نصيحة إليف شافاق: اكتب عمّا “لا” تعرفه!

اكتب ما تعرفه

“اكتب ما تعرفه.”

نصيحة شائعة، و”تعويذة!” حديثة تتكرر في دروس الكتابة الإبداعية وورش العمل الأدبية في جميع أنحاء العالم. ويٌقصد بها أن على كل شخص يرغب في تأليف كتاب، سواء كان روائيًا أو غير أدبي، أن يركز في المقام الأول على الموضوعات التي اختبرها وتعرض لها شخصيًا. وينبغي لها أن تكون نقطة انطلاقنا المعرفية والعاطفية. ليس هذا فحسب، بل ينبغي أن تكون خريطة الطريق لكل كاتب: تجربة شخصية، أو تمتلك خبرة عميقة فيها.

غالبًا ما أعتبرت أن هناك نصيحة أخرى “مخبأة بين السطور” في تلك المقولة:

"إذا رغبت في أن تُنشر أعمالك، فلا تغامر بحياة الآخرين، أو عقول أخرى، أو ذوات أخرى، أو احتمالات أخرى... فالإنسان كوكب فريد، ابقَ في مدارك.

انسى جون دون ومقولته "لا يوجد إنسان يعيش في جزيرة منعزلة وحده تماماً، فكل إنسان جزء من قارة"، فالحقيقة أن كل شخص هو جزيرة. ابق في جزيرتك.

التزم بتجاربك الخاصة إذا وددت أن تحظى بالاحترام كمؤلف موثوق. اكتب ما تعرفه .. ما تعرفه حقًا فحسب.

حسنًا، لم يعجبني هذا المذهب أبدًا، ولم أؤمن به قط.

بدأت تأليف الروايات في سن مبكرة. لا لأنني أردت أن أصبح روائية يومًا ما. بل لم أعلم أن شيء كهذا ممكن الحدوث! لم يتواجد مؤلفون حولي. ولم أجد قدوة أدبية في منزل جدتي الصغير أخضر اللون، والذي يقع في حي أبوي ومحافظ ومنغلق على نفسه في أنقرة، حيث وجدت نفسي بعد ستراسبورغ، فرنسا، بعد طلاق والديّ وقد أتيت إلى تركيا مع أمي.

لقد كنت طفلة وحيدة، وعلى غرار العديد من الأطفال الوحيدين كان الخيال صديقي الوحيد. بدأت بكتابة قصص خيالية لأنني اعتقدت أن الحياة.. حياتي تحديدًا.. مملة للغاية.

كثيرا ما خنقتني تلك البيئة وشعرت بغربة؛ لم أستطع التأقلم وكنت مقتنعة أن الخطب منيّ. وهنا، جاءت الكتب لإنقاذي. لتفتح القصص عالمًا جديدًا، عالمًا يمتد إلى ما وراء حدود “الذات” الضيقة، حدود المألوف.

وجدت أرض الحكايات!

لقد وجدت منزلي في أرض الحكايات.

لذا، كانت القراءة والكتابة رحلتين “متساميتين” في نظري منذ البداية. أخذتاني إلى عوالم/كواكب/جزر أخرى، ومع كل عودة من تلك الأماكن البعيدة بوعي جديد، كنت أرى بلدي من منظور مختلف. لقد منحني الأدب القدرة على الحركة التي حرمتُ منها حين كنت مجرد فتاة نشأت في تركيا. وقد أحببت هذا الشعور بالحرية وقدّرته. لذلك عندما أقول أنه بمقدور الكتب أن تنقذنا، فأنا أعني ذلك حقًا، لأن ذاك ما حدث معي: أنقذتني الكتب.

سبب آخر يجعلني لا أحبّذ مقولة “اكتب ما تعرفه”.

أعتقد أنها تضع آمال عريضة على العقل الواعي والعقلاني؛ العقل “المعرفي”. في حين يتمحور غالب الأدب حول عدم اليقين، والاكتشاف، والفضول، والارتباك، والشك، وفي المحصلة: التعاطف مع الذين يبدون -للوهلة الأولى- “مختلفين” عنا.

إن الجرأة -على وجه التحديد- لتجاوز المألوف هي ما يجعل الخيال أكثر إثارة للاهتمام وأكثر تمردًا. الجزء الذي ينطوي على الخيال والأحلام (نعم، الأحلام أيضًا).

لا يعني هذا أنه لا يُفترض بنا الكتابة عن تجارب الحياة.

بالطبع يمكننا، بل ويجب عليك إذا راودتك رغبة قوية بالكتابة عن أحداث حياتك.
ثمّة كتب رائعة -روائية وواقعية- كتبت من منظور شخصي وأنا أعشقها وأشيد بها. لكن ما أحاول قوله أن الأدب عبارة عن أرض واسعة، تغمرها مجموعة كبيرة وغير متجانسة من الأصوات. وكبيرة للغاية ومتنوع للغاية بحيث لا يمكن اختزالها في نصيحة.

لا توجد وصفات ذهبية، ولا تعاويذ سهلة.

ما يصلح لكاتب قد لا يصلح لآخر مُطلقًا. على كل منّا شقّ طريقه الخاص. في بعض الأحيان نكتب ما نعرفه، ولكن في أحيان أخرى، ما نجهله “حتى الآن”. يشكّل تعبير “حتى الآن” فارقًا بسيطًا لكنه مهم. سنتعلم الكثير على طول الطريق إن حافظنا على تواضعنا وانفتاحنا على التعلم.

الكتب تغيرنا. وتغير قرائنا، كما نأمل. لكنها بالتأكيد تغيّرنا نحن الكتّاب. فمع آخر كلمة تخطّها في روايتك، لا تكون الشخص نفسه. يتحول شيء ما داخلك.

القصص التي نحبها تجعلنا ما نحن عليه، فتشكلّنا وتبقى معنا.

على الجانب الآخر، لا نستطيع أن نذهب ونكتب عن أي شيء وكل شيء لمجرد أننا نرغب بذلك. إذ يجب أن يكون هناك اتصال شخصي صادق، رابطة عاطفية ومعرفية حقيقية بين المؤلف والقصة. (نفق تحت الأرض) قد لا يكون دائمًا واضحًا للآخرين ولكنه عميق وحقيقي.

يجب أن ننصف موضوع أي شيء نكتب عنه من خلال تناوله بمنتهى الرقة والرعاية والاحترام. ولكن.. الواقع يقول أن الروايات لا يكتبها “العقل العارف ?” فحسب، بل القلب الذي يختبر بالمشاعر والألم?” أيضًا.

ولهذا أفضل دائما أن أقول:

"اكتب ما لا تعرفه بعد"
"اكتب ما يهمك بصدق"
"اكتب -بجرأة- ما يخبرك به قلبك وإن كان عقلك خائفًا"
"اكتب ما لا يمكنك التوقف عن الحلم به."

نصيحة إليف شافاق: اكتب عمّا “لا” تعرفه!

2 فكرتين بشأن “نصيحة إليف شافاق: اكتب عمّا “لا” تعرفه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى