شعاري لتطوير أي مهارة: التقليد، ثم الابتكار.
أؤمن، مخالفًا بذاك المنطق، أنه كلما قلّدنا الآخرين، زادت سرعة اكتشافنا لأسلوبنا الفريد.
في عالم الترفيه، نجد سلسلة طويلة من الكوميديين الذين حاولوا تقليد بعضهم، وفشلوا، ثم أصبحوا عظماء: حاول جوني كارسون “Johnny Carson” تقليد جاك بيني “Jack Benny”، لكنه فشل وفاز بستة جوائز إيمي. بعد ذلك، حاول ديفيد ليترمان “David Letterman” محاكاة أسلوب جوني كارسون “Johnny Carson”، ثم ماذا حدث؟ فشل لُيصبح أحد كبار مقدمي البرامج التلفزيونية في أمريكا!
قال كونان أوبراين Conan O’Brien، مستلهمًا من تأثيره في قلوب جمهوره:
رغم ذلك، يصرّ المبدعون اليوم على العكس! يرفضون تقليد الآخرين ويصرون -بعناد- على الأصالة، التي يعتبرونها أسمى فضيلة – حتى عندما يتعلق الأمر بالجودة. قد ينكرون طموحهم نحو الأصالة عندما تتحدث إليهم ، لكنهم يكشفون ذلك في أفعالهم. بشكل عام ، يقضي منشئو المحتوى وقتًا أقل بكثير في تقليد أبطالهم مما يقضونه في محاولة صنع شيء جديد. أسميها مرض الأصالة The Originality Disease – طاعون منتشر يجعل المبدعين يشعرون بالخوف من تقليد أساليب الآخرين.
قد تكون المشكلة أسوأ بين الكتاب ، الذين يتحدثون عن حرفتهم بمستويات من الغموض التي عادة ما تكون مخصصة للشيخوخة. سيكون الكتاب أذكياء للتعلم من المجالات الأخرى ، على الرغم من ذلك.
لا أودّ تشتيتك، لكن لم أستطع منع نفسي من مشاركة تدوينة أستاذنا أحمد مشرف التي تتمحور حول ذات الفكرة.
كوينتين تارانتينو ?
يتبادر مخرجو أفلام هوليوود إلى أذهاننا بسبب رؤيتهم آلهة الإبداع والابتكار؛ عندما ينظر الناس إلى كوينتين تارانتينو، يرون مبدعًا مجنونًا يتمتع بموهبة فريدة في صناعة الأفلام الأصيلة. لكن “أصالته” جاءت من التقليد. إذ اشتهر تارانتينو بمحاكاة مشاهد من أفلام أخرى والبناء عليها، وقد قال ذات مرة:
“أنا أسرق من كل فيلم أنتجته السينما”
بالنظر إلى ما قدّمه تارانتينو، أبتهج بتجسّد مفارقة أن التقليد والابتكار لا يتعارضان، بل يعملان بالتوازي.
على عكس البعض الذي يغوص في تفاصيل النقد السينمائي، أحضّر بعض الفشار واستمتع بالفيلم فحسب.
الأفلام -بالنسبة لي- ترفيه خالص؛ فرصة للهرب من عالم المسؤوليات والدخول في نشوة قصة آسرة.
واعتقدت أن ذاك حال الجميع حتى شاهدت فيلم جوكر Joker. للمخرج تود فيليبس. راعى الأخير جميع التفاصيل الدقيقة؛ حتى الطريقة التي عززت بها النوتة الموسيقية الرحلة العاطفية للفيلم (استخدمت الملحنة [هيلدور غونادوتير Hildur Guðnadóttir] آلة التشيلو في المشاهد الافتتاحية لخلق التعاطف مع البطل. ولكن بعدما يكشف الجوكر عن جانبه المظلم واضطرابه الداخلي، ترتفع أصوات الأوركسترا. وكلما زاد غضبه، ازدادت الأوركسترا علوًا!).
علمت هنا أن تعامل المبدعين مع الفن مختلف عنّا كمستهلكين: هم أكثر “مقصدية”. يشاهد المخرجون الأفلام ليس فقط من أجل الترفيه، ولكن أيضًا لمعرفة كيفية صنعها.
وبوعي أو عن غير قصد، يطورون مخزونًا للاستيحاء ومن ثم الابتكار في عملهم.
يتبادر إلى الذهن هنا جورج لوكاس “George Lucas”. فلتقديم حرب النجوم Star Wars، عاد إلى تعاليم جوزيف كامبل “Joseph Cambell”، الذي أشتهر لأعماله في الميثولوجيا المقارنة وعلم الأديان.
وضع كامبل عبر نظرية البطل النموذجي التي ظهرت في جميع أنواع القصص عبر التاريخ. اليوم، تُعرف باسم “رحلة البطل The hero’s journey“. وهكذا، أثناء كتابته حرب النجوم، استلهم لوكاس من أشهر كتب كامبل: البطل بألف وجه.
شعر لوكاس أن ثالوث (الأساطير والفولكلور والحكايات الخرافية) قد اختفى في الغرب، وأراد أن يعيد فيلمه الجديد إحيائه. من أجل مواءمة القصة مع الموضوعات الكلاسيكية التي تردد صداها في العديد من الثقافات البشرية، أعاد كتابة مسودة فيلمه بالكامل لتتوافق مع رؤية كامبيل.
ولو عانى لوكاس من مرض الأصالة، لما كانت حرب النجوم على ما هي عليه اليوم!
مرض الأصالة ?
لماذا نُصاب بمرض الأصالة هذا؟
لدي 3 تفسيرات..
التفسير #1 (الأوضح) :: التباس مفهوم الإلهام
يأتي الإلهام الأكثر جاذبية من الإعجاب (وربما حتى الهندسة العكسية reverse-engineering) لعمل الآخرين. لكن يعتقد كُثر أن الإلهام يجب أن يضرب المرء، كصاعقة! يخشون ألا تزورهم (ربّة الإلهام) إذا كانت أذهانهم “ملوثة” بإنجازات الأوليّن. وخلال سعيهم الأعمى للأصالة، يتجنبون دراسة أي إبداعات سابقة خوفًا من تلطيخ عقولهم بوصمة التأثر. بدلاً من الوقوف على أكتاف الذين سبقوهم، تجدهم يبحثون داخل أنفسهم عن فكرة رائعة.
التفسير #2 (الأدقّ) :: الولع بالأصالة
أعتقد أن مصدر هذه الجزئية الأوساط الأكاديمية، حيث يدرس الباحث الذين سبقوه، ولكن فقط بُغية فعل شيء مختلف.
نظرًا لإصرار المجلات العلمية على المساهمات الأصيلة، يتحفّز الأكاديميين لدراسة أشياء لا يدرسها أي شخص آخر. لكن تكمن المفارقة هنا في الأصالة لا تعني الفائدة؛ يركز الأكاديميون -بشدة- على هدف “لم يكتب أحد عن هذا من قبل” لدرجة أنهم ينسون أحيانًا تقديم مساهمات مفيدة للمعرفة البشرية!
التفسير #3 (مجرد تخمين) :: الهوس بالذات
ربما تعود جذور مرض الأصالة داخلنا إلى اجتهادات فرويد، والتي لا تزال رؤيتنا لعلم النفس البشري تستند إليها. إلى الحد الذي تبدو فيه أفكار مثل الأنا والعقل الباطن بديهية؛ فقط لأنها كانت مؤثرة للغاية.
انتشرت أفكار فرويد على نطاق واسع، حتى شقّت طريقها إلى (سلفادور دالي – Salvador Dalí) الذي قاد حركة الرسم السريالي في أوروبا. وعوض محاولة تصوير الواقع مثل الواقعيين أو تفسيره مثل الانطباعيين، اتجه السرياليون للداخل ورسموا معالم وعيهم. رفضوا المنطق والعقل لصالح الرؤى المستوحاة من الأحلام.
بعد ذلك، ربما يكون عهد المواد المحفزة للهلوسة -في الستينيات- قد عمّق صلتنا بعوالمنا الداخلية.
مع نمو حركتي حب الذات وحرية التعبير “التوأم”، رفض الناس تصريحات المسيحية السلطوية، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية المرعبة، رفضوا أي شيء يمتّ للأرثوذكسية بصِلة.
بالتوازي، وعوض النظر للخارج بحثًا عن إجابات، تحوّل الجميع للداخل.
تسارع هذا التوجّه مع ظهور العلاج والتأمل؛ مجالات يصرّ المدافعون عنها على أن الذات تعرف أفضل وأن الإجابات موجودة في داخلنا.
نحن نرى أنفسنا جُزرًا متناهية الصغر ?
وتلك آلية تفكير معاصرة بشكل فريد. فلطالما رأى المسيحيون الأوائل أن حياة الفرد مليئة بالثغرات. ولذا، عوض عزل أنفسهم عن المؤثرات الخارجية، رحبوا بالإله في حياتهم وتركوه ينمو فيهم و”داخلهم” كزهرة الربيع “Springtime flower”.
يقال أن الفن يعكس روح العصر. لذا ربما يكون تفكير عصرنا العلماني قد تغلغل في عقليتنا الإبداعية أيضًا.
في عالم الفن، زادت اللوحات تجريديّة لتعكس تجربة الفنانين الذاتية. وكثيرًا ما يهدفون لجذب الانتباه بأصالة عنصر الصدمة عوض الجودة. هذه العبادة النرجسية للذات تجعل الناس يرفضون المبادئ. مع تحولنا إلى الداخل من أجل الإلهام، حوّلنا الأصالة إلى فضيلتنا الجوهرية.
البديل؟ السعي نحو الحقيقة ?
على حد تعبير كليف ستيبلز لويس، المشهور بخياله الخصب، والذي ظهر في قصص مثل سجلات نارنيا:
تتماشى كلمات لويس مع فرضية الفيلم الوثائقي الممتاز [لماذا الجمال مهم Why Beauty Matters] للفيلسوف روجر سكروتون Roger Scruton.
افتتح (سكروتون) فيلمه بفكرة أنك لو سألت أي شخص -قبل القرن العشرين- عن غاية الفن، فسيجيبك: “لتجميل الأشياء” ولكن بدءًا من لحظة .. مبولة دوشامب Duchamp’s urinal في عام 1917! تغيّرت الغاية إلى صدمة المشاهد.
لاستقطاب الأنظار، أربك الفنانون الجمهور وخرقوا المحرّمات. وبدلاً من السعي خلف هدف الجمال الموضوعي السامي، انكمشنا نحو الداخل وكانت النتائج قبيحة للغاية.
يشدد (سكروتون) على أن لغتنا وموسيقانا وأخلاقنا أصبحت مُهينة بشكل متزايد ومتمحورة حول الذات أيضًا. ويُلقي اللائمة بانحدار الجمال على التمركز حول الذات في الحداثة والانفصال غير المنطقي عن التقاليد.
لا تظنّنَي أدافع عن الجمود
أحب رؤية الإنسانية تبتكر، ويمكن للمبالغة في تثمين التقاليد أن تحد من التطوّر.
يتبادر إلى الذهن هنا فنانو مصر القديمة. لقد تدربوا على الكتابة بخط جامد، ولم يكتمل تدريبهم إلا بعد تمكنهم من نحت الصور والرموز بوضوح في الحجر، وفقًا للقواعد المعمول بها. كما كتب (إرنست غومبريتش Ernst Gombrich) في قصة الفن:
نتيجة فلسفة التقليد بدون ابتكار، لم يتغير الفن المصري كثيرًا. بعد ألف عام، تلقت الأعمال الجديدة الشبيهة -إلى حد كبير- بأعمال الأجداد إشادة كبيرة. تضمنت بعض التغيير، وتطويرًا بسيطًا، وشيئًا من الاستحداث. كانت جامدة؛ تقليد دون ابتكار.
لا يُجدي فعل عكس ما فعله المصريون نفعًا كذلك. الابتكار دون المرور بالتقليد استراتيجية حمقاء. والتاريخ خير شاهد:
- توصّل أينشتاين للنسبية العامة عبر عقود من دراسة الفيزيائيين الكلاسيكيين، الذين بنى أفكاره لاحقًا على أفكارهم.
- تدّرب العديد من الموسيقيين المبدعين لساعات على السلالم الموسيقية بغية التعرف على قوى قدواتهم الإبداعية.
- في عالم الكتابة، أعاد (هانتر طومسون Hunter Thompson) كتابة غاتسبي العظيم -كلمة كلمة- حتى يستشعر معنى تقديم رواية رائعة [الخوف والبغض في لاس فيغاس].
- أعتاد (روبرت لويس ستيفنسون Robert Louis Stevenson) نسخ الفقرات التي استمتع بها بحذافيرها، وبمجرد أن يألَفها، كان يُلقى بالكتب إلى الجانب الآخر من الغرفة ويُجبر نفسه على إعادة كتابة تلك الفقرات غَيبًا.
اليوم، يتردد الكتّاب في الترويج لهذه الاستراتيجيات المقلِدة. ربما ينبع نفورهم من كيفية تعامل المدارس مع كلمة الانتحال المرعبة! يحقننا المجتمع بالخوف من الانتحال، حيث يعلمنا الخشية من أي شيء له رائحة تشبه التقليد.
الانتحال جريمة بلا شك
إنما تكمن المشكلة في أن خوفنا المعذِّب منه يحرمنا من مزايا عديدة. على سبيل المثال، فقدنا القدرة على التمييز الدقيق -والمهم- بين سرقة أعمال الآخرين دون الإشارة إليهم (وذاك سيئ بلا ريب) والترويج لأسلوب /قيم الكاتب الذي نحبه.
كيف تغيّر مفهوم التقليد
إن أصل كلمة “التقليد” هو أحد مفضلاتي. في زمن شكسبير، كانت كلمة “قرد” تعني “الرئيسيات” و “التقليد”. ربما يشير أصل الكلمة إلى تشكيل [علم التقليد] جوهرنا.
وعبر التاريخ الإنساني، حدث معظم التعلم بالمحاكاة عبر التلمذة الحرفية، يتبادر إلى الذهن (ليوناردو دا فينشي Leonardo da Vinci).
لم يتلقى أي تعليم رسمي تقريبًا، لكنه حظي بأول تدريب مهني في سن الرابعة عشرة. استغلّ الوقت الذي أمضاه في مُحتَرف معلّمه في دراسة الرياضيات، وعلم التشريح، وتقنيات الرسم، وجماليات الهندسة.
بأسلوب “التقليد ثم الابتكار” الحقيقي، تجلّت أوجه التشابه الواضحة بين ما رصده دا فينشي أثناء فترة تدّربه ونتاجه الفردي لاحقًا. في الواقع ، كان من أشهر تماثيل معلّمه المحارب داوُد الشاب منتصبًا فوق جثّة جالوت (يُعتقد أن علاقتهما كانت وطيدة لدرجة أن دا فينشي وقف “نموذجًا” لداوُد حتى ينحته فروكيو).
لذا، يُفترض ألّا نندهش من تشابهه مع لوحة رسمها دا فينشي لاحقًا في حياته المهنية، وربما ساهمت في افتتانه بتمثال داوُد لمايكل آنجلو.
لم يعد ذلك الحال اليوم!
إذ اختفى التدريب المهني لتظهر (الكفاءة). لم تعد هناك “تلمذة”، فمَن يودّ أن يغدو (دا فينشي القادم) سيتدرب في كليات الفنون.
ورافق تراجع التلمذة الصناعية تراجع التعلم بالمحاكاة. قادنا الصعود المتوائم للمطبعة والتعليم الجماعي إلى تقدير غير متكافئ للمعارف التي يمكن تدوينها في الكتب المدرسية.
خسرت البشرية مكسبها من القدرة على توسيع نطاق نقل الحقائق بتركيزها المُفرِط على الأفكار القابلة للانتقال عبر الكتب المدرسية.
تعليم الكتابة على سبيل المثال
تعلمك دروس اللغة كيف تكون محررًا جيدًا؛ نتعلم القواعد والنحو لسهولة تضمينها الكتب المدرسية. لا ننكر فائدتها، لكن ماذا عن جوانب الكتابة الأعمق ولكن العصيّة على الوصف: توليد الأفكار، وتشكيل حجة مثيرة للاهتمام، وشحذ أسلوب الكتابة، والتغلب على الخوف من النقد، ومحاربة قفلة الكاتب؟
أي المهارات يُفضل تعلّمها من خلال المحاكاة؟
كلما صَعُبت صياغة (المعرفة الأساسية Core Knowledge) في كلمات، زادت أهمية تطوير المهارة من خلال التعلم بالمحاكاة.
غالبًا ما تتضمن تلك المهارات تفاصيل دقيقة يُحبّذ تعلمها عبر الحديث مع المعلم، أو مشاهدته يؤديها بنفسه. الطبخ مثالي المفضّل.
يمكن أن يجعلك اتباع وصفات كُتب الطبخ مضيفًا رائعًا للعشاء، لكنه لن يحولك إلى (غوردون رامزي Gordon Ramsay)؛ رغم معرفة كل شيف معارف إعداد الطعام الأساسية (مثل مقومات الطهي اللذيذ الأربعة “الملح والدهون والحموضة والحرارة” والمذاقات الخمس “(“الحلو، الحامض، المالح ، المرّ ، أومامي؛ اللاذع اللطيف”)” فمستويات الطهي الرفيعة محكومة بالتجربة السلسة التي تُكتسب عبر نموذج التدريب المهني الذي يمر به كل طاهٍ محترف.
ربما يصل الطهاة بمعرفة “علم” الطهي إلى مرتبة أعلى 10% من مجالهم، لكنهم بإدراك “فن” الطهي، سيصلون إلى مرتبة النخبة (=1%). هذا لأن الأطر الجامدة صارمة للغاية بالنسبة لطبيعة الواقع في المطبخ.
العمل الإبداعي مشابه للطهي
مع فرق قدرتك على تقليد المنتج النهائي للعمل الإبداعي بطريقة تعجز عنها في الطهي.
متى تتبنى التعلم بالمحاكاة؟
كلما زاد انجذابك لتعلم المهارة على يوتيوب، استفدت أكثر من التعلم بالمحاكاة. تميل “مهارات يوتيوب YouTube skills” لتكون جسمانية أكثر من ذهنية. أي يصعب وصفها بالكلمات: لا أحد يتعلم الرقص بعد قراءة كتاب. وإنما يشاهد مقاطع الفيديو التي يمكنه تقليدها ومحاكاة الشخص الذين يراه يتحرك على الشاشة، وإذا كان جادًا، فسيتعاون مع مدرب يمكنه تقديم ملاحظات فورية.
وبالمثل، كثيرًا ما تُتهم الكتب التي تتحدث عن الكتابة بالسوء جملةً وتفصيلًا، ولا يخلو ذاك الاتهام من الصحة؛ لا لأن مؤلفيّ تلك الكتب سيئون، بل لأن محاولة وضع جوانب الكتابة الأعمق ضمن نص، تجعل الأفكار اختزالية حدّ فقدانها فائدتها.
أول خطوات تطوير التعليم الإبداعي هي استعادة منافع التدريب الحِرفي. يُجبرك تقليد عمل شخص ما على التفكير في سبب اتخاذه قراراتٍ معينة.
دروس مستفادة من فنّ الرسم
يُقال أنك تكتشف هويتك في المواقف الاجتماعية؛ لأن الشخصية نسبية ولن تجد من تقارن نفسك به في ظل الوحدة. تعجبني صياغة الشاعر (جون أودونهيو John O’Donohue) حيث كتب:
“في وجود الآخر، تبدأ في معرفة من أنت برؤية انعكاسك Mirroring“.
يساعدنا التقليد في اكتشاف شخصياتنا الإبداعية لأنه يكشف عن ذوقنا وأي مراحل العملية الإبداعية تحدث طبيعيًا معنا. هذا ما يقصده الكتّاب عندما يتحدثون عن محاولة إيجاد “أصواتهم”.
من خلال التقليد، يمكنك تشكيل تدريبك المهني.
أعرف مدربة رسم تطلب من طلابها الاستماع لـ “ممانعة” عملية التقليد. حيث ترى أن صوتك الفني الحقيقي يتألق في نقطة التقاء أسلوبك الخاص مع أسلوب الرسام الذي تسعى لمحاكاته/تقليده.
أحد لحظاتي المفضلة في زيارة متاحف الفن هي عند مشاهدة الفنانين الصاعدين “يخربشون” في غرف المعرض. أحاول دائمًا محادثة بعضهم لأن المحاكاة تدفعهم للتفكّر بعمق في الفن لا رؤيته فحسب. ويمكنني -عبر تلك المحادثات- التقاط تعليقاتهم وحفظها ضمن مخزوني المعرفي.
خلال رحلة إلى المتحف البريطاني، قابلت رسامًا طموحًا اسمه فينلي Finley. كان منغمسًا في رسم أحد التماثيل اليونانية القديمة ومستهدفًا تضخيم الشعور بالحركة فيها. وجد نفسه يفكّر -مع كل خط أسود وكل “تظليلة”- بمسوّغات النحات لتشكيل الرخام بهذه الطريقة. صحيحٌ أن التمثال قديم قدم التاريخ، لكن فينلي انخرط في محادثة حماسية مع “شبح” النحّات!
يتدّرب العديد من الكتاب المحترفين على الرسم، وتلك ليست صدفة؛ فتعلّم كيف ترى العالم بعينيّ رسّام من بين أفضل ما يمكنك فعله لتصبح كاتبًا أفصح.
? وليست مصادفة أيضًا أن تكون تجاربي في كلا المجالين موضوع نشرتي البريدية الجديدة ?
تتطلب كلتا المهارتين حسًّا مرهفًا ودقة ملاحظة قوية. حيث يسعى الرسامون لفهم العالم عبر الألوان والظلال، والكتّاب عبر الكلمات والاستعارات. يُعتبر كلا النشاطين أعمال تكوين (وأحيانًا حجب انتقائي للمعلومات).
للكتابة والرسم خصائص جوهرية متشابهة، إنما تظهر بطرق مختلفة تمامًا، كما موجات الضوء المرئي والأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء هي ببساطة طرق مختلفة لالتقاط نفس الواقع.
أكثر ما يُدهشني في الرسم أنه لا يمكنك رؤية كل التفاصيل الصغيرة في مشهد إلا بعد مراقبته لبضع ساعات.
الكتابة والرسم هي تعلّم كيف ترى
ربما لهذا السبب قال (ديفيد ماكولوغ David McCullough)، معلّم رسم وأعظم كاتب سيرة ذاتية لأمريكا:
“يُكتسب التبصّر، في أغلب الأحيان، من التحديق في موجودات الطاولة التي كانت، طوال الوقت، أمام الجميع، عوض محاولة الابتكار. تلك نصيحة ديكنز الكبرى لجميع الكتاب “ارني”.
في المقطع التالي، نرى (جون غيلستراب John Gilstrap)، مؤلف سلسلة روايات التشويق “جوناثان غريف” الأكثر مبيعًا يتحدث عن استلهامه فكرة آخر أعماله خلال إجازته::
إذا استفاد الرسامون من تقليد الأعمال التي تأثروا بها، فربما يجب على الكتّاب فعل الشيء نفسه.
أيّ نوعيّ التقليد يقرّبك من الابتكار؟
هناك نوعان من التقليد: التشبّه والمحاكاة. وحين نتحدث عن التقليد، فغالبًا ما نقصد بها /التشبّه/. وذلك عندما يقلد الشخص أقرانه في المجال.
نرى ذلك في إعادة كتابة (هانتر طومسون Hunter Thompson) كل كلمة من [غاتسبي العظيم]، وفي تدرّب الموسيقيين على المقطوعات الكلاسيكية، وأخيرًا عندما درس وتبنى لاعب كرة السلة الشهير (كوبي براينت Kobe Bryant) تحركات أعظم لاعبي كرة السلة في التاريخ.
لكن بمقدور المحاكاة -تحويل الأفكار من مجال لآخر- أن تكون مفيدةً بذات القدر.
يُعتبر كتاب سيغموند فرويد (تفسير الأحلام) أحد أكثر أعمال علم النفس أصالةً على الإطلاق، لكن قلّة مَن يعلم بمقدار اقتباسه من نيتشه؛ فمفاهيم مثل الكبت والدوافع الغريزية والعقل اللاواعي ورمزية الأحلام متجذرة في شتى أعمال نيتشه.
المهم أن تكون مبتكرًا فيما تختار محاكاته، وحيثما يجب أن تبحث، إليك تلميحًا – ينمو المستقبل -جنينًا- في رحم الفن قبل أن يصبح واقعًا، لذا نجد عالم التكنولوجيا مُصغيًا لعالم الخيال العلمي::
- اشتهر ستيف جوبز بـ “شفّه” تصميم (آيباد) من (ستار تريك Star Trek)
- ظهرت المفاهيم الأولية لـفيس تايم في فيلم (2001: ملحمة الفضاء).
ومع ذلك، أحيانًا لا يكون الأمر بهذه البساطة!
كقاعدة عامة، كلما اقتربت من حافّة المجال، زادت إنجازاتك الفكرية من المحاكاة.
على سبيل المثال، في حين شكك خبراء عدة في إمكانية تحليق البشر الأثقل من الهواء، درس الأخوان رايت كتابًا يسمى حركة الحيوان Animal Locomotion وصورة طيران (أعلاه). على عكس معاصريهم، لم يحصروا تركيزهم على ما نشره العاملين في مشاريع مماثلة.
أود هنا التأكيد على نقطة مهمة.
لا يعني التقليد أن تصبح كأي شخص آخر (أو نسخةً منه حتى!)
عندما يخلط الناس بين الاستنساخ والمحاكاة، نصل لتجانس في الأسلوب يسلب المجتمع من دينامية الجماعة “Group dynamics“. اليوم، تظهر أنماط التقليد الأعمى أوضح في مجال التصميم حيث تستخدم كل شركة من شركات فورتشين 500 ذات الرسوم الكاريكاتورية اللطيفة!
تتفاقم المشكلة في البيئات شديدة التشابك، عندما يقدّم الشخص الفن لإبهار أقرانه!
عندما يمر المستجدّ في مجال ما بذات برنامج الدراسات المهنية (المعزول عن غيره)، فالأغلب تبنّيه ذات النمط العام. فما نكتسبه في التعليم المتدرّج، نفقده -ببساطة- في اختفاء المنتج الفريد!
في مقال بعنوان How the MFA Swallowing Literature، يناقش الكاتب كيف تطرح الروايات المعاصرة ذات المعتقدات عن كيفية سير المجتمع، بذات الأسلوب التبسيطي. ثم يقارنهم بأفضل الكتّاب على مرّ التاريخ، وأغلبهم لم “يكونوا “يتعلم” الكتابة:
- لم يكمل (ويليام فوكنر William Faulkner) دراسته الثانوية.
- حصل (دوستويفسكي Dostoevsky) على شهادة في الهندسة.
- تلقت (فيرجينيا وولف Virginia Woolf) تعليمًا منزليًا.
شبكات التواصل الاجتماعي: شيطان التقليد
تخلق محفزات كل منصة أسلوب إبداعٍ متجانسًا؛ تكافئ X (تويتر سابقًا) التصريحات الجريئة والعدوانية المسبوكة في جمل قصيرة، ويكافئ يوتيوب مقاطع الفيديو سريعة الوتيرة وجنونية الطاقة.
بل ويمتد تأثيرها لخارج الشابكة، إذ تقلل وفرة المحتوى المرئي والمسموع من تنوع اللهجات المحلية.
وجدت دراسة أجريت على تكساس أنه خلال الثمانينيات، تحدث 80% من عينة البحث باللكنة “التكساساوية”. انخفض العدد اليوم إلى الثلث. يلقي الدارسون باللائمة على الوسط الإعلامي:
إذا أردت الابتكار فيمن تحاكيه، فعليك أولًا النجاة من فخّ (الآن اللامنتهي / Never-Ending Now؛ الاستغراق في دورة لا نهاية لها من استهلاك المحتوى سريع الزوال) من خلال تنويع مدخلاتك، والهرب من تفاصيل مجالك، وقراءة تاريخ أكثر ومستجّدات أقل.
هل يبعدك مرض الأصالة عن درب الابتكار؟ نعم!
كما اتضح، نادرًا ما يُفلت صانع المحتوى من الجمود عندما يشعر أن أفكاره ليست أصلية بدرجة كافية. إذ قد يرسلك وجود هذا الفكر إلى أعماق دوامة داخلية ?، فمحاولة اللحاق بالأصالة يؤدي -في الغالب- إلى عكسها تمامًا.
لا بد للذين يعتبرون الأصالة أسمى فضائلهم أن يتعثروا أو يعجزا عن خلق أي شيء جوهري.
لذا، اجعلها قاعدة:
يأتي التقليد أولى، ويتلوه الابتكار لاحقًا.
المصدر: Imitate, then Innovate