لماذا قرر عالم النفس، فيليب بريكمان، وضع حدٍ لحياته في عمر 38 عامًا؟ تحاول هذه السلسلة تتبّع خيوط ذاك السؤال. علًنا ننقذ أرواحًا عانت كما عانى ذاك العالم الألمعي.
وإليك الجزئين السابقين:
والآن، نتابع..
محاور القصة
كان الأستاذ الموقر -الذي اُعتبرت مخيلته التكاملية أسطورة بين الطلاب، وعقله يمتصّ أي فكرة جديدة كالإسفنج- يحاول رفع معنوياته عبر هراء كعكات الحظ!
قبل ثلاثة أسابيع من وفاة فيليب بريكمان، تلقى صديقه الصدوق، جيفري بيج، مكالمته التي ذكر فيها أنه في مشكلة وبحاجة إلى التحدث. التقيا لتناول العشاء في مطعم محلي. كان بريكمان يائسًا كما لم يره بيج من قبل. يقول: كان حديثه يُفضي إلى..
انزعج بيج لحال صديقه حتى أنه أخذه إلى غرفة الطوارئ. لكن عندما وافقت طبيبة على رؤيته أخيرًا، تركته يرحل، مبررةً أنه لا يشكل خطرًا على نفسه. (“عاملتني كما لو كنت الشخص الذي يحتاج معالجًا نفسيًا“) انتزع بيج، الذي لم يقنعه رأي الطبيبة، وعدًا من بريكمان بأنه سيرى معالجًا نفسيًا في اليوم التالي، ووجده بيج معالجة نفسية، عبر صديق مشترك.
سُئل بايج عما يعتقد أنه حدث بعدئذٍ. فأجاب: “أؤمن أنه أقنعها بالتغاضي عن حالته. فبالنسبة لشخص يُعتبر خبيرًا في تقديّم يد المساعدة، فقد قاوم حقًا تلقيّ تلك الأخيرة“
بريكمان يستجدي المساعدة!
كان بريكمان يستجدي المساعدة في نهاية حياته. ففي حين وجد بايج معالجة نفسية، كان بريكمان يزور عيادةً بالفعل؛ لأحد أحد أفضل المعالجِات في آن أربور. وبعد وقت قصير من تناول العشاء مع بيج، ولج بريكمان مكتب كاميلا وورتمان “Camille Wortman” وأخبرها أنه يفكر في قتل نفسه!
حتى يومنا هذا، فإنها تأسف لرد فعلها، ليس بسبب ما فعلته -إذ عانقته، وأخبرته كم كان محبوبًا- ولكن بسبب ما لم تفعله. وأوضحت:
في ذلك الوقت، لم يكن لديها أي فكرة. بقدر ما يبدو الأمر غريبًا، كان من النادر جدًا -في عام 1982- أن يتلقى أساتذة علم النفس تدريبًا على منع الانتحار. بعد أكثر من 20 عامًا، في عام 2003 ، أظهر استطلاع أن 50% فقط من متدربي علم النفس أفادوا تلقيهم تدريبات على إدارة الانتحار؛ وكان هؤلاء أطباء تحت التدريب، لا علماء نفس اجتماعي.
الحقيقة أن فيليب بريكمان كان ينهار أمام علماء النفس دون غيرهم، ولم يدرِ أحد ما يفعله.
ومع ذلك، فكر الكثير منهم بعمق في التحديات المعقدة المرتبطة بمساعدة الناس، حتى بريكمان نفسه، فقبل شهر من “وفاته”، نشر ورقة بحثية بعنوان “نماذج المساعدة والتأقلم – Models of Helping and Coping“.
كيف قسّم فيليب بريكمان سلوكيات طلب المساعدة
سعى “بريمكان” جاهدًا عبر ورقته البحثية لتقسيم جميع سلوكيات المساعدة وطلب المساعدة إلى أربع فئات:
- الأشخاص الذين يعتقدون أنهم مسؤولون عن كل من مشاكلهم وحلول مشاكلهم.
- الأفراد الذين يعتقدون أنهم ليسوا مسؤولين عن أي منهما.
- أولئك الذين يعتقدون أنهم مسؤولون عن حل المشكلة وليس المشكلة نفسها.
- مَن يعتقدون أنهم مسؤولون عن المشكلة وليس الحل.
تلك الأخيرة هي ما سيجمّد الدم في عروقك. إذ تصف الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أفسدوا كل شيء ولكنهم -بطبيعتهم- عاجزون عن إصلاح الفوضى التي تسببوا بها، وبالتالي يجب عليهم تسليم مصيرهم إلى قوة خارقة دومًا. يشكّل ما يحدث مع المدمنون المجهولون Alcoholics Anonymous، كما تقول الورقة، السيناريو الأصحّ. على عكس جيم جونز Jim Jones الذي يُعتبر الأسوأ؛ قاد أكثر من 900 شخص إلى انتحارهم في مجمع طائفته في عام 1978!
قالت فيتا كارولي رابينوفيتز Vita Carulli Rabinowitz، المُشارِكة في الدراسة: “لطالما اعتقدت أن هذا النموذج هو الأبغض! وقد تساءلت -في وقت لاحق- عما إذا كان هذا هو الشيء الذي طبقه فيليب على نفسه. لا أعتقد أنه شعر أنه كان مسيطرًا”.
لكنه أحسّ بالمسؤولية عن مشاكله. وألقى باللوم على نفسه في فسخ زواجه، ولم يستطع أحد إقناعه بالعدول عن رأيه.
هل تعرّض فيليب بريكمان لغسيل دماغ؟!
قضى لأول مرة 10 أيام في ميرسيوود Mercywood؛ منشأة للأمراض النفسية في آن أربور. لكنه خرج منها في 13 مايو. لا ندري من الذي أخرجه منها-ربما والديه مع علمهما أنه كان في محنة. أو ربما خرج بسبب الاستشارة الزوجية التي كان مزمع حضورها في ذلك اليوم.
ولكن أيًا كان ما حدث، فقد وصل في النهاية إلى سطح تاور بلازا. و تقول جولي بريكمان: رأى والدي جثة ابنه في الشارع.
كانت “رابينوفيتش” جالسة على أرضية مكتبها تعمل، عندما فجعتها زميلتها طالبة الدراسات العليا بالخبر. كانت لا تزال مشاعر الفخر تجاه الاستقبال الإيجابي الذي حظيت به الورقة البحثية؛ نماذج المساعدة والتأقلم. وكانت تستعد -بالاستنداد إلى أطروحتها- لاستكمالها مع بريكمان. لكنها منذئذٍ، لم تنقحّ مواد البحث، حيث: “لم يستطع التأقلم ، ولم نتمكن -نحن- من مساعدته“.
ملاحظة، على عُجالة، حيال اختيار بريكمان رمي نفسه
حرص كل شخص تحدثت معه -تقريبًا- على توضيح هذا الجزء المروع من قصة بريكمان؛ إنها إيماءة أوبرالية، استعارة حرفية، رحلة فعلية من جوقة الشيطان لمعاناتك الخاصة. لكنها أيضًا طريقة مروعة.. تصويرية، وعنيفة للغاية، إضافة لكونها شديدة الشعبية.
قالت روكسان كوهين سيلفر Roxane Cohen Silver، التي عملت مع فيليب بريكمان باعتبارها طالبة جامعية وطالبة دراسات عليا في جامعة نورث وسترن، وهي الآن أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا: “من الواضح أنها كانت استهزاءً بالجميع. إذ اختار أن يموت حيث اعتاد الجميع رؤيته“. يشكّل برج بلازا زاوية مع معهد البحوث الاجتماعية، وربما يمكن رؤيته من نصف نوافذه. “لقد كانت وسيلة لقول: لقد خذلتموني، وهنا سأجعلكم تدفعون الثمن غاليًا“
اعتقدت (جولي بريكمان) أنها كانت رسالة عدائية لزوجة شقيقها. اعتقد (جيفري بيج) أنها كانت كذلك لطبيبته النفسية، حيث كان متأكدًا تمامًا من امتلاكها مكتبًا في تاور بلازا.
أنا كذلك انسقت للتفكير في مغزى “القفز”، ووصلت إلى استنتاجي الخاص: كان بريكمان مفتونًا بما تُدعى “نظرية عملية الخصم Opponent-process theory“، والتي تُشير لتميّز قسم كبير من التجارب الإنسانية بشعور إيجابي يتبعه شعور سلبي أو العكس بالعكس؛ مدمن مخدرات يمرّ بنشوة متبوعة بأعراض انسحاب، ضحية تعاني رعبًا يليه ارتياح. ويبدو ألّا شيء تقريبًا يعبّر عن هذه الظاهرة المتناقضة كالقفز من ارتفاع 81 مترًا؛ 4.07 ثانية من الرغبة بالصراخ “المُحرِر” متبوعة بفناء حالك السواد.
لم تكن محاولته الأولى!
ولكن بعدها أخبرتني (جولي) بتفصيل جوهري: كانت تلك محاولة الانتحار الثالثة. فقبلها بفترة وجيزة، حاول ابتلاع جرعة مُفرطة، لكنه فشل، كما حاول أيضًا القفز من سيارة والديه وسط الزحام.
سألت كوتس، الذي غالبًا ما تبنّى وجهة نظر وجودية ساخرة أثناء مناقشاتنا، حول تفسيره لقفزة بريكمان من تاور بلازا [منحها الجميع، بمن فيهم أنا، أبعادًا نفسية ورمزية كثيرة. لكن هل كانت تلك الأبعاد حقيقية؟]
فكر في الأمر للحظة فقط قبل أن يقول “لا! لا أعتقد أنه كان يفعل ذلك بهدف لفت النظر، وإنما لنجاعة الحلّ برأيه“
كُثر يمرون بطلاق. ويجد غيرهم عملهم مخيبًا للآمال. لكن قلة فقط تسعى للانتحار.
وللحديث بقية..