وراء كل توتر عظيم.. قصة غير ذات شأن

من أين يأتي التوتر

جربتُ شيئًا جديدًا في إجازتي الأخيرة. كنتُ أخطط لقضاء سبعة أيام في بورتلاند، أزور فيها صديقًا، وأركب الدراجات، وأتناول الكعك المحلى. لكنني جعلت الأسبوع اثنين، يفصلهما ثالث أمضيته في خلوة صامتة “Silent Retreat”.

غاية الخلوة الصامتة رؤية مدى هدوء عقلك حالما تتوقف عن “إطعامه” ترفيهًا ومحادثاتٍ وأحلام يقظة. لتبدأ في ملاحظة ما يحدث بداخلك ومن حولك، وتعود إليه عندما تشتت انتباهك.

عمليًا، أنت تتأمل معظم يومك- إما جالسًا أو ماشيًا، أو أثناء تناول غدائك (الخالي من حلقة الدحيح)، أو في بيت الراحة- وطيلة فترة استيقاظك.

يصعب وصف مدى الوعي الذي يغمر المرء إثر قضاء + 100 ساعة تأمل على مدار سبعة أيام. يصبح العالم شديد الهدوء والبساطة. وتتمكن من سماع 8 أصوات مختلفة في آنٍ واحد (دون فقدان مسار مصدر أيٍ منها).

في البداية، تلاحظ الأمور الجليّة: تغريد الطيور، ونسيم الهواء، وثِقل الأبواب التي تستخدمها، وملمس ملابسك، وصرير الأرضيات. لكن بعدها، تبدأ بملاحظة ظواهر [أدقّ].

تتباطأ أفكارك حقًا وتنجلي في مرحلة ما، كما لو كانت صوت شخص في غرفة هادئة. يهدئ عقلك حدّ ملاحظتك أدنى تموجات في مشاعرك. تمتلئ تجربتك ببعض ردود الفعل متناهية الصغر (الغائرة عادةً)، مثل بعض الرواسب النفسية من أفكار حول مواضيع معينة، أو انجذابات أو نفور خافت من تفاصيل صغيرة (كطريقة وضع الطعام على طبقك).

عادة ما تكتظّ عقولنا بـ “طبقات” من الحوار والذكريات والمخاوف والتأملات؛ فلا نلحظ أننا نفكر أصلًا! نحن أشبه بالسمكة الذهبية في قصة ديفيد فوستر والاس الشهيرة [إنه الماء]؛ فبعد أن تسألها سمكة أكبر سناً: “كيف حال الماء اليوم؟” تسأل السمكة الذهبية بهدوء صديقتها: “ما الماء بحق الجحيم؟”.

عندما تكون الأفكار صافية ومتباعدة كما عندما تكون في خلوتنا، ستتعرف على حقيقة تفكيرك (الأحداث التي تُحركه، والأماكن التي يشطّ نحوها حين لا تراقبه، والمتاعب التي يتورط فيها. ستبدأ برؤية تأثير (الفكرة) عليك، ومدى سهولة إثارة المشاعر، وكيف تُشكل هذه المشاعر مزاجك ومواقفك.

ومع بعض التحفيز، يمكنك البدء في رسم خريطة لميكانيكا العقل المُنهك يوميًا ⬅️ كيف تجعلك الأفكار تقلق وتجترّ، ولمَ معظم التوتر الناتج بلا داعي.

كيف يولد التوتر؟

في إحدى العصاري، كنتُ أتأمل سيرًا على طريق حصوي، وذاك حال زميلي في الخلوة، ولكن بوتيرة أبطأ بكثير. وما إن مررتُ به حتى خطرت لي فكرة: “حثّ خطاك يا رجل!” أو شيءٌ مشابهٌ حسن النية (ولكن غير ضروري ربما).

وعلى الفور، خطرت في ذهني عبارة مماثلة: “احمل ابني المشاكس!” وخلال لحظة، انطلقت الطبول والغيتار في مخيلتي، وكنت أستمتع بالأغنية التي تحمل ذات الاسم لفرقة كانساس. وبعد ثوانٍ، كنت أستعيد ذكريات مراهقتي، في حفلة كانت تُذاع فيها تلك الأغنية. اختفى صديقي وكنت خجولًا للغاية بحيث لم أستطع التحدث إلى أي شخص جديد، لذلك جلست بهدوء على الأريكة لمدة أربع ساعات، متجنبًا التواصل البصري، وشعرت وكأنني أحمق.

مرّت ذكريات مماثلة في ذهني، وشعرتُ بحزن شديد. هذا النوع من الخجل المؤلم ميّز تجربتي في المراهقة، وجزءًا كبيرًا من تجربتي في الرشد، وهو أمرٌ لا يُسعدني أبدًا.

في الثانية التالية، أدركتُ ما حدث. كنتُ على بُعد ست أو سبع خطوات فقط من الطريق الذي خطرت لي فيه الفكرة الأولى.

في أقل من عشر ثوانٍ، انتقلتُ من وعيٍ تام وهدوءٍ تام، إلى فكرةٍ حسنة النية، إلى ذكرى غير ذات صلة، إلى ذكرى مؤلمة، إلى نوعٍ مألوفٍ من التأمل الوجودي، ثم -لحسن الحظ- عدتُ إلى الوعي.

لو لم أكن في خلوة، لربما أدى ذلك إلى مزاج كئيب، وربما موجة قلق اجتماعي استمرت طوال اليوم. وربما لحبست نفسي في المنزل تلك الليلة، أو ربما جلست أتلذذ بتناول بيتزا أو شيء من هذا القبيل؛ جاهلًا السبب. فقط بسبب فكرة راودتني وذكّرتني بأغنية روك من السبعينيات.

تنبثق فكرة من العدم، وتذكرني بشيء، ثم بآخر، فثالث، لتستقر -في النهاية- على شيء شخصي ومؤلم في كثير من الأحيان (ربما ذكرى أو لحظة مستقبلية خيالية يكون فيها شيء ما على المحك، شيء أحتاج إلى فعله أو تجنبه).

هذا ما يفعله العقل طوال الوقت. العقل آلةٌ فائقةُ القدرةِ على ربطِ النقاط، تربطُ باستمرارٍ وبسرعةٍ بين ما يلاحظه، مُثيرةً بذلك ذكرياتٍ أو توقعاتٍ مستقبليةً لا تُحصى. جميعُ هذه السيناريوهات تشملك بالطبع، وغالبًا ما يكون هناك شيءٌ على المحك، و”هوسٌ” بسير الأمورِ في اتجاهٍ مُعين.

في جوهره، ينسج العقل قصصًا: تسلسلات من الأحداث، ماضية كانت أو مستقبلية، حيث قد تربح أو تخسر شيئًا ما. تتخيل -أو تعيد تخيل- موعد.. مقابلة.. محادثة.. جدال، أو ربما سلسلة تعليقات على فيسبوك انتهت ضدّك.

من الطبيعي ظهور مشاعر يأس حيال المتطلبات التي تواجهها في هذه القصص، مما يُسبب لك ضغطًا نفسيًا حقيقيًا، عادةً من لا شيء. هل من المُجدي حقًا، أم أنه مجرد إدمان، إعادة تصوّر خطابٍ “سيئ” ألقيته الشهر الماضي، للمرة السادسة عشرة؟ وماذا عن استذكار مواجهتك مع سائق “أرعن” قطع عليك الطريق هذا الصباح؟

هذه القصص ليست سوى نتاج ثانوي طبيعي لقدرة العقل البشري المذهلة على الربط بين الأفكار المتشابهة، ولكنها تولد ضغوطاً حقيقية. وقد لا تكون سيئة تمامًا؛ بل أجدها ضرورية لوضع الخطط والتعلم من أخطائنا. ولكنها في أغلب الأحيان مجرد تفكير عاطل عديم الفائدة تماماً، مجرد تسلسلات عشوائية من الأحداث المتخيلة التي نتحملها ونعاني منها دون أي فائدة على الإطلاق.


ابحث عن القصة، واتركها غير مكتملة

لست بحاجة إلى الخلوة، أو حتى فكرة التأمل من أصلها، للشروع في حلّ هذه المشكلة (رغم كونها أكثر طريقة مباشرة).

ببساطة، يكفي إدراك هذه العلاقة الأساسية بين التوتر والقصص. ففي كل مرة تقريبًا تشعر فيها بالتوتر، يكون ذلك استجابةً لسردٍ في ذهنك، قصة عن أمرٍ تشعر بضرورة حدوثه أو منع حدوثه.

عندما تلاحظ ارتفاع مستوى التوتر في لحظة عشوائية، ابحث عن القصة. ربما يمكن تلخيصها في جملة واحدة.

ما القصة؟

  • أن مصلحة الضرائب ستجد خطأً في إقراري الضريبي وترسل لي فاتورة لا أستطيع سدادها.
  • أن الجميع سيكرهون مقالتي عند نشرها.
  • أني سأذهب في موعد غرامي عبر تندر Tinder”، وسيدرك -كلانا- كم أنا ممل.
  • أن البلاد ستنهار إذا فاز مرشح معين.

في كثير من الأحيان في اليوم، ينتهي بنا الأمر إلى التفكير في سرديات مرهقة لا يمكن حلها لأسباب عشوائية تمامًا -مثل تذكر أغنية كانساس- ومع ذلك نشعر بطريقة ما وكأننا نُحقق شيئًا.

ظاهريًا، في كلٍ من هذه الدوامات العقلية، “تستعد” للحياة من خلال تخيل أو إعادة تمثيل لقاءات مع زملاء العمل أو اللصوص أو ضباط إنفاذ القانون أو الرؤساء المحتملين.

ولكن لا يحدث أي اتخاذ قرار حقيقي، ولا أي تحضير مفيد، فقط جلسة أخرى غير مخططة من جلد الذات، حيث نطالب بمزيد من السيطرة واليقين من تجربتنا أكثر مما سيكون متاحًا لنا على الإطلاق.


حيثما يوجد توتر، ثمة قصة؛ وربما لا تحتاج إلى سماعها أو سردها!

سواء كانت القصة حقيقية أم لا (أو قد تصبح حقيقية) فهذا ليس مهمًا. قد تضطر إلى خوض عملية تدقيق حقيقية أو موعد أول متوتر، وثمّة بعض عدم اليقين بالتأكيد، واحتمال حقيقي للألم أو الصعوبة. ولكن حتى إذا كان الموضوع وثيق الصلة بحياتك، فهذا لا يعني أنك بحاجة إلى سرد هذه القصة أو إعادة سردها الآن، أو أنها ستساعدك في الحياة الواقعية.

دع السرد ناقصًا -ليس بالضرورة أن يُستكمل أبدًا- وعُد لما كنت تفعله قبل بدء السرد؛ فهناك تجري أحداث الحياة الحقيقية.

وراء كل توتر عظيم.. قصة غير ذات شأن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تمرير للأعلى