حاذر الحداد الإبداعي بعد إنجاز مشروعك!

الحداد الإبداعي بعد إنجاز مشروعك!

نلاحظ جودة توثيق العملية الإبداعية؛ يمكنك -بضغط زر- معرفة كيف يولّد صنّاع المحتوى المفضلون لديك الأفكار ويحصلون على عقد شراكة متناغمة، وتحدثت في تدوينة سابقة عن الخيار الأسوء؛ كيف تتعافى من التخلي عن حلمك؟ (بعبارة أخرى: كيف تتخطى عجزك عن إنجاز مشروعك).

لكن ماذا لو تحققت أقصى أحلامك: أنجزت المشروع ونشرت الخبر على شبكات التواصل الاجتماعي؟
هل سألت نفسك ماذا ستفعل حين لا يتبقى لك سوى حزن عميق يعتصر قلبك أو فراغ يملئ صدرك؟! 

ها أنت تتجول بلا وجهة، وتشعر بالضياع والاكتئاب، وعاجز عن استجماع طاقتك للانطلاق من جديد.
حسنًا.. ما هذا الشعور بالفراغ والحزن؟ وكيف تتعامل مع فترة الحداد هذه؟ وما العوامل التي تؤدي لهذا الشعور، وأيّ الاستراتيجيات أفضل للتعامل مع فترة الحداد الإبداعي التي سنعيشها لا محالة؟

الحداد الإبداعي

شعرت بهذا عدة مرات طوال مسيرتي المهنية، وربما تكون أبرزها عام 2019، عندما نشرت [سياحة إجبارية] بعد كتابة مسودة استمرت 7 أعوام!
اعتقدت بسذاجة أنني سأحلّق من الإثارة والسعادة، ولكن تبيّنت صحة العكس. طوال الأسابيع التالية للنشر، وجدت نفسي أعاني من حزن عميق وإعياء وفقدان الهدف، إضافة لضعف التركيز وجهل بماهيّة الخطوة التالية. 

لم أعلم أنّ لمَ أشعر به مسمى؛ كنت في فترة حداد إبداعي “Creative grief/Creative mourning“، وذاك شعور شائع ولكن نادرًا ما يُناقَش في المحادثات حول الصحة النفسية والإبداع.

للتعمق في فكرة الحداد الإبداعي، سنتأمل تجربة 3 أشخاص:

لنبدأ من البداية، أو بالأحرى، من نهاية المشروع، لنفهم ما يحدث. توصلت عالمة النفس ناتاشا فروم “Natasha Frome” إلى وجود عدة أسباب لمعاناة الشخص من الحِداد الإبداعي، إنما في الغالب، يعود للشعور بالخسارة. تشرح قائلة:

“شعور الحِداد، بمفهومنا التقليدي للكلمة، هو رد الفعل الجسدي والنفسي لفقدان شيء/شخص ما. وفيما يتعلق بالمشروع الإبداعي، يمكن أن يكون ذاك: فقدان الهوية أو الغاية.

فأنت تبذل طاقة كبيرة في مشروع أو عمل ما، ثم لا يعود لك سيطرة عليه بمجرد خروجه من حياتك أو خروجه إلى العالم. لقد فقدت الاتصال بجزء من ذاتك وربما بمجموعة الأشخاص الذين عملت معهم. هذا الشعور بالخسارة يمكن أن يُشعرك بالفراغ وفجوة في حياتك.”

وتوضّح ناتاشا كيف تختلف مظاهر هذا الشعور باختلاف الأشخاص.

يمكن أن يظهر على هيئة:

  • اضطراب عاطفي.
  • وهن.
  • اضطراب في النوم.
  • انفعال جسدي
  • عجز عن التفكير بجلاء.

وقد يؤثر على سلوكنا اجتماعيًا؛ فيميل الشخص للعزلة أو يشعر بالانفصال حتى عن أقرب الأشخاص إليك.

في عجلة الهامستر التي تمثل الحياة الحديثة، غالبًا ما نفتقد الوقت للتعامل مع هذه المشاعر المعقدة بشكل نهائي. إذ لا نرتاح للانفراد بمشاعر قويّة ونفضّل المضي قدمًا نحو المشروع التالي، ولكن قد يطول تأثير ذلك -سلبًا- على صحتنا النفسية.


قادمة من العاصمة اللبنانية “بيروت”؛ مدينة في حركة دائمة نحو الأمام، لم تكن (مايا مؤمن Maya Moumne) مهتمةً بالانغماس في التأمل. لكن تملكها الحداد الإبداعي إثر الانتهاء من مشروع تصوير شخصي عملت عليه لمدة عام:

 “استكشف هذا المشروع فكرة الذاكرة الجماعية والهوية الجماعية. لقد أمضيت عامًا في البحث والتفكير وإنشاء هذه الأعمال الفوتوغرافية، وعندما تمّت المهمة، ظهر ذاك الفراغ داخلي. كان لدي شعور واضح جدًا بالحِداد الإبداعي.

بعد أن صببت كامل تركيزي على شيء ما.. اختفى، وخلّف اختفاؤه شعورً بالذعر! 

شعرت مايا بفقدان الهدف الذي تحدثت عنه ناتاشا، فسارعت لملء الفراغ؛ بالغوص في مشروع جديد مع الشخص الذي سيصبح في النهاية شريكها في ستوديو سفر، حاتم إمام Hatem Imam

“في تلك الفترة، لم ارتح لوجود الفراغ في حياتي، وبطريقة ما شتتّ نفسي بأفكار أكثر وطموح أكبر، وكان ذلك رائعًا لأنه أوصلني لإنشاء الاستوديو والمجلة”.

بعد انتقالها إلى مونتريال عقب انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وجدت مايا في وتيرة الحياة الهادئة ضمن المدينة الجديدة مساحة لاستكشاف المشاعر والتجارب الصعبة، مما ساهم في حياة أكثر إنتاجية وغنى إبداعيًا. 

“فنيّ متجذر في قضايا بلدي، وتملّكني القلق -لفترة طويلة- من ألّا أتمكن من تناولها في المهجر. لكن حقيقةً لدي الوقت والمساحة لمواجهة إشكاليات الماضي. إنني أختبر عملية إبداعية جديدة تمامًا في مونتريال.”

اليوم، تشعر (مايا) بأريحية في الركون لهذا الحِداد واستكشاف ما سيعلمها إياه. وتنظر إلى هذه الأوقات الهادئة، أو المشاعر الأعقد، باعتبارها فرصًا للتعلم والنمو مهنيًا إلى جانب الممارسة الجديدة نسبيًا؛ تبنيّ التعاطف الذاتي. كما تشرح قائلة:

“أظن أكبر اكتشافاتي متمثّل بأن الترفّق بالذات يحقق الكثير حقًا. والاعتراف بماضي المرء، وهو ما أعتبرته نقطة ضعف في السابق، يغيّر الحياة حقًا.


يستمتع (فريدي تايلور ) بمنصب المدير الإبداعي في Wieden+Kennedy. وأنشأ فريقه حملة Nike World Cup الحائزة على جوائز والتي شهدت كلمة “Home” مقترنة بشعار الشركة الشهير.

 إلى جانب شريكته الإبداعية، فيليبا بومونت Philippa Beaumont، فهو -بموضوعية تامّة- ضمن نخبة المجال، لذا كان من المثير للاهتمام سماع تجربته مع الحِداد الإبداعي؛ 

“غالبًا ما أعاني ضغوطًا لتكرار النجاح، وأشعر بالحزن وخيبة الأمل عندما لا أقدّم بمستوى المشروع السابق. وهذا ما يُشعرني كمن ينفخ بالونًا؛أضطر دائمًا للنفخ وإثبات نفسي لإبقاء البالون ممتلئًا!

وهذا شيء توسعت فيه (ناتاشا فروم) قائلة:

“في وهج النجاح، قد نشعر بأننا بلغنا الأفضل، فلن نكون قادرين أبدًا على تكرار ما أنتجناه للتو، وأنه كان مجرد صدفة، وقد يؤدي هذا لمشاعر الحِداد على ما فات، والخوف من المستقبل.”



في كتابها {طريق الفنان The Artist’s Way}، تتحدث جوليا كاميرون عن لعب بعض الانتقادات (وليس كلها) دور تشهيري، وتجعلنا نشعر بالحماقة لمجرد المحاولة. تكتب:

"النقد المؤذي هو ما يحط من قدر أو يستهين أو يستهزئ أو يدين".

ردًا على النقد الذي لا يمكننا التحكم فيه، تنصح (جوليا) بالبحث عن الدعم والحدّ من مقدار السلبية التي نسمح لها بالسيطرة على أفكارنا. والأهم: الالتزام الفوري بتقديم شيء إبداعي. 

