.
التأمل والتواصل
أخيرًا، عليك التعامل مع المُدخلات السابقة بطريقة تسمح لك حقًا بالتعلم وتلقي الحكمة. ربما تتحمس للمبادرة بالإصلاح أو الحل أو حتى الاعتذار. ولكنه -في الحقيقة- آوان التريّث؛ حتى تتمكن من التفكّر فيما سمعته ومعانيه.
كيف؟
اسأل نفسك 3 أسئلة:
- كيف لما سمعته أن يُصحح نظرتي/قصتي حول الموقف؟
- بناءً عمّا سمعته، ما الخطوات التي يمكنني اتخاذها؟
- كيف لما سمعته أن يتحدى وجهات نظري العميقة للعالم أو افتراضاتي أو أسلوب حياتي؟
بمجرد التأمل، شارك ما تعلمته وما تخطط لفعله مع الشخص.
تشكّل الخطوة الأخيرة -بشكل عميق- مستقبل علاقتكما.
عندما يخاطر شخص ما بمشاركة أفكاره/مشاعره الصادقة معك، فيودّ معرفة أن ذاك استحق العناء. فإن غاب التواصل، فقد يشعر الشخص بعدم التقدير أو الأسوأ من ذلك: بأنه ضحية استغلال. في حين أنك عندما تشاركه ما تعلمته، تفتح الباب أمام صِلة أعمق وتعلم مستمر يعود بالنفع على كليكما.
عندما عادت (آنا) لتشارك ما تعلمته من محادثتهما وآثر ذلك عليها، تأثرت زميلتها وأفصحت عن آمالها العظيمة بالمشروع ورغبتها في مواصلة الشراكة مع آنا. ومن هناك، تمكنا من إجراء محادثة أكثر إنتاجية (وصدقًا) حول الجوانب الرئيسية التي أرهقهما التوافق عليها سابقًا. غادرت كلتاهما قاعة الاجتماعات وهما تشعران بأن صوتهما مسموع، مع تحفزهما لمواصلة العمل والتعلم معًا.
هذه الخطوات قوة خارقة
يمكن لأيّ منّا استخدامها لإحداث تحول في علاقاته وإطلاق العنان للتعلم وتلقي الحكمة والنمو غير المسبوقين في كل مجالات حياته.