كنت عديم النفع لمعظم حياتي.
اقتصرت مسيرتي المهنية في مجال التكنولوجيا على إنشاء شرائح للاجتماع السابق، وتعديل شرائح الاجتماع الحالي، واستخلاص المعلومات بعد كل اجتماع! ومع كل ترقية، كانت بعض الوظائف ذات الطابع التمويلي تدفعني لإنجاز المزيد من جداول البيانات، مع بقاء سير العمل ذاته.
في بعض الأحيان، كنت أعمل ضمن فريق التخطيط الاستراتيجي أو أؤدي العمل لصالح صناديق رأس المال الاستثماري “VC funds”، لكن العمل متطابق أساسًا؛ إجراء تحليل، وإقناع الناس بصحّة ما توصلت إليه، ثم الانتقال إلى المهمة التالية؛ كل ذلك دون وجود أي مصلحة في الفكرة.
احتقرت كل دقيقة من عملي. وكرهت صنع الشرائح، وكذلك جداول البيانات. وحقدت على الحفلات المزيفة الهادفة لإشباع غرور المؤسس.
باختصار، كرهت كل ما اعتدت فعله طيلة اليوم. لكنني أدمنت مكاسب فعل هذه الأشياء؛ السلطة والهيبة والمال. يا إلهي على المال! اشتريت بفضله أشياء لم أكن لأحلم بها: رحلات نهاية الأسبوع إلى (ماتشو بيتشو Machu Picchu)، وحذاء ركض من (لولو ليمون Lululemon) بقيمة 120$، واشتراك في نادي “Barry’s Bootcamp”.
كانت حياة مُسكِرة?.
ثم ضربت الجائحة، وفجأة، مررت بما قد يصفه الطبيب النفسي “انهيار كليّ للدماغ”. أدركت أنني كنت بائسًا، وبما أنني حُبست في المنزل، فبدأ أفكر في مدى غباء مهامي اليومية، مما دفعني (حرفيًا) إلى الجنون!
تفاقم قلقي حدّ السماء، وأصبح القلق الوجودي صديقًا مقربًا. قررت التحرر من روتيني الجامد هذا.
ولحسن الحظ، منحتني الجائحة عذرًا لإعادة اكتشاف نفسي.
حائرًا مما عليّ فعله، بدأت الكتابة على (Beehiiv) كأي شخص آخر في عام 2020. جعلتني هذه “الوظيفة الجديدة” -وهو مصطلح مُبالغ فيه نظرًا لأن لا أحد يريد مني فعل ذلك ولا يُدفع لي!- أسعد مما تخيلت. صحيح أنني خسرت كل ما جعل منصبي السابق مستساغًا؛ المال والسلطة. لكن، كالسِحر، كنت راضيًا.
لذلك، قررت أن أصبح كاتبًا.
على الهامش: كان لدي آنذاك 25 مشتركًا مجانيًا، فلم أُدرك مدى غباء قراري.
أنا لا أحاجج بأن على الجميع ممارسة مهنة إبداعية. هناك (على الأرجح) أشخاص سعداء بألقاب على غرار [فتى جداول البيانات ? – فتاة الإكسل?]. ولا أملك إطار عمل أو سرّ “الحصول على السعادة بسرعة” في حياتك المهنية. فأنا لا أعلم عن حياتك شيئًا ولست متعجرفًا لأخبرك كيف تعيشها!
ما أود قوله أن ثمّة طريقة أفضل للعمل. والتي أسميّها [حالة الوجود البنّاء The builder’s state of being]:
عندما تستمتع بالتفاصيل اليومية،وتحديدًا المهام الشاقة التي تشكل وظيفتك.
الهدف من العمل هو إنجازه، وليس (تفويض العمل). عندما نركز -بإفراط- على الإنتاجية، ويكون أكبر اهتماماتنا “قياس أنفسنا”، فنحن نفقد الهدف من العمل -والحياة عمومًا- المتمثل في إيجاد المعنى داخل المهام اليومية التي تستهلك وقتنا. في حين ستعتريك نشوة عندما تنتقل من الاستمتاع بنتائج عملك إلى الاستمتاع بسير العمل.
أعترف بروعة المال والتأثير الذين تجلبهما الكتابة، لكنني أحببتها قبل جنيّ أي منهما. يُعزى قسم من نجاحي للحظ المحض، لكن أغلبه كان نتيجة استمتاعي بالحرفة. يؤدي النقر على لوحة المفاتيح الميكانيكية إلى تسريع نبضات قلبي، ليرسم الصراع بين مشاعري وعقلي عندما أكتب النثر الابتسامة على وجهي.
سأكتب لبقية حياتي ولإيقافي سيتعين عليك قتلي. أحب الكتابة لهذا الحد!
يستحق الجميع أن يحظى بحياة تمنحه طاقة بذات المستوى.
