في مقابلة لمجلة باريس ريفيو The Paris Review، ذكر هاروكي موراكامي Haruki Murakami -مؤلفي المفضل- أن “كتابة رواية طويلة تشبه تدريبات النجاة“.
وهي كذلك فعلًا.
تعلّمك تدريبات النجاة Survival training كيفية العيش في البريّة بالضروريات بشرط الإتقان للمهارات الأساسية. فهو يغرس داخلك الانضباط والحذر وشعورًا بأهمية الاستعداد لما ينتظرك. نادرًا ما تجد طُرقًا مختصرة تساعدك على الاختباء؛ وإنما تُدفع لمنعطفات حادة؛ حيّث تقف -وجهًا لوجه- أمام حقيقة ما يمكنك/لا يمكنك فعله.
لا壯陽藥 شكّ أن ذلك مخيفٌ ومُتعب، لكنه يعلّمك كيف تجد (واحة غنّاء) وسط صحراء عدم الراحة. في البرية، تقود تلك “الواحة” غرائزك لإيجاد الضروريات، والدفاع عن نفسك ضد التهديدات، ومداواة الجروح، وتنظيم درجة حرارة جسمك.
في النهاية، لا أهمية لمدى قوتك أو موهبتك عند بدء البرنامج، وإنما بكيف تُنهيه، وتنجو بالعناصر الأساسية التي تكوّن العالم من حولك؛ تنفس الحياة من الهواء، وقدميك متجذرة في الأرض، والقلب ملتهب بالعواطف، وسيّالات دماغك، هادئة وخطيرة كالماء.
وهكذا تسير الكتابة؛ فلا يهم حجم موهبتك الكاتب أو مدى روعة أعمالك السابقة، إذ بدون الانضباط والحذر والطابع المُلحّ، لا يظهر أي جديد على سطح الصفحة.
ولدت الكتابة من انطباعاتنا حول العالم. الشعور بالنسمات، وتدّفق الماء، وصلابة الأرض، ولسعة النار الحادة.. تعصف بنا مجتمعةً.
ولا زالت هذه الانطباعات/التصورات تحارب -داخلنا- لأجل البقاء، وتتشبث بشدة بمزاعم (الإلهام) للتغلب على مصير فكرة غير مكتملة أو مسودة مَنسية. تحارب تلك الأفكار لترى النور. وعلى غرار تصوري للعالم -إلى حد كبير- تتشكل قِصصي، ويعكس نظامي التدريبيّ للكتابة المنتجة العناصر الأربعة أيضًا.
? لخلق الإثارة، اكتب بخفّة الهواء
على مر السنين، كان خوفٌ لعين يتسرب -بين الحين والآخر- داخل نفسي كضباب كثيف متجعّد، أحد أسوأ كوابيس الكتّاب (إن لم يكن أسوأها)، لعنة وجودية.
ماذا لو مللتُ الكتابة؟
لا يعني الملل دائمًا قلة الاهتمام. بل في أغلب الأحيان، يخفي إحساسًا بالتردد، يمنعك من اختراق الأنفاق المنهارة بحثًا عن منفذ.
يمكن أن يكون الملل مؤقتًا وكثير التذبذب. وفي الأيام التي يغمرك الإلهام حتى النخاع، يصبح الملل محض سراب. إذًا، إلى ما أرمي؟ باختصار، ابدأ مشروعك الكتابي بتسليّك أنبوب الملل.
أعلم أن إيجاد شيء “مثير” مدعاة للالتباس. غير أنّي أزلته عبر الجمع بين الدروس المستفادة من أرباب القلم على جميع المنصات: وأول شيء لاحظته هو أن معظمهم تخصصوا بمجال يكتبون حوله بجّد وثبات. لذلك إذا كان كنت متخصصًا في مجالٍ ما، فهذا رائع! إذ كسبت نصف معركة المتعة بالفعل، ومسألة مواصلتك ترجمة هذه المتعة إلى كتابات قيمة متروكة لك.
لم يكن هذا حالي، وبدلاً من الإصغاء إلى نفسي، “تورطت” في مطاردة ما يجعلني أغدو كاتبًا راسخًا في مجال معين، وبات العثور على موضوع للكتابة عنه مهمة شاقة ومرهقة. وهذا ما أجبرني -في أحايين كثيرة- على تأجيل فكرة الكتابة حتى أجد (ما يستحق).
لذلك أضفت عاملًا حاسمًا آخر للمعادلة، توصلت إليه بعد ساعات من التحديق في المسودات الفارغة والابتعاد عن شاشة حاسوبي مهزومًا: انتظار الإلهام ليس الحل أبدًا. وبدلًا من إيجاد (المجال) كتبت عن شعور الضياع ذاك.
انتهى بيّ الأمر بكتابة هذه التدوينة: قطعة محتوى حول عدم الراحة وتأمل بواعث قلقي حين أحسست أن الأمور خارجة عن إرادتي، والتي توسّعت -بعد ذلك- لسلسلة من 5 أجزاء؛ تغوص في سُبلي لإيجاد الهدوء وسط الفوضى.
أحيانًا، تكون أفضل طريقة لرؤية المشكلة هي بإبعاد نفسك عنها تمامًا (ولو لدقيقة واحدة!). فشتّان بين العالق في قلب العاصفة وآخر يتأملها مِن مكانٍ هادئ بعيدًا عن الخوف.
يساعدك لعب دور (المُراقب) على معرفة ما التهمته العاصفة، والمعلومات التي عليك تناسيها، و (نداءات الواجب) التي لا تخصك. يمكنك أيضًا مشاهدة الأنماط التي تتحرك فيها العاصفة، وقد تكتشف المناطق التي ضللت فيها الطريق طوال الوقت.
? لتجد التركيز، اغرس أقدامك في الأرض
قد لا يتعلق الأمر بالملل. إذ تملؤك الحماسة، وتمتلك الخطوط العريضة لفكرة أنت مستعد للصراخ بها من فوق أسطح المنازل!
لكن عندما تجلس على طاولتك، تغدو تلك الخطوط الصلبة “ضبابية” والأرضية “نفيذة Porous”، وفكرتك مُجزأة فلا تعلم من أين تبدأ أو كيف تجد الكلمات.
لو كان حريًّا بيّ وصف صوت قفلة الكاتب، فسيكون عكس صرصار الليل ? تمامًا! يبدو المصاب بقفلة الكاتب Writer’s block كواقفٍ في منتصف مهرجان موسيقي.. بلا خطة؛ الموسيقى تصدح من شتى الاتجاهات، والهواء يعجّ بالروائح الكريهة، والبعض يلهو، في حين يقضي آخرون أوقاتًا سيئة، وأنت حائر.. لا تعرف من تريد رؤيته أو أين تريد أن تكون.
في هذه المرحلة، يبدو الدخول في حالة تدفق “Flow” شبهَ مستحيل، حيث يغمرني التشويش من أشياء لا علاقة لها بالكتابة على الإطلاق، وأسرع طريقة ألحظ فيها “ضعف تركيزي” عندما أجد نفسي:
- أجهل (أو نسيت) ما دفعني نحو فكرة معينة.
- أنخرط في شيء مختلف قبل أن أحقق أي تقدم في الفكرة المطروحة (كقضاء 30 دقيقة في إنشاء قائمة تشغيل Playlist تساعدني على استعادة حالة تدفق “لا أصل إليها أبدًا”!).
يمكن أن يضيع التركيز في أي مرحلة من عملية الكتابة، بغض النظر عما إذا كتبت آلاف الكلمات بالفعل أم كانت الصفحة بيضاء تسوء الناظرين. إنه متغير تؤثر فيه -وبشدة- عوامل لا حصر لها. ولكن إذا حددنا العوامل التي تقع في نطاق سيطرتي، فإنها -في 9 من كل 10 حالات- ستكون: فقدان الهدف والمُجفّز الباهت.
يصعب التركيز بدون “غاية“. نادرًا ما تُترجم الفكرة الرائعة إلى نتيجة عظيمة ما لم تتماشى مع توقعاتك بشأنها. من خلال معرفة هذه التوقعات، يصبح الطريق أوضح، ويغدو من السهل التمييز بين [الإجابات الحقيقية] والجعجعة الناجمة عن المُشتتات.
لذا، بروح المُحارب داخلي، أتأهب مسبقًا وأحزم أمتعتي لأكون على أتمّ الاستعداد لتلك الساعات الخانقة.. عندما تضيع كل الكلمات.
خصص -قبل التطرق لأي فكرة طموحة- بعض الوقت لإجابة بضعة أسئلة وتدوينها في مستند:
- ما أهدافي لكتابة قطعة المحتوى؟
- ما معايير نجاحها؟
- ما الذي يميزها عن غيرها؟
في النهاية، يصبح هذا المستند مساحة عمل بالنسبة لي لقلب الأفكار رأسًا على عقب بناءً على إجاباتي؛ أبحث عن ثغرات لاستغلال الفرص الضائعة التي عليّ اغتنامها، وتحويلها إلى قصص يمكنني القول بفخر أنني كاتبها.
من هنا، تولد القصص “متجذرة” في أساس قوي.
قبل إجراء مقابلة العمل: لماذا يُعد أفضل المرشحين للوظائف أعظمهم روايةً للقصص؟
? لبناء فكرة، شكّلها كالماء
يقودك (وقت التركيز) إلى المرحلة الأكثر إثارة وصعوبة في الكتابة: بناء الفكرة.
تظهر فائدة سؤال “لماذا” هنا لأنه مُنطلق كل شيء: لماذا تكتب ما تكتبه؟ ولما لا بدّ أن يكون الموضوع مثار اهتمام أي شخص؟ عادةً ما تملأ هذه الأسئلة فجوات الافتتاحية/المقدمة، إضافةً لكل العناوين الفرعية.
تتمحور التساؤلات التالية حول جمهوري: لماذا يهتمون بقراءة عملي وما النتائج التي أودّ أن يحصلوا عليها في النهاية؟ يمنح ذلك قطعة المحتوى (عمقًا أكبر)؛ حيث يربط أجزاء فقراتي معًا في استنتاج منطقي.
إليك ما بدت عليه بعض ملاحظاتي الأولية للتدوينة بين يديك:
بعد ذلك، أضع أي فكرة متبقية داخل عقلي، كل الجمل التي لا تتناسب مع الموضوع بشكلٍ مباشر (مع وجود إحتمالية لربطها لا مباشرة). لا ألتزم بجعل الجمل كاملة أو مرتبة. لا يُعد تفكير بقدر كونه “تطهيرًا ضروريًا” لكل ما يشغل مساحة في رأسك.
أفعل هذا (في أي مكان من تلك الصفحة.. لا يهمّ)، وهنا تغدو الأمور أكثر منطقية.. قليلًا، وتكتسب الخطوط غير الواضحة وزنًا كافيًا لرسم الخطوط العريضة لشيء أكبر مما بدأت به.
? حارب نيران عدم الاستقرار
رغم طول عملية الخروج بمسودة مرضية واضطرابها في كثير من الأحيان، فإن أكبر عقبة أمام الكاتب تأتي في النهاية؛ عندما ينتهي.
عدم الاستقرار.. الخوف من مصادفة قطعة محتوى تُشعرك بالبدائية (= أنك تفتقد للخبرة) والنقص. الخوف من المقارنة والنقد. يكاد يستحيل ألا أتخيل ما ستقوله الكلمات على الصفحة لو حظيت بتفكير شخص آخر!
لوضع التدوينة في سياق يُكمل الدائرة، تعيدنا مواجهة عدم الاستقرار إلى العنصر الأول: لأجعل كتاباتي تبدو بخفّة الهواء، لا بدّ من إزالة ما يشي بضغط إنتاج العمل، فقط لأعكس ما أعتقد أن الآخرين يتوقعونه مني.
يمكن القول إن أصعب فكرة عليك -كمبدع- هي أكثرها تحريرًا: ستجد دومًا شخص ما يمكنه التفوق عليك، وآخر لا يحب ما تكتبه.
لقد أمضيت سنوات في الهرب من هذه الحقيقة المرة فقط لأدرك أن [التصالح معها] كان أبسط مما تخيلت. يمكنك إيجاد مليون شخص يكتب أفضل منك، أو تتفوق أفكاره على أفكارك، أو يعمل بجدٍ مثير للدهشة، أو بذكاءٍ يثير الحسد، أو يحظى بشبكات أكبر من المؤيدين.
لكن لن تجد (منك) سوى نسخة واحدة!
تمنحك معرفة هذا حرية الكتابة، مما يجعلها خفيفة ومثيرة ، ومُستلهمة من مكان يميزها عندي. هذه هي الطريقة التي تعلمت بها أن أفخر بجميع النسخ غير الكاملة من عملي. في النهاية، أسير وفق غاية يمكنني وحدي تحقيقها، وحتى لو لم يقدّرها أحدٌ اليوم، فذاك يمنحني أسبابًا أكثر للعمل بجد أكبر غدًا: ربما تكون مخاطرة لم أخضها سابقًا، أو تحديًا لم أعتقد للحظة أنني سأجتازه، أو رسالة كنت بحاجتها للتنفيس عن نفسي. هذا ما دفعني لإنهاء روايتي الخيالية: أنا أطارد نفسي I’m Chasing Myself..
لطالما رغبت في تأليف كتاب (وتشهد سنوات من كتابة الفصول لرواياتٍ غير مكتملة على ذلك). لكنني لم أكن في أفضل حالاتي عندما نُشرت تلك الرواية، وحرمني انعدام الاستقرار من بذل أفضل ما لديّ في تأليفها.
وتطلب الأمر عامين لأرى أن عملية كتابة روايتي كانت بعيدة أشدّ البعد عن الخِفة. على الرغم من الأفكار التي كانت لدي، كنت بلا تركيز وأعاني في سبيل تقديم عملٍ يُرضيني. ولكن عندما انتهى كل شيء، علمت أن لدي شيئًا أفخر به. كان الكتاب جزءًا مني، وشهادة على كل ما أحب فعله، وإثباتًا على أنني أستطيع إنهاء شيء بدأته وتحويل فصل إلى عشر.
بالنسبة لي، هذا يكفي لاستمرّ، حتى لو كان الطريق أمامي طويلًا قبل أن أغدو الكاتب الذي أريده.
الكتابة صعبة، ولكن لسبب وجيه
لقد وجدت هذا الاقتباس مكتوبًا -بخطٍ خجول- على هامش رواية [حكاية الزمن الحاضر – A Tale for the Time Being بقلم (روث أوزيكي Ruth Ozeki)].
الدرس الذي يقدمه هذا الاقتباس هو درس المسؤولية. عندما يجد الكتاب الإثارة والتركيز والإبداع والثقة، فمن يستفيد من العالم الذي يبتكره؟ القراء.
على الرغم من اختلاف مقاييس تركيز القارئ بناءً عن جمهورك (قد تكون الرواية الخيالية 5 بينما يكون التسويق بالمحتوى 10)، فإن كل كتابة موجّهة للجمهور تقدم تجربة للقارئ الذي يرغب في الاستمتاع بها، وتعلم منها، أو تتعلق بها.
هذا لا يُقصي ما تريده شخصيًا من الكتابة. عندما تكون مدفوعًا بالهدف والرغبة الصادقة، فإنك تنقل حقيقة القراء الذين يشاركونك نفس الدافع. أنت تبني مجتمعًا من خلال الكلمات التي تنبض بالحياة.
إذا كان ثمّة مَن يريد رؤية العالم من خلال عدستك، فإن مسؤوليتك ككاتب هي أن تجده في داخلك. ضع القراء أمامك على المكتب، وتحدث معهم، وتعلم منهم، واسترشد بتجاربهم، وأظهر لهم عالماً لم يروه من قبل.
المصدر: ?What are the hardest things about writing
إن أعجبتك التدوينة، فأجزم أن تدوينات زملائي ستروقك أيضًا:
2 فكرتين بشأن “الكتابة: سهلة أم صعبة؟”