"الإبداع هو بلسم النقد الوحيد"

في إطار وكالة إعلانية، لا تقع نتائج النجاحات والإخفاقات في أي مشروع على عاتق فرد بعينه، حيث يساهم العديدون في كل مرحلة.
من ناحية، قد يكون ذلك إيجابيًا حيث يتوافر الدعم ومسبار عندما لا تسير الأمور كما هو مخطط لها، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي إلى إحباط الأفكار التي لم يُجمع عليها [حتى لو كانت جيدة]. 

يقول فريدي:

“أن تكون النتيجة النهائية مقاربة للفكرة الأساسية؟ ذاك الشعور الأروع. أحيانًا يبدو ذلك مستحيلًا، ومن الأهمية بمكان معرفة أيّ الأفكار أنت مستعد للموت دفاعًا عنها وأيّها لا

تجاوبًا مع خيبات الأمل المحتملة، ينصح (فريدي) بالتسليم للعوامل المؤثرة، التي تحدد نجاح الشيء أو عدمه:

"ربما شملت الحملة جميع المكونات الصحيحة؛ فكرة جيدة نُفذّت ببراعة. ولكن الواقع يؤكد أن جعل العمل يحظى باهتمام جماهيري حقيقي.. يزداد صعوية.
لا أقول أن عليك تقديم أعذار، ولكن لا بدّ لنا من الاعتراف بوجود عوامل تلعب دورًا في أي صناعة"

ويرى أيضًا أهمية تطوير نظام القيم خارج العمل، حيث لا ترتبط هويتك بالازدهار والانحدار في حياتك المهنية {ذات الفكرة التي أكدّتها تدوينة هل يحدد العمل الذي أحبه هويتي؟ ?}

بعد تفكير عميق، اكتشفت أن حِدادي الإبداعي نجم عن افتقادي وجود شيء أنسى نفسي فيه. وافتقادي الشخصيات التي قضيت شهورًا في تطويرها، وبمجرد صدور الرواية، شعرت بالأثر المدمر للحكم المُسبق. وهذا يعني أيضًا أنه لم تعد هناك فرص لإصلاح أو تصحيح الأشياء التي أردت تغييرها. 

منذئذٍ، أدركت أن النهاية هي مجرد بداية لشيء جديد. وبدأت كتابة رواية جديدة، ومع أخذ تجربة الكتاب الأول بعين الاعتبار، فأنا الآن أركز حقًا على الاستمتاع بعملية الكتابة والإبداع بأفضل ما أستطيع؛ فلا سيطرة لديّ على أي شيء أبعد من ذلك. 
أصبحت أيضًا أكثر راحة مع المنتج النهائي غير المثالي؛ سيكون هناك دائمًا شيء نرغب في تغييره بشأن المسعى الإبداعي الذي قدّمناه للعالم،

لا أسهل من تخديرنا أنفسنا بأي قدر من المُشتتات! ولكن إذا سلطنا الضوء على أحلك أركان حياتنا، فيمكننا العثور على بعض الدروس الأعمق فيها. بمقدور هذا الأذى العميق أو الألم أن يساعدنا حقًا في تحديد المهم لنا؛ شرط امتلاكنا الشجاعة والدعم للنظر إليه في وضح النهار والإقرار بما نجده.

في بعض الأحيان، يكون هذا التوقف القسري والانقطاع عن الروتين اليومي هو بالضبط ما نحتاجه لنمضي في حياتنا بطريقة أكثر استدامة.

يمكن أن يكون التعامل مع الحِداد الإبداعي عملية شخصية وفردية. إن تجربة كل شخص فريدة من نوعها، وقد يتطلب العثور على ما يناسبك تجربة استراتيجيات مختلفة أو طلب الدعم المهني إذا لزم الأمر. فيما يلي ملخص للإستراتيجيات التي قد تساعد:

  • تعرّف على المشاعر الصعبة واعترف بها.
  • حدد مفهوم النجاح بشروطك الخاصة.
  • امتلك فهمًا واضحًا لهدفك وهويتك الإبداعية.
  • تبنّى بطء التعلم.
  • اطلب الدعم داخل وخارج مجال عملك/تخصصك.
  • انخرط في التعلم المستمر وحدد أهدافًا/تحديات جديدة.
  • تذّكر أن النهاية هي أيضًا بداية جديدة وفرصة لتقديم شيء مختلف في المرة القادمة.
  • احرص على امتلاك مشروع أبدي

حاذر الحداد الإبداعي بعد إنجاز مشروعك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى