كتب الفيلسوف البارز مايكل هويمر “Michael Huemer” -مؤخرًا- مقالًا رائعًا عمّا أسماه “أخلاقيات هوليوود Hollywood morality”: إطار أخلاقي مُبهِج، صممته هوليوود ليوائم ابتكار قصص مُشبعة عاطفيًا، ولكنه ينهار عندما يواجه تعقيدات العالم الحقيقي.
في المقال، يركز (هويمر) على مفاهيم مثل الدفاع عن النفس والانتقام، كما يقدّم ملاحظات نقدية واضحة
في قصص الأبطال الخارقين، غالبًا ما يتمكن البطل من الانتصار -بمشّقة- بعد صراع مميت ضد الأشرار الخارقين. والذين نراهم أشخاصًا فائقي الخطورة-هربوا للتوّ من السجن- ويتمتعون بقوى مدمرة.
وأخيرًا، من الجليّ تمامًا أنهم ما إن تسنح الفرصة، سيقتلون المزيد من الأبرياء.
في هذه الظروف، لن يفكر الرجل “الصالح” أبدًا في بتر الخطر بقتل الشرير الخارق؛ لأنها جريرة.
في النهاية، يصرّح هويمر، بأسلوبه الصريح المعهود، أن النظام الأخلاقي في هوليوود، وبالتالي معتقداتهم السياسية..
مناسبة للعوالم الخيالية التي صُممت لتُرضينا، ولكنها غير مناسبة للعالم الحقيقي.
أراه موضوعًا يستحق الحديث عنه؛ إذ مرّت أوقات كانت المؤسسات الدينية -أو غيرها من مؤسسات مجتمعية- مصدر العديد من قيم البشرية وتوقعاتها الاجتماعية. ولكن أرى أن أنواع الوسائط الرقمية المختلفة، على مر السنين، تدّخلت لتلعب هذا الدور، ويبدو دورها اليوم أكبر بكثير في تشكيل منظور الناس للأخلاق والعالم.
لا أرى أن نعتبر رؤية هيومر لهوليوود شاملة. وُجدت -بالتأكيد- أفلام هوليوودية كسرت القالب أو تناقضت -حتى- مع الأخلاقيات التي وصفها. ومع ذلك، إن شاهدت ما يكفي من أفلام هوليوود الناجحة، فستدرك ما يقصده.
أُدرك أنني تشرّبت، عندما كنت يافعًا، بعض الأفكار الخاطئة حول كيفية سير العالم (أفكار تتجاوز الأمثلة التي يسلط هيومر الضوء عليها في نقده). وأتذكر بوضوح شعوري بالخديعة من طريقة تصوير بعض القصص الخيالية الواقع. وبصراحة، تُقلقني فكرة أن بعض التصورات التي تكرسها هوليوود ليست مضللة فحسب.. بل ضارة حقًا.
لذا، دعوني أعرض عليكم بعض التصحيحات الأخرى للنظر فيها.

لا يبحث الكون عن الطيبين 👼🏽
في بعض الأفلام أو القصص، يبدو وكأن “الكون” يحتفظ بسجل تفصيلي للموقف الأخلاقي لكل شخص ويتدخل -في اللحظة الأخيرة- لضمان أن يخرج الأخيار منتصرين. فتأتي ضربة حظ، أو تحول غير متوقع، أو مصادفة غير معقولة تمامًا في الوقت المناسب لمكافأة فضيلتهم وإنقاذ الموقف.
ليته كان صحيحًا، لو امتلك “الكون” حقًا [قاضيًا كونيًا] يحرص على مكافأة الصالحات ومعاقبة السيئات.
للأسف الكون لا يهتم. لا تعيد قوانين الفيزياء كتابة نفسها فجأة لأن قلبك نقي. تُطبّق الجاذبية -بذات القوة- على البطل النبيل والشرير، ولا تستوثق (حوادث السيارات) من موقفك الأخلاقي قبل حدوثها؛ فربما تُصيب -بمحض الصدفة العشوائية- الذين لا تشوب تصرفاتهم شائبة، ويمرّ الأشخاص الأنانيين أو القساة دون أن يلحق بهم أذى!
فكرة الكون المُحب والعادل مريحة، بالتأكيد، لكنها أيضًا قصة خيالية. والأسوأ: أنها يمكن أن تكون تدميرية؛ إذ تعزز عقلية “كن طيبًا، لا ذكيًا، وسيتولى الكون الباقي”، والتي تُصيبنا بخيبة أمل كبيرة عندما يعاندنا الواقع.
لا يعني هذا ألّا معنى للأخلاق! بل يعني -ببساطة- أن الكون لن يؤدي العمل نيابة عنا. فإن أردنا جعل العالم مكانًا أفضل، ورؤية العدالة تسود، فتحقيق ذلك يقع على عاتقنا. ولا يمكننا أن نجلس منتظرين قوى إلهية لا تأتي أبدًا.
وإذا لم يكن الكون يراعي الصالحين، فلنحرص أن يراعي الصالحون بعضهم بعضاً.

كذبة توأم الروح 💔
فكرة خاطئة أخرى تروج لها هوليوود: أسطورة “توأم الروح” القائلة بوجود شخص واحد في العالم -بأسره- مقدراً له أن يكملك.
لا ينحصر ضرر الفكرة على وضع توقعات “شاطحة” للعلاقات، بل تشجع الناس، وخاصة المراهقين، على إضفاء طابع رومانسي وأخلاقي على التعلق العاطفي العقيم .. وربما الضار إلى حد ما.
عندما يقتنع المراهق (وأحيانًا “البالغ” الذي يُفترض أنه أكثر دراية!) بأن شخصًا معينًا هو توأم روحه، فيبدأ غالبًا في تأطير إعجابه بأحدهم باعتباره شيئًا يفوق التجربة الإنسانية العادية. بالنسبة للبعض، يصبح الأمر بمثابة سردية أخلاقية حيث “يَحرم” التفكير في شريك محتمل آخر (حتى لو لم يتبادل كلمة واحدة مع “توأم الروح”!).
وحين يعانده القدر، لا يخيب أمله فحسب، بل تغدو [مأساة شكسبيرية]. ينهار عالم المُحب العاطفي بالكامل؛ لإيمانه بفقدان “توأم روحه”.
والحقيقة ألّا وجود لشخص “أسطوري واحد” يناسبك، بل هم كثر!
وتلك بشرى؛ فعوض رفيق روح واحد، هناك العديد ممّن قد تقع في حبهم، وتتواصل معهم بعمق، وتبني معهم علاقة ذات مغزى، بشرط استيفاء بعض المتطلبات كالدعم العاطفي، والعقلانية، والاهتمامات المشتركة، والقدرة على الاستماع.
وهذا ما يقودنا لمشكلة أخرى في أسطورة توأم الروح: تمجّيدها القَدر مع تجاهل تام للسعي. لا تسقط العلاقات الجيدة في حضنك فجأة لأن كيوبيد قرر منحك فرصة. وإنما تُبنى بمرور الوقت من خلال السعي، والجهد المتبادل، والتنازلات، والنمو المشترك.
يبدو هذا المنظور للحب أكثر صحة وتمكينًا. إذ يحرر المرء من الخوف الشديد من “إضاعة الفرصة” أو الانتظار بلا نهاية حتى يقدّم القدر حبه الحقيقي الوحيد. وبدلاً من ذلك، يعيد تعريف الحب باعتباره شيئًا يمكننا أن نسعى إليه بنشاط من خلال الالتزام والسعي الدؤوب.
إننا نملك القدرة على تحسين أنفسنا، والتعرف على الناس، وبناء علاقات ذات معنى. لا بالانتظار حتى تتحقق المعجزات، بل بالسعي قُدمًا. ولا ينبغي لنا أن نعتبر أنفسنا لاعبين سلبيين في بعض القصص الخيالية الكونية؛ فنحن أبطال قصص حُبنا، والنتيجة تتشكل إلى حد كبير من خلال الاختيارات التي نتخذها والجهد الذي نبذله.

لا تعني الفضيلة امتلاك قلب طيب فقط
وكما أشرنا في النقطة الأولى، لا ينتصر بطل الفيلم لأنه يتمتع بالكفاءة أو الاستعداد أو التفكير العميق، بل فقط لمسعاه الخيّر. فالبطل يتجه مباشرة إلى فخ ضخم وواضح، مدفوعاً بـ “نقاء قلبه”، ومع ذلك ينجح بطريقة أو بأخرى في الخروج منه حياً دون عواقب حقيقية. وفي بعض الأحيان، يحاول أحد الأصدقاء أو المستشارين تحذيره، مشيرين إلى مدى تهوره أو اندفاعه، لكن هذا لا يهم. ذلك أن نواياه الطيبة ستنتصر، وسيعامله الفيلم باعتباره نموذجاً أخلاقياً لذلك.
ولكن حتى في الحالات النادرة التي يواجه فيها البطل عواقب فعلية لقراره المتهور، تصوّر القصة أفعاله باعتبارها تضحية نبيلة (حتى مع إمكانية تجنبّه تلك العواقب).
يذكرنا هذا بملاحظة هيومر حول إنقاذ الأبطال للأشرار بشكل هزلي؛ حيث يُصوّر القرار باعتباره قرارًا صحيح أخلاقيًا، حتى عندما يكون قصير النظر ويؤدي إلى المزيد من الأذى في المستقبل. ونتيجة لهذا، يبدو الأمر تمجيدًا للشجاعة والقلب الطيب على حساب العقلانية والذكاء، وكأن التفكير في الأمور بتعمّق نوعٌ من الفشل الأخلاقي!
في الواقع، إذا كنت طيب القلب ولكنك جاهل، فأنت تخاطر باتخاذ قرارات سيئة تؤذي الناس. وإذا كنت حسن النية ولكنك متهور، فإن العالم لن يمنحك هدية ثمينة لمحاولتك (بل قد يمنحك عواقب قاسية). وعلى نحو ما، فإن تطوير إطار معرفي متين وفهم واضح لكيفية عمل العالم يشكل أساسًا مهمًا لتحقيق نتائج إيجابية متسقة، حتى في المجال الأخلاقي.
إن تعظيم الخير بشكل مستمر من الأمور التي تساعد على إقران النوايا الطيبة بالعقلانية والفهم العميق لما تفعله. فأنت لا تجري العمليات الجراحية لمجرد شغفك بإنقاذ الأرواح، بل تقضي سنوات في الدراسة والتدريب وصقل مهاراتك. وإلا فإنك ستنتهي إلى إحداث ضرر أكبر من النفع.
وكما هي الحال مع المفاهيم الخاطئة الأخرى في هوليوود، فالمُزعج في صورة “البطل حسن النية” هو أنها تكافئ الرضا عن الذات والاندفاع.
وللحديث بقية ..