الوقت عملة نادرة، والحياة قصيرة، وحبيبات الرمل تنزلق عبر الساعة الرملية، ومعها هدية العالم الثمينة. بمجرد انقضاء اللحظة، فإنها تختفي للأبد.
نعلم جميعنا ما سبق. ومع ذلك، نعاني في العمل والمنزل، [غيبوبة تشتت] حدّ تحول قتل الوقت لمرضٍ مزمن!
ماذا نعرف عن قتل الوقت
قصة مارك
أتذكر حين بدأت التفكير في هذا الأمر. كنّا في عام 2017، وكنت أعيش في نيويورك، حيث ما لم أجد رفيق سكن، فسأفلس. كنت أدفع مقابل غرفتين في شقتي، وكان عقد الإيجار ممضيًا بإسمي. ولمّا لم يرغب أي من أصدقائي في الغرفة الاحتياطية، نشرت إعلانًا على “كريجزليست Craigslist“.
بعد ساعتين، تلقيت ردًا من مارك، طالب دكتوراه في الحادية والثلاثين. وبعد دعوته للتجول في الشقة، وبما أنه بدا شخصًا لطيفًا، فقد دعوته للعيش في الشقة.
منذ لحظة اعتلاءه درج البناء الضيق في بروكلين، تحدث مارك بصوت خافت.
كانت لديه انحناءة طالب في الصف الثالث الابتدائي، يحلم بأن يُنتقى أولاً في لعبة كرة القدم، ولكن دائمًا ما يكون آخر الخيارات. كان، كهؤلاء الأطفال، غاضب من نفسه لا من العالم. لا مظاهر خارجية لهذا الغضب. لكن داخليًا، نجد خليطًا من مشاعر الألم وانعدام الأمان.
قضى مارك فترات الظهيرة بين غرفة نومه وغرفة المعيشة، حيث يجلس قبالة نتفلكس. وعندما يرزح الألم بثقله غير المرئي على جفنيه، يفقد الوعي.
أحيانًا، كنت أعود إلى المنزل في السادسة مساءً لأجده في حال يُؤثى لها. لاحقًا، اكتشفت أنه كان يتعاطى أدوية للقلق كل صباح، ويثمل لينام حتى المساء.
وللمفارقة، فقد كانت أطروحته للدكتوراه حول علاج إدمان التبغ، وللأسف، لم يكن ذلك علاجًا لإدمانه. لقد علق بين طرفيّ كمّاشة: الوحدة وتبخّر حسابه المصرفي. وهكذا، تحول قلقه إلى اكتئاب قاتم؛ ليس حزنًا عاديًا، وإنما تبلّد مشاعر؛ حيث لم يعد يشعر بأي شيء.
بدأ يتأخر في دفع الإيجار، ولم يتحدث أبدًا عن أصدقائه، وذات مرة عاد إلى المنزل مصابًا بكدمات وكسر في ذراعه نتيجة نوبة صرع.
وورغم تصاعد الفوضى في حياته، ظل مظهره هادئًا. لم يكن هدوءًا رواقيًا مصدره القوة. وإنما هدوء العاجزين؛ حيث لا شيء يستحق فالعالم شديد التعقيد. ربما كان حسّاسًا تجاه الناس ومثقلًا بالحياة، أو مرهقًا جدًا -بسبب أطروحته- لدرجة أن الشيء الوحيد الذي أراده هو “الخروج” وقتل الوقت.
قصتنا جميعًا
في مرحلة ما، خطر لي أن (مارك) يعيش داخل كل واحد منّا:
- جانب في شخصيتنا يعجز عن مواجهة تحديات العالم الحديث ولا يمكنه مقاومة جاذبية المُشتتات عنه.
- “صوت في عقلنا” يسخر من كل شيء لأن التشاؤم لا يحتاج خيالًا.
- خوف يستشري من طغيان أحكام الناس يدفعنا لاحتجاز أنفسنا في منازلنا ومشاهدة الآخرين يعيشون حياتهم على الشاشات عوض عيش حياتنا نفسها.
وكلما ظهر ذاك الجزء من شخصيتنا، تظهر الرغبة في قتل الوقت.
الرغبة في قتل الوقت متجذرة في العدمية
يبعث طول أوقات الفراغ في عصرنا على التكاسل. حيث نقضيها في حالة من الاستهلاك السلبي؛ ما بين الوجبات السريعة التي تُسمن ولا تغني من جوع، والبرامج التلفزيونية التي تخدّرنا عوض إلهامنا، والإعلانات التي تخلق حاجات “مُصطنعة” لا يُلبيّها إلا التسوق بالتأكيد!
عندما شاهدت مارك يخدّر نفسه ويكتم أنفاس عواطفه بوسادة الإدمان، خشيت أن تشبه حياتي حياته. لذلك، قررت فعل عكس ما يفعله؛ العمل ولا شيء غيره.
وهكذا، نشّطت وضعية [غاري فيّ] الصاخبة، بدءًا من تفقّد البريد الإلكتروني قبل النهوض من السرير وصولًا لقراءة مقال أثناء انتظار وجبتي في الميكروويف.
رأيت حياة العمل الجاد حياةً فاضلة. لم أكن مدفوعًا بحلم الثراء، إلا أنني وقعت ضحية الإدمان بدوري: أصبحت [مدمن عمل Workahol].
باستذكار الماضي، أدركت أنني بالغت! إذ دفعتني رغبتي في تجنب قتل الوقت بعدميّة، لخلط الجيد بالصعب، والصعب بالمُثمر.
هل الترفيه قاتل للوقت؟
عرّضتني عقلية (العمل فوق كل شيء) لتوتّر أكثر مما أردت. الآن، أبحث عن طرق للتخلّص من هوسي بالعمل والاستمتاع بوقت الفراغ دون تبديده كيفما اتفق.
العمل تقوده النتائج. أنت تعمل لتصل لنتيجة تُعتبر مقياس جودة وقتك. في المقابل، يجب تثمين وقت الفراغ الجيد. لن تضمن المتعة بالبقاء نشطًا، ولكن الحفاظ على نشاطك يُبقيك حيًا؛ فالقلب يموت في لحظات الكسل. إذا كان العمل مدفوعًا بالنتائج النفعية، فوقت الفراغ مرتبط بالوعي الحدسي “Intuitive awareness”.
رغم أننا لا نتوقع تحقيق (غاية) من وقت الفراغ، لكن لا بدّ أن يكون نافعًا بشكلٍ ما. على سبيل المثال، رأى الإغريق أن وقت الفراغ هو وقت التعلم. في الواقع، أصل كلمة مدرسة باللغة الإنجليزية “School” هو “skole” اليونانية والتي تعني [وقت الفراغ].
لكن الترادف بين المدرسة وأوقات الفراغ اختفى في عالمنا المهووس بالعمل والإنتاجية!
يبدو نمط الراحة هذا فنًا منسيًا اليوم؛ فللرأسمالية أسلوبها لتحويل الفراغ إلى خطيئة. وعوض رؤية كيف يمكن الوصول للحكمة عبر أوقات الفراغ، نرى الأخيرة من منظور اقتصادي: كما لو أن المقايضة وحدها مَن يولّد قيمة.
هل الوقت والمال وجهان لعملة واحدة حقًا؟
بالطبع لا! لأن ذلك يعني أن الوقت الذي يمضي دون جني المال هو وقت ضائع. ولكن في أوقات الفراغ فقط يمكننا سماع زقزقة الطيور، أو الاستماع إلى أصداء الكون.
من وجهة نظري، يمتثل العمل والتسلية لمفاضلة الاستكشاف والاستغلال “The exploration, exploitation trade-off“:
- يسترشد الاستكشاف بالحدس وتقوده البهجة والمغامرة دون انتظار نتيجة، ونراه في الأنشطة المثيرة للاهتمام (والتي ليست بنّاءة بالضرورة).
وكما يحرمنا السعي خلف السعادة .. السعادة بحد ذاتها، تفرّغ محاولة جعل وقت الفراغ مفيدًا النشوة منه. - في المقابل، تندفع مرحلة الاستغلال نحو الهدف النهائي “أسرع من متسوق في الجمعة البيضاء”! هي أفعال مقصودة يحركها العقل، حيث يُقاس الأداء بالنتائج.
اعمل والعب واسترخ.. فقط لا تقتل الوقت!
لم ينخرط (مارك) أبدًا في أي نوع من أوقات الفراغ المُرضية لأنه خدّر نفسه أثناءها، ولم ينجز عمله أيضًا. لقد أمضى الكثير من ساعات عمله في قتل الوقت أيضًا، لأنه لم يُدرك ثمن الوقت الباهظ.
لا أحد يعتقد أنه سيشيخ، لكنها سنّة كونية. يقودنا تركيز العالم الغربي على العمل إلى تقييم أنفسنا على أساس الإنجاز بدلاً من تقييمنا لوقتنا. بينما نمضي في الحياة، يجب أن نتأرجح بين انضباط العمل والكمال في أوقات الفراغ.
لكن في كلتا الحالتين، يجب أن نتذكر ندرة الوقت فلا نقتله أبدًا.
شكرا على هذا المقال الحساس، خاصة في وقتنا الحالي العصر الرقمي أشياء كثيرة تقتل وقتنا، قتل الوقت فعلا جريمة… قتل الوقت معناه إنفاقه فيما لا يفيد، والإنسان العاقل لا يضيع وقته بل ينظمه حسب الأولويات.
بارك الله فيكِ
صدقت في كل كلمة 🤲🏼