السعادة على طريقة فيليب بريكمان [5]

العلاج السلوكي المعرفي

توقفنا في الجزء السابق عند سؤال عما إذا وُجدت أي حالات انتحار في عائلتي /والحديث لكاتبة المقال/.

نعم، أخبرت السائل، زارنا طيف الانتحار.

رغم أنني كنت محظوظة كفاية بالتحرر من اللعنة؛ لم أكن من ضمن 4.8% من البالغين الأميركيين الذين فكروا جدياً في إنهاء حياتهم في عام 2019. لكن اثنين من أجدادي الثمانية مات منتحرًا، كما قلت، واحد من كل جانب من الأسرة.

ترك أحدهم رسالة مفادها أنه مصاب بالسرطان وسممّ نفسه بالغاز. أثار ذلك بعض الغموض والجدل. لكننا شبه متأكدين أنه لم ينتحر نتيجة الاكتئاب الساحق.

والآخرى؟ ترددت أثناء إجابتي السائل:

قفزت من سطح أحد المباني في بروكلين

لم أفكر في هذا ولو لمرة، على الأقل بشكل واعٍ، أثناء تواصلي مع أصدقاء بريكمان وزملائه وعلاقاته. لقد استحوذ جدي الأكبر الآخر على كل تفكيرنا المتعلق بالانتحار العائلي. حيث تناقشنا -أنا وأمي- أكثر من مرة ما إن عانى سرطانًا حقيقيًا، أم اكتئابًا تخفى وراء تفسير اعتبره جدي الأكبر أقل خزيًا.

أما عن جدتي الآخرى، فلم يكن هناك أي لَبس؛ قفزت.
كان ذاك -تقريبًا- الشيء الوحيد الذي عرفته عنها.

لكلٍ منّا سبيله في دراسة نفسه

خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، نشر ثلاثة اقتصاديين ورقة بحثية أضافت المزيد من الفروق الدقيقة والإثارة إلى دراسة اليانصيب، وأظهرت أن الفائزين في مجموعة متنوعة من اليانصيب السويدية قيّموا -بالفعل- رضاهم الإجمالي عن حياتهم بشكل أعلى، حتى بعد مرور عقد من الزمان، مما فعلته مجموعة مراقبة.
وأشار الباحثون إلى أن ذلك لم يرتبط بسعادتهم اليومية (إذ لا يبدو أن ذلك يُظهر تغيرًا ذا دلالة إحصائية). لكنه أثّر على التقييم العام لحياتهم.

ربما كان الكاتب المسرحي ريتشارد جرينبرج “Richard Greenberg” على حق:

لا يشتري المال لك السعادة.

لكنه يخفف وطأة اليأس.

شكّلت هذه الدراسة إضافة مرحب بها لمجموعة الأدبيات المتنامية حول العلاقة بين المال وجودة الحياة. ربما كان حجم العينة البحثية التي اختارها بريكمان صغيرًا بشكل هزلي، والمجموعة الضابطة اُختيرت من دليل الهاتف! لكن هناك جزء من دراسة بريكمان -أقل شهرة بكثير، وأقل مناقشة بمراحل- أعود إليه، بعناد في رأسي، كلما فكرت في بريكمان.

“هل تعلم أكثرهم تفاؤلًا؟”

سُئلت المجموعات الثلاث عن شعورهم في غضون عامين:

  • ضحايا الحادث
  • الفائزون في اليانصيب
  • المجموعة الضابطة.

ومن بينها، كان [ضحايا الحادث] أصحاب قدر التفاؤل الأوفر.

ومع ذلك، بطريقة أو بأخرى، عجز بريكمان عن التفاؤل. وفي نهاية حياته، كان الدرس الأهم من بحثه الأشهر هو ما استطاع معرفته.. لا استشعاره. سألت تلميذه (كوتس) عن هذا. وقال أن نظريتي تتفق مع فكرة ناقشها مع بريكمان مطولاً. حتى أنها تظهر في كتاب بريكمان نفسه.

وأوضح:

«عندما يكون الاكتئاب فعّالًا فعلًا، فيكون ألمه مفيدًا، لأنه يهبّط من خط الأساس لديك، بحيث تكون على استعداد لقبول بدائل لم تكن لتقبلها من قبل. ومن ثم يمكنك البدء في بناء علاقات جديدة وأغراض جديدة ومعاني جديدة. للزواج مرة أخرى، على سبيل المثال. أو العثور على وظيفة جديدة.

ثم يعقّب : “ذاك الجزء الذي يحيرني؛ لماذا لم يدرك (فِل) أنه -في النهاية- سيتغلب على ألمه؟”

ربما يكون سؤاله الأكثر ارتباطًا بمن يموت منتحرًا. لماذا يعتقد أنه محاصر في حاضر دائم لمعاناته؟

لو تمكن الحائز على زمالة ماك آرثر، (ماثيو نوك Matthew Nock)، أو أي طبيب نفساني آخر من الإجابة على هذا السؤال، لما كان الانتحار عاشر أسباب الوفاة في الولايات المتحدة!
ولكن في الوقت الحالي، تظل القناعة بأن الألم غير قابل للعلاج إحدى السمات المميزة للانتحاري.

استشهد (نوك) بورقة بحثية كلاسيكية في علم النفس تسمى “الألم يتطلب الانتباه“، وهي واضحة ومباشرة للغاية:

 يركّز الذين يعتصرون ألمًا على الحاضر، لأن آلامهم تشتت انتباههم حدّ توقف تفكيرهم في أي شيء آخر. ويواجهون صعوبة أكبر في تذكر الماضي، عندما لم يكن هذا الألم الفظيع موجودًا.

ومن أجل التفكير في المستقبل“، يُعقّب نوك، “عليك أن تعيد تجميع ذكريات الماضي بمرونة“.

العلاج السلوكي المعرفي

ماذا تفعل، كطبيب أو فرد أسرة، عندما تواجه مثل هذه المعاناة؟ كيف تراهم من خلالها؟

تساعد المريض على توليد أفكار حول المستقبل بتفاصيل ملموسة ومحددة.
تُشير، باستخدام أرقام محددة، إلى عدد السنوات التي عاشوها دون أفكار انتحارية، مقابل التي راودتهم خلالها مثل هذه الأفكار.

يمكنك مساعدتهم في العثور على العلاج؛ العلاج السلوكي المعرفي المثالي، وجرّهم إلى الجلسات إذا استلزم الأمر. بهذا تسلبهم قدرتهم على قتل أنفسهم. وتحاول أن تبقيهم آمنين.

وقد لا تنجح هذه الجهود. يمكن تحديد الأشخاص الانتحاريين، وهم يعرفون كيفية الإدعاء، والتظاهر بالاستقرار. لكن عليك المحاولة.

يرتاح معظمهم عندما يفشل. وما يقرب من نصفهم، وفقًا لأحدث الأبحاث، لن تراودهم الرغبة في الانتحار في ذات التوقيت من العام التالي، أو مرة أخرى أبدًا.

أعماركنّ -أنتِ وأخواتك- 6 و 10 و 13 سنة

العالم يلفّه الظلام. وإذ بسيارة شرطة تتوقف في مَدرج المنزل، ليخرج منها ضابط ويقرع جرس الباب، ثم يسأل عن والدتكِ.
لكنها ليست في المنزل، بل في اجتماع رابطة الآباء والمعلمين

تتجهين مع أخواتك إلى أسرّتكن. وتعود والدتك في النهاية، ليُنقَل الخبر إليها؛ في صباح اليوم التالي، تخبركِ أن والدكنّ ميّت: لقد قفز من أعلى مبنى.

نشأت بنات بريكمان على يد أحد أكثر الرجال توجهاً نفسياً في جيله. ولكن بعد وفاته، لم تحدث أرملته بناتها عن والدهن أبدًا. لم يعد يُذكر اسمه حتى، ولم تُناقش وفاته، ولم تزر الفتيات قبره قط.

العلاج السلوكي المعرفي


أخبرتني ابنته الوسطى/سارة:

“كانت الوالدة الوحيدة المتبقية. ولم تكن معينًا يساعدنا في معرفة أو حب الأب الذي تخلى عنّا للتو”

دفنوا ما لديهم من أسئلة ومشاعر تحت شاهد قبر منفصل.

تعاني الكبرى، راشيل من مرض باركنسون “Parkinson”، وتعيش مع أختها الصغرى كاثرين.
الكلام بالنسبة لها مؤلم ومجهد، لكن الشيء الوحيد الذي حاولت إيصاله: أن والدتها بذلت قصارى جهدها لرمي هذه الحادثة خلفها. وعندما أصبحت ممرضة بعد سنوات، أخبرت زملائها أن زوجها توفي بالسرطان.

ربما كانت كاثرين -الابنة الصغرى- الأقرب إلى والدها. لقد شعرت باكتئابه حتى عندما كانت طفلة صغيرة –كانت غَباشة من الحزن حوله– وحاولت مساعدته، بطريقتها الخاصة؛ سمحت له عمدًا بالفوز في ألعاب الورق.

وعلى مدى 21 عامًا، جابت العالم حاملةً سوء فهم شائع لدى الأطفال الذين يشهدون محنة والديهم: أن انتحار والدها كان بسببها، وأنه توجّب عليها إنقاذه.

ثم، في السابعة والعشرين من عمرها، أدركت أخيرًا:

“أراد مغادرة العالم، وذاك حقه. لم يكن الأمر يتعلق بي.”

تدفع الابنة الوسطى الثمن الباهظ دائمًا

أخبرتني (سارة) أنها في سن الرشد، ظلّت تلتقي رجالًا منكسرين بطريقة ما ويحتاجون لمن ينقذهم.
وإن كانت لا تذكر سوى القليل عن والدها، إلا أن الذكريات التي تحتفظ بها هي ذكريات قاتمة ومؤلمة: كان يتوسل إليها أن تسأل والدتها عما إذا كانت لا تزال تحبه، على سبيل المثال، لأنه لا يزال يحبها، “فهل ستخبرين والدتك بذلك“؟

أو: الجلوس في مكتبه في معهد البحوث الاجتماعية -ربما في الطابق السادس- وسؤاله عما سيحدث لو سقطتَ من النافذة؛فللمكان نوافذ كبيرة!

لا تتذكر رده. لكنها تعلم فقط أنه ذهب -بعد ذلك بوقت قصير- إلى أعلى مبنى في المدينة.. وقفز.

سألتها إذا كان هذا يعني أنها أمضت السنوات الثماني والثلاثين الماضية معتقدة سرًا أنها تسببت في مأساة عائلية. كان ردّها فوريًا: لا، ليس حقًا؛ علمت أن والدي حاول الانتحار من قبل.

ولكن .. عقّبت معترفةً “لو كنت كذلك.. فيا له من وغد! هل ظنّ أن ذلك لن يؤثر علي سلباً لبقية حياتي؟” بكت عندما قالت هذا. وبررت أنها لأول مرة في حياتها تفصح عن هذه الفكرة علنًا.

لكنها “حمائية” لوالدها، وأكثر غضبًا على والدتها لأنها حرمت الأطفال من اختبار الحِداد على والدهم.
ومنذ حوالي 10 سنوات، بدأت أخيرا في التحقيق في هوية والدها، وتعقّب زملائه السابقين. لقد أذهلت عندما اكتشفت مدى تأثرهم بوفاته.

قالت لي بصوت منكسر:

“لم أعلم قط كم كان نجمه ساطعًا. لطالما ظننته مجرد.. نَكرة”

ماذا يخلّف المنتحرون لأحبائهم؟

صحيحٌ أن المنتحرين يهربون -أخيرًا- من طغيان الحاضر المروع، لكنهم ينقلون هذا الطغيان للأحياء وراءهم. يقضي هؤلاء سنوات.. وعقودًا، وربما العمر بأكمله، في تخيل اللحظات الأخيرة للمنتحرين، وتخمين دوافعهم، وتوبيخ أنفسهم على ما كان بإمكانهم فعله.

الذنب الذي لا يمكن تسويته” بحسب تعبير د. كي ريدفيلد جايمسون.

قد يكون لدى الأطفال نسخة من القصة. لكن نسخة الكبار مختلفة.

أخبرتني جولي بريكمان، وهي امرأة ودودة ومتفهمة (عملت ذات يوم معالجة نفسية، والآن هي روائية)، أنها استغرقت عقدًا من الزمن حتى تتوقف عن تخيل كيفية صعود شقيقها إلى سطح برج بلازا.

“ما زلت أريد أن أرى كيف وصل إلى هناك”.

سألتها كيف تعاملت مع طاعون الارتجاع والندم الذي أصاب معظم الناجين: ماذا لو فعلت كذا، ماذا لو فعلت كذا؟ أخبرتني عن أفيد شيء تعلمته بعد سنوات من العلاج، وهو إلهام أنيق وبسيط: استبعاد الانتحار من المعادلة.

“عليك أن تسأل نفسك: لو استمرّت الحياة فحسب” -أي لنفترض أن الشخص لم ينتحر- “هل فعلت أي شيء فظيعًا؟ والجواب، في 95% من الحالات، لا. لم أفعل.”

عندما رأت جولي شقيقها آخر مرة، عاملته بحب ودعم ولطف.

ترددت أصداء وفاة بريكمان بطرق شتى مع زملاء وطلاب مختلفين. ولكن لم تترك أي منهم دون آثر؛ تخلت (رابينوفيتش) عن عملها في مجال المساعدة والتأقلم.

ترك (كوتس) المجال الأكاديمي تمامًا وذهب للعمل في إدارة المدارس العامة في سانت لويس وضواحيها. وقال:

يا إلهي! إذا انتهت هذه المهنة بموته وكان أفضل مني بكثير في ذلك، فماذا ستفعل بي؟”

من ناحية أخرى، اعتنقت (كامليا وورتمان) محنتها، فتعلمت كل ما في وسعها حول الوقاية من الانتحار؛ تدّرس فصلًا دراسيًا حول الموضوع كل عام، وتٌهديها لبريكمان، وركزت بحثها على كيفية تعامل الناجين مع الخسارة المفاجئة لأحد أفراد العائلة أو الأصدقاء.

أتيحت للباحثة (روكسان كوهين سيلفر Roxane Cohen Silver)، التي تناولت الموضوع سابقًا، فرصة مشؤومة ولكنها مفيدة لاختبار فرضياتها حول الشدائد بشكل مباشر. كانت وفاة (فِل بريكمان) أول حدث مأساوي حقيقي لها. كان عمرها 26 سنة.

قالت لي:

“لقد ساعدني ذلك على ترسيخ وجهة نظري؛ لا يعني التصالح مع الخسارة -بالضرورة- أن على المرء فهمها”.

لكن هذا لا يعني نسيانها!

تقول سيلفر: “في كل مرة تحدثت أنا وكاميل، فكل ما يدور حوله الحديث هو فيل. كنت منغمسة في التفكير عنه: لماذا وكيف فعل ذلك وهل ندم على فعلته بعد أن قفز؟

لماذا كانت تفكّر في هذه الأسئلة “لقد كانت تلك الأشياء التي كنا نتحدث عنها أنا وفيل.

لقد كان موضوع فيليب بريكمان المفضّل:

رجل يقف على سطح أحد المباني الشاهقة ويشعر باليأس. وهو يشق طريقه نحو الحافة. وبعد مرور بعض الوقت... ثواني؟ دقائق؟ ساعات؟ لا أحد يعلم.. يقرر القفز. هل ذاك التزامه النهائي. أم أنه -أصلًا- رفض لجميع الالتزامات؟!
مهما كانت الإجابة، هل شعر الرجل أنه على حق؟ هل استفاد؟ أم أنها اكتشف فجأة: يا إلهي، كانت هناك بالفعل طريقة أخرى؟

هل كان اختيار بريكمان صائبًا؟

فقط لو كان موجودًا لمناقشة الأمر. لمن الفظيع أن بريكمان ليس كذلك. لا يمكنك إلا تخيّل أن ثمّة الكثير ليقوله.

تذكير بالمصدر: Opinion | Happiness Won’t Save You – The New York Times

السعادة على طريقة فيليب بريكمان [5]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى