سئمت شيوع الإساءة إلى الذكاء الصُنعي AI. لم نشهد مشاعر سلبية بهذا الكمّ مذ بدأ الناس في ملء حماماتهم بالمياه -خوفًا من الجفاف- مطلع الألفية.
لا شك أن حجم الجدل العام حول الذكاء الصُنعي AI مفهوم. وبالتأكيد من شأن أي تقدم تكنولوجي بهذا الحجم إثارة ردّ فعل عالمي. ويبقى السؤال الحقيقي: هل أتت السايبورغ Cyborgs لسرقة وظائفنا وصناعة فننا؟
لنتحرّى ذلك.
أؤمن أن أفضل طريقة لقهر خوفك من أمرٍ ما: تعلّم قدر المستطاع عنه. وبغض النظر عن مهنتك الحالية أو مشاعرك تجاه الذكاء الصُنعي AI، أحثّك على قضاء بضعة ساعات في تعلم كيفية عمله. فمثلًا، هل تعرف لما يُشير رمز “GPT” في ChatGPT؟
المُحولات المُولّدة مسبقة التدريب
يا إلهي! تبدو كلماتٍ معقدة، لذا دعنا نبسّطها سويّة:
المُولّدة = أي بمقدور هذه التكنولوجيا بناء جمل أو فقرات بل ومستندات كاملة من خلال التنبؤ بالكلمات ووضعها متسلسلة.
مسبقة التدريب = دُرّبت هذه التكنولوجيا مسبقًا على كميات بيانات هائلة (موجودة أصلًا)؛ ما يعني أنها تعلمت بالفعل الأنماط والهياكل والمعلومات من مصادر متنوعة قبل تهيئتها لدعم مهام محددة.
المُحولات = الجزء الذكي. صُممت هذه التقنية للتعامل مع البيانات المتسلسلة “Sequential data”، مثل اللغة، عبر استخلاص العلاقات بين الكلمات أو الرموز في تسلسل بكفاءة. يساعد هذا نموذج الذكاء الصُنعي AI على فهم الكلمات الأوثق صلة ببعضها، ما يتيح له التركيز على المعلومات الهامة، حتى لو تباعدت الكلمات في الجملة، محاكيًا الذكاء البشري.
علاوة عن فائدة الفهم العميق لمفاهيم على غرار النماذج اللغوية الكبيرة “LLMs” والتوليد المعزز بالاسترجاع “RAG” والشبكات التوليدية التنافسية “GANs” ووكلاء الذكاء الصُنعي”AI agents” ومنتجات الذكاء الصُنعي الأصلي AI native products، بل يُزيل -أيضًا- اللَّبس الذي قد تُسببه هذه التقنيات الجديدة.
سيتخذ تأثير الذكاء الصُنعي على الوظائف البشرية شكلين
الأتمتة
تتضمن استخدامه لأداء المهام الروتينية -عادة دون تدخل بشري- مثل إدخال البيانات أو خدمة العملاء.
التعزيز
تعمل أنظمة الذكاء الصُنعي AI هنا على تعزيز القدرات البشرية من خلال المساعدة في المهام المعقدة أو دعمها، دون استبدال الدور البشري بالكامل. على سبيل المثال: مساندة الأطباء في تحليل نتائج التحاليل الطبية أو المحامين على تلخيص الوثائق القانونية.
إذن، ما الوظائف التي ستختفي قريبًا؟
من المرجح أن تختفي:
- وظائف إدخال البيانات.
- ممثلي خدمة العملاء.
- المساعدين القانونيين.
- أمناء الصناديق في البنوك.
ولكن ليس قبل 5-10 سنوات!
مثلما ألغت شبكات الاتصال المحلية والدولية الحاجة إلى موظفي مركز الاتصال، فربما نستغني عن بعض الوظائف في ظل تبنيّ الذكاء الصُنعي AI. وعمومًا، تشهد بيئة العمل -باستمرار- حركة تقلّبات؛ فلا نجد وظيفة تدوم للأبد!
أستطيع مواصلة الحديث حول إتاحة الذكاء الصُنعي AI وظائف أكثر (وهو ما سيحدث) أو رفعه قيمة المهارات الناعمة مثل التفاوض والقيادة والتعاطف وبناء العلاقات (وذاك حتمي)، لكنه ليس موضوع التدوينة. وإنما: كيف يلتقي الذكاء الصُنعي AI والفن.
أثارت حالة استخدام ChatGPT لصناعة المحتوى موجة غضب عارمة في المجتمع الإبداعي. وأنزعج، كأي شخص، عندما أقرأ منشورات لينكدإن أو تدوينات مكتوبة -بالكامل- بلغة ChatGPT غير المفهومة!
وكانت النتيجة الحتمية: امتلاء جميع منصات التواصل بأصوات المحترفين والمبدعين يشتكون من تدمير الذكاء الصُنعي AI المحتوى .. للأبد. وينظرون للإفراط الحالي في استخدام محتوى الذكاء الصُنعي AI نظرتهم إلى الميمات -السخيفة- في بدايات الإنترنت:
سيحتّل محتوى الذكاء الصُنعي AI المشهد لفترة.
لنتقبل الأمر ونتحلى بالصبر؛ فلن يدوم إلى الأبد. وكما قال مايك ميرلز “Mike Mearls” في مقالته المدهشة:
تشهد اللوحات والفنون المُبتكرة بالذكاء الصُنعي AI نهضة كبيرة.
وأتفهم حساسية الموضوع؛ إذ يقضي الفنانون عقودًا في إتقان حرفتهم، لتتمكن آلة سخيفة من إخراج رسومات وفيديوهات مفصلة في ثوانٍ! وفي عالم الوظائف (غير المستقرة أصلًا)، يشكل هذا تهديدًا.
وجدت هذا المنشور -الذي كتبه رسّام ألوان مائية- مