الداء والدواء في علم التركيز والانتباه

يقول شرلوك هولمز في رواية “دراسة في اللون القرمزي” الشهيرة:

أرى عقل الإنسان -في أصله- أشبَه بعُليّة صغيرة فارغة، وعليك أن تملأها بما يناسبك من أثاث. يملؤها الأحمق، أو بتعبير أصح يكدس فيها، كل ما يصادفه من أثاث من كل نوع، فتُزاحم المعرفة النافعة، أو تختلط -في أحسن الأحوال- بخردة كثيرة؛ فيجد صعوبة في جمعها.

كُتب هذا عام ١٨٨٧. تخيل كيف كان ليشعر اليوم؛ مع اهتزاز الهاتف في جيبه، وإغراق شبكات التواصل الاجتماعي له بمعلومات عديمة النفع!

سبق وبرّأنا الهواتف من تركيزنا المسلوب، واتفقنا أن في الأمر سرًا، وحان الوقت لكشفه.

الداء والدواء في علم التركيز والانتباه

تحديد ما يجب التركيز عليه صعب، وكثيرًا ما يُغفل عنه، والأهم: أنه مهارة سلبية “Negative skill” أي تتساوى فيه أهمية التجاهل المتعمَد مع أهمية السعي النَشط.

سُئل فرانسيس كريك “Francis Crick”، مكتشف المخطط الجيني الحلزوني المزدوج للحمض النووي، ذات مرة عن متطلبات الفوز بجائزة نوبل. فأجاب:

“الأمر في غاية البساطة. وسرّي أنني عرفت ما وجب تجاهله”.

يقول الكاتب جون باري “John Barry”:

يُنسب لأينشتاين قوله أن مكمن موهبته العلمية الكبرى في قدرته على دراسة عدد هائل من التجارب والمقالات العلمية، واختيار نخبتها صحةً وأهمية -ثم بناء نظرية وفقها- مع تجاهل الباقي.

والآن، عزيزي، هل تذكر تفسير سبب نسيان معظم تفاصيل ما نقرؤه؟ ربما حان الوقت لنجد حلًا فعّالًا..


يرى مورغان هاوسل “Morgan Housel” أن أفضل استراتيجية قراءة صادفها هي فكرة القمع الواسع والفلتر الضيّق. فينصحنا بأن نتهيأ لقراءة أي شيء يبدو مثيرًا للاهتمام (ولو قليلًا)، بشرط التخلَّي عنه سريعًا -ودون تردد- إن لم يُناسبنا.

واسمح ليّ بمشاركتك تدوينة ستضعك على أول الطريق.

وبعدها، ومع قراءة أي مقال أو كتاب أو تقرير، اسأل نفسك: “هل سأظل مهتمًا بهذا بعد عام؟ … خمس سنوات؟ عشر سنوات؟

ستدرك -في الغالب- أنك لن تهتم بما تقرأه بعد أسبوع؛ لكونه إخباريًا “Newsy” مثيرًا للاهتمام، لكنه ذو تاريخ صلاحية.


تشمل المعرفة الزائلة 🆕 أمورًا على غرار تقارير الأرباح الفصلية، واستطلاعات الرأي، ومعلومات السوق، والسياسة. ونجدها تجذب انتباهًا “زائدًا” لسببين:

  1. استغلال أغلبها تقلّص فترات تركيزنا.
  2. رغبتنا -نحن- في استخلاص الأفكار منها قبل فوات الأوان، ما يدفعنا لمطاردتها.

على الجانب الآخر، غالبًا ما تكون المعرفة الدائمة ♾ مبادئ وأطر تساعدنا على فهم المعلومات الزائلة.

لنأخذ مثالًا عمليًا: إذا كنت تقرأ الصحف والكتب يوميًا. فلن أشك -للحظة- بنسيانك كل ما قرأته في صحيفة، مثلًا، من عام ٢٠١١ (على أهمية أحداث تلك السنة). لكن ماذا لو سألتك عن الكُتب التي قراتها آنذاك؟

حينها، قد تُخبرني بتفاصيل بعض الكتب الرائعة التي قرأتها، وكيف غيّرت طريقة تفكيرك. وسترافقك تلك المعرفة [الدائمة] طيلة حياتك.

لهذا السبب، يدفعك سؤال نفسك عن المدة التي ستهتم فيها بالمعلومات نحو التركيز على المعارف الدائمة، وتجاهل الزائلة (وتلك آلية رائعة للتفكير بعيد المدى).


كيف تزيد تركيزك في اكتساب المعارف الدائمة؟

احفظ القصص، ركّز على الحقائق، وتجنّب التفاصيل الزائدة.

هناك مقولة أحبها: الناس لا يتذكرون الكتب، وإنما يذكرون الجُمل. ولأكون أكثر تحديدًا، يتذكرون القصص.

حتى في أفضل كتاب قرأته، ما الذي تتذكره؟ جملتان، أو بضع قصص. قد تُغيّر هذه الجمل والقصص حياتك، لكنها كل ما ستستفيده من الكتاب.

أحاول أن أتذكر ذلك أثناء القراءة. في كل تدوينة تقريبًا، وفي معظم الكتب غير الروائية:

لا داعي للالتهام والتركيز على كل كلمة. إذا استطعت تذكر بعض القصص الرائعة والسطور الملحمية، فسأعتبر أنني حققت غايتي.

ينغمس الكثير من القراء في تفاصيل لن يتذكروها أبدًا، بينما كان بإمكانهم استخراج بعض السطور التي لا تُنسى من كتاب والانتقال إلى آخر.


وفقًا لتشارلي مونجر “Charlie Munger”، لم يكن تشارلز داروين ذكيًا للغاية، لكنه أصبح عالمًا من الطراز الأول لأنه قضى حياته يحاول إثبات خطئه. فيقول:

“أعظم ما نتعلمه من داروين قيمة الموضوعية الشديدة؛ لقد حاول دحض أفكاره بمجرد ورودها إلى ذهنه. فكان يُسارع لتدوين أي شيء يدحض فكرةً أحبّها”.

هذه حيلةٌ مذهلة، وبالنسبة لمعظمنا، فأفضل طريقة لدحض المعتقدات هي التركيز مع مَن يُخالفنا الرأي.

أعترف: هذا صعب؛ إذ يسهل علينا افتراض أن من يُخالفنا الرأي ليسوا أذكياء أو مُلِمين مثلنا. وكثيرًا ما نتجاهل الأفكار الجيدة، أو نرفضها عمدًا، فقط لكوننا نكره أصحابها!

إذًا، إن عجزت عن التحليّ بالتعاطف المثالي، فبمقدورك فتح عقلك لوجهات نظر لا تتفق معها عبر إيجاد أشخاص تحترم آراءهم حول موضوع معين، والاستماع إليهم حول الموضوعات الشائكة.

والآن، عندما يتوافق هذان الأمران: شخص تحترمه يختلف معك في أمر جوهري.

فيجدر بك الانتباه؛ فالأرجح أن تكتسب معلومة ترغب في الاحتفاظ بها.

الداء والدواء في علم التركيز والانتباه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تمرير للأعلى