كيف تحوّل مفهوم الإنتاجية؟
أحيانًا أشعر أن هذا كله خطأ (تيم فيريس Tim Ferriss). عندما نشر اعمل أربع ساعات فقط في الأسبوع عام 2007، لم يتوقع سوى قلة أن يصبح من أكثر الكتب مبيعًا. لكنه وصف في كتابه طريقة الرأسمالية لاستخدام الوزن الساحق للنظام الاقتصادي ضد نفسه! من خلال الجمع بين تدفقات الدخل السلبي “Passive income” والعمالة الأجنبية منخفضة التكلفة وحيل الإنتاجية، يمكنك أن تعيش أسلوب حياة “محدثي النعمة New rich” وتتحرر.
سألتمس لفيريس عذرًا بأنه انتوى منح الناس وسائل لإعادة فحص علاقتهم بالعمل.
إنما لسوء الحظ، وكما كان متوقعًا، مال القراء للتغاضي عن المدلولات الفلسفية. فكان أن شجّعت فكرة الاكتفاء بالعمل لأربع ساعات أسبوعيًا ثقافة الاستهلاك. حيث خلقت صناعة كاملة قوامها محتالو ثقافة المشاريع الجانبية الرقمية الذين صوّروا أنفسهم كـ…
برجوازية مثقفة.. إنما رقمية!
تعلم ما أتحدث عنه:
- تجدهم يغردون حول بناء “شركات قابضة شخصية”.
- يتفاخر الرجال /غالبًا ما يكونون رجالًا/ على تيك توك حول استخدام عمالة الأطفال الصينيين لعمليات البيع عبر سلسلة التجزئة (الدروب شيبينج/Drop Shipping) على “إتسي Etsy“.
- شاب في 23 من عمره يتحدث -على لينكدإن- عن كيفية بناء مصدر دخل سلبي من “Airbnb”
- صنّاع محتوى على يوتيوب يتفاخرون بكيفية تأسيسهم عدة شركات، ويعرضون تعليمك فعل المثل شرط شراء الدورة التدريبية “مقابل 299$ فقط”!
أعتقد أنك تُدرك الآن لمَ يضطر هؤلاء الأشخاص إلى ملء معدتهم بـ Athletic Greens والغوص في حمامات الجليد؛ حتى يتمكنوا من الشعور بشيء ما.
عودة الابن الضال
كان (فيريس) أحد الذين توصلوا لهذا الإدراك، فتخلى عن جذوره: محترف الإنتاجية.
في عام 2020، خصص حلقة في مدونته الصوتية ليروي قصة تعرّضه لاعتداء جنسي -لسنوات- في طفولته، وكيف قمع ذكرى صدمته طيلة حياته.
غير أنها طفت على السطح عندما بدأ ممارسة التأمل وتعاطي العقاقير المخدِرة. فقرر -بعد سنوات من محاولة التعافي- أن الوقت قد حان لمشاركة تجربته علنًا لألا يبقى سره “يخنقه”، وأمل، من خلال نشر الحلقة، مساعدة الآخرين على تقليل شعورهم بالوحدة خلال رحلة علاجهم.
يربط في هذه الحلقة، التي يثقُل على النفس سماعها، بين عقلية هوسه السابقة بتخطيط وتنظيم كل تفصيلة ومنظوره الحالي بأنه كان يحاول الهرب من شياطينه من خلال التحكم في كل شيء في حياته. وهو يصف نفسه الآن بأنه “خبير في عدم التحسين”. صراحةً، أشعر أنه قرأ تدوينة العزيز سفر عيّاد ?
الصورة الأشمل
في هذه المرحلة، إذا لم تشعر -على أكثر من جانب- أنني مخطئ، فأنت لا تتفاعل بتعمّق في النقاش. أدرك أن الفقر موجود. وأدرك أنه لا يجدر بي الحكم على كيفية محاولة الناس التحرر من عجلة الهامستر. وأتفهم أن المال -وليس الإشباع العاطفي- هو الغاية من وراء العمل. أعلم كل هذا!
ما أتحدث عنه هو شيء أشمل، أن المكان الذي يجب أن تعمل بجد فيه هو كل شيء.
عليك أن تكرّس نفسك لقضية حياتك
وللمفارقة، تأتي كل محاولة للتخلص من العمل -في سبيل استعادة السعادة- بنتيجة عكسية؛ إذ تترك فجوة في روحك تندفع فيها مشاعر عدم الأمان والمخاوف. المهم استغراقك بالأشياء التي تجلب لك البركات.
قال رالف والدو إيمرسون ذات مرة:
“ليست غاية الحياة أن تكون سعيدًا. بل أن تكون ذو نفع، أن تكون عطوفًا، أن تحدث الفرق الذي يُثبت أنك استمتعت بجودة الحياة”.
إذا كان بمقدوري خوض تحدٍ معك فسيكون: غدًا، بينما يمضي يومك، اختبر كيف تقضي لحظاتك الثمينة. احتفظ بلوح ورقي بجوارك وسجّل كل ما تعمل عليه. وإذا وجدت، كما فعلتُ خلال الجائحة، أن معظم مهامك تجعلك بائسًا، فربما حان الوقت للتغيير.
واسمح ليّ باستكمال فكرتي على لسان الزميلة بشرى السيف في حديثها عن حقك المسلوب من المتعة.
المصدر: Devote Yourself to the Cause of Your Life