تخيل أنك، بصفتك عاشقًا للإنتاجية، تمكنت ذات يوم من الوصول لآلة الزمن، فقررت العودة -بضعة عقود- لزيارة مكتب أحد قدواتك في عالم الأعمال. لندعوه عبد الحليم.

تتنكر في هيئة فرّاش “Janitor” وتقرر مراقبته -لبضعة أيام- علّك تكتشف سر الإنتاجية المذهلة والقرارات الحاذقة لهذا المدير التنفيذي. إذ ربما تتعلم العادات والأساليب التي مكّنته من قلب حال المجال رأسًا على عقب!

ستندهش قليلاً، عند وصولك إلى المكتب، عندما تجد أنه بعيد عن صورة (خلية نشاط). في الواقع، سيبدو من ستراهم حولك لا يفعلون شيئًا تقريبًا!
خارج مكتب عبد الحليم، تجلس سكرتيرته -سندعوها (ماجدة)– بجانب مكتبها. ولا تبدو مشغولة على الإطلاق. تراقبها لنصف ساعة وهي تقرأ وترتب مكتبها وتتحدث مع الموظفين الآخرين الذين يمرون قبالتها. الذين لا يبدو أنهم مشغولون أيضًا. حائرًا من سبب إهدار عبد الحليم ماله على بضعة عاطلين عن العمل، تقرر البقاء لبضع ساعات أخرى.

تدرك -مع التدقيق- أن انطباعك الأولي كان خاطئًا تمامًا!

لا تفعل (ماجدة) أي شيء معظم الوقت. ولكن في كثير من الأحيان، يأتيها طلب أو تعليمات أو تنبيه من عبد الحليم فتقفز إلى العمل؛ تجيب على المكالمة، أو ترسل الخطاب، أو تعيد جدولة الموعد، أو تجد المستند المطلوب في غضون دقائق. وفي أي وقت يواجه مشكلة، تحلّها مباشرةً.

❌ لا توجد قائمة مهام
❌ لا تقديم تذكرة دعم
❌ لا رسائل تنتظر الرد على طاولة عبد الحليم أو ماجدة.

ولذلك، يمر يوم (عبد الحليم) بسلاسة وكفاءة. وعوض التعامل مع المنغصات البسيطة كالانتظار في طابور مكتب البريد. تمضي كل دقيقة من وقته في أهمّ جزء من عمله: اتخاذ القرارات.

والوقت الذي تُمضيه (ماجدة) دون فعل شيء ليس وقتًا ضائعًا. وإنما..

فترة فتور (بالمعنى الإيجابي✅)

قدرة فائضة تزيد من قابلية الاستجابة والمرونة. يُعد (وقت الفتور) مهمًا لأنه يُشير لعدم وجود مهام متراكمة، ما يتيح إنجاز أي مهمة جديدة مباشرة.
تتمثل مهمة (ماجدة) في التأكد من انشغال (عبد الحليم) بالقدر الكافي؛ لا أن يكون مشغولًا قدر الإمكان.

إذا وجدت نفسك مرهقًا أو غارقًا في حالة جمود؛رغم رغبتك في التغيير، أو محبطًا لعجزك عن الاستجابة للفرص الجديدة، فأنت بحاجة لبعض (الفتور) في حياتك.

الفتور: تجاوز الإرهاق، والمشاغل، وأسطورة الكفاءة الشاملة]

في كتابه [فتور: تجاوز الإرهاق، والمشاغل، وأسطورة الكفاءة الشاملة]، يتحدث (توم ديماركو Tom DeMarco) عن فشل معظم الأشخاص والمؤسسات في التعرف على قيمة الفتور. ورغم مرور 20 عامًا على نشر الكتاب، إلا أن رسالته الأساسية خالدة وتستحق التأمل.

عدو الفاعلية

“تكون [منتجًا كفؤ] عندما تفعل شيئًا ما بهدرٍ أقل. وتكون [فعّالًا] عندما تفعل الشيء الصحيح “

العديد من المنظمات مهووسة بالإنتاجية؛ تريد التأكد من استخدام كل مورد بأقصى طاقته وأن يسعى الجميع -سعيًا محمومًا- لاستغلال كل ثانية. بل تستعين بمستشارين خبراء لاعتصار كل قطرة من الفراغ!

وعلى المستوى الفردي، كثيرون مهووسون أيضًا بسراب الكفاءة الشاملة:

  • نُجدّول كل دقيقة من يومنا.
  • نفخر بأنفسنا للتخلي عن فترات الراحة.
  • نوبخ أنفسنا لأدنى لحظة تشتت.
  • ننظر للنوم والمرض والإرهاق باعتبارها نقاط ضعف غير مرغوبة، ونعشق (أشباه الآلهة) ممن نراهم لا يستسلمون لتلك “النقائص” أبدًا.

لكن هذا الرأي لا يعترف بأن الكفاءة والفعالية ليسا الشيء نفسه.

الكفاءة الشاملة محض خرافة.

بالعودة لـماجدة وعبد الحليم. تخيل لو قرر عبد الحليم تكليفها بمهام إضافية ليضمن أنها تقضي ساعات الدوام كاملة مشغولة. هل سيكون ذلك أكثر كفاءة؟ ليس تمامًا. يمكّنها وقت (الفتور Slack) من الاستجابة لطلباته آنيًا، وبالتالي تكون فعّالة في وظيفتها. إذا كانت (ماجدة) مشغولة بالفعل، فسيتعين على عبد الحليم الانتظار وسيتعطل أي شيء يفعله. كلاهما سيغدو أقل فعالية نتيجة لذلك.

أينما تخلصنا من الفتور، نخلق تراكمًا للعمل

كتب ديماركو:

“عمليًا، من المستحيل إبقاء كل فرد في المؤسسة مشغولًا بنسبة 100% إلا لو كنّا سنسمح ببعض (المهام الاحتياطية) أعلى مكتب كل موظف. لكن هذا سيعني وجود /نقاط اختناق/ تشلّ العمل”.

رسم الكثير منا صورة عن {خلو العمل من فترات الفتور} بسبب الطريقة السلبية التي نراه بها. في عالم يتسم بالكفاءة الجنونية، غالبًا ما يُصّور “الفتور” على أنه كسل أو عدم مبادرة. ومع ذلك، بدون وقت الفتور، نعلم أننا لن نتمكن من إنجاز المهام الجديدة على الفور، وإذا أصر شخص ما على إنجازها، فسيأتي ذلك -بلا شكّ- على ما كنا نفعله سابقًا. بطريقة أو بأخرى، يتأخر شيء ما!

قد تكون زيادة الانشغال عبثية:

“من المُحتمل جعل المؤسسة أكثر كفاءة دون تحسينها. هذا ما يحدث عندما تنحيّ الفتور جانبًا. على الطرف الآخر، يمكنك تقليل كفاءة المؤسسة ولكن تحسينها بشكل هائل. وذلك عبر إعادة إدخال (فترات فتور) تسمح للمؤسسة بإلتقاط أنفاسها وإعادة تشكيل ذاتها وإجراء التغيير الضروري”.

تعريف الفتور

يعرّف ديماركو الفتور بأنه “مستوى الحرية المطلوبة لإحداث التغيير. الفتور هو العدو الطبيعي للكفاءة والكفاءة هي العدو الطبيعي للفتور“. في حين أشار في موضع آخر “يمثل الفتور الطاقة التشغيلية التي تُضحيّ بها المؤسسة في سبيل سلامتها على المدى الطويل.

لتوضيح المفهوم، يطلب ديماركو من القارئ تخيل إحدى ألعاب الألغاز هذه ??

المساحة الفارغة تمثّل الفتور؛ إذا أزالتها، فستكون اللعبة أكفأ (نظريًا)، ولكن “ستفقد شيء آخر. فدون مساحة مفتوحة، لا توجد إمكانية أخرى لتحريك القطع على الإطلاق. النسق مثالي كما هو، ولكن إذا أثبت الوقت خلاف ذلك، فلا توجد طريقة لتغييره“.

يتيح لنا وجود مساحة صغيرة للمناورة: الاستجابة للظروف المتغيرة وتجربة أمور.. قد لا تنجح.

يتمثل الفتور في فائض الموارد. قد تكون الوقت/المال/العمالة/التوقعات. الفتور أمر ضروري لأنه يحمينا من “الاحتجاز” داخل وضعنا الحالي، وكذلك من العجز عن الاستجابة أو التكيّف في ظل افتقادنا للقدرة.

لغياب الفتور ضريبته. تُثقل الندرة -وأقصد ندرة الموارد- كاهل أذهاننا وتستنزف طاقتها التي كانت لتُستثمر في المهمة التي بين أيدينا على نحو أفضل. تضخّم الندرة تأثير الإخفاقات والعواقب غير المرغوبة.

الفتور المفرط -بدوره- غير محبّذ لأنه يُبدد الموارد ويصيب الناس بالملل.

ولكن بشكلٍ عام، يمثّل غياب الفتور مشكلة -في أحايين كثيرة- أكثر من الإفراط فيه. إذا أمضيت وقت فتور طويلًا عند جدولة مشروع، ثم سار “أسلس” مما توقعت، فلن تقضي وقت الفراغ جالسًا كصنم؛ ربما ستتعافى من مشروع سابق استغرق مجهودًا أكبر مما كان متوقعًا، أو ستعمل على إنجاز بعض المشاريع المؤجلة. أو حتى ستتمكن من تأمل سبب سهولة ذاك المشروع واستخلاص دروس للمستقبل. وما المانع لو اعتبرت وقت الفتور بمثابة مكافأتك على تأدية عمل جيد بالفعل! أنت تستحق متنفسًا في النهاية!

يساعدنا (الفتور) أيضًا على مواجهة الصدمات والمفاجآت الحتمية في الحياة

إذا جدولنا كل ساعة من وقتنا، فسنعجز عن التريث للتعافي من نزلة برد خفيفة، أو تحويل تركيزنا نحو تعلم مهارة جديدة، أو قضاء بضع ساعات مع الصعوبات التقنية.

بشكل عام، حاجتك لمزيد من الفتور تفوق توقعاتك. ما لم تكن مهمة روتينية، فستخطئ -دومًا- في تقديراتك للمدة التي تستغرقها فعلًا أو مدى صعوبتها. يتعامل معظمنا مع أفضل السيناريوهات كما لو كانت حتميّات/بديهيات، لكنها نادرًا ما تكون كذلك!

تحتاج أيضًا لوضع (مدى سرعة استخدامك للفتور) نصب عينيك، لتتمكن من تجديده في الوقت المناسب.
على سبيل المثال، يُفضّل مراجعة جدولك مرة -أسبوعيًا- للتأكد من وجود مساحة فارغة “كل يوم” وأنك لم تسمح للاجتماعات بملء وقت فراغك بالكامل.

الفتور والتغيير

في الماضي، كان بإمكان الأشخاص والمؤسسات أحيانًا تدبر أمورها دون فتور، على الأقل لفترة من الوقت.
الآن، حتى مع زيادة أهمية (الفتور) للاستمرار، فنحن أحرص -من أي وقت مضى- على التخلص منه باسم الكفاءة. يتطلب البقاء على قيد الحياة تغييرًا وتجديدًا مستمرين، الأمر الذي “يتطلب سلعة غائبة في عصرنا كما لم تغب من قبل. ألا وهي الفتور؛ العنصّر المحفّز للتغيير” بحسب ما يقول ديماركو في كتابه، “(الفتور) هو الوقت الذي يحدث فيه التجديد. حيث لا تكون مشغولاً بنسبة 100% بأداء المهام التشغيلية لشركتك. وتحديدًا عندما تنشغل بنسبة 0%!
الفتور -على جميع المستويات- ضروري لجعل المنظمة تعمل بفعالية. هو مادة تشحيم التغيير. تتفوق الشركات الجيدة في الاستخدام الإبداعي للفتور. والسيئة فقط مهووسة بالتخلّص منه”.

فقط عندما نكون مشغولين بنسبة 0%، يمكننا التراجع والنظر إلى الصورة الأكبر لما نقوم به. يسمح لنا (الفتور) بالتفكير في المستقبل. للنظر فيما إذا كنا على المسار الصحيح. التفكير في المشاكل غير المرئية.


الفتور والإنتاجية

المفارقة هي أننا نحقق المزيد على المدى الطويل عندما يكون نحظى بفترة فتور. نكون أكثر إنتاجية عندما لا نحاول أن نكون منتجين طوال الوقت.

يوضح ديماركو أن حجم العمل الذي يقوم به كل شخص في المؤسسة ليس ثابتًا أبدًا: “تتغير الأشياء على أساس يومي. ينتج عن هذا تفاوت جديد في المهام، مع تحمّل بعض الأشخاص عملاً إضافيًا (تطول قائمة مهامهم الجانبية)، بينما تقصر لدى البعض الآخر (أصحاب المناصب الأعلى)؛ نظرًا لأن الشخص الذي يسبقهم في تراتبية العمل يكون أبطأ في إنشاء نوع معين من العمل لتمريره” إن غياب الفتور غير مستدام. إذ حتمًا، ينتهي بنا الأمر بالحاجة إلى موارد إضافية.

محاولة القضاء على الفتور يؤدي إلى توسع العمل؛ لا يوجد وقت فراغ مطلقًا لأننا نملأه دائمًا.

قال عالم النفس المعرفي، عاموس تفرسكي، إن سر إجراء البحث الجيد هو أن تكون عاطلاً قليلاً عن العمل. أنت تبدد سنوات من خلال عدم قدرتك على إضاعة ساعات. هذه الساعات الضائعة ضرورية لمعرفة ما إذا كنت تسير في الاتجاه الصحيح.

التدوينة مأخوذة من زميلتها Efficiency is the Enemy (مع تغيير أسماء الشخصيات توخيًا للسريّة) ?

(*) منحوت من عنوان كتاب رائع الغرور هو العدو، أنصح بقراءته ❤️‍?

الكفاءة هي العدو (*)

2 فكرتين بشأن “الكفاءة هي العدو (*)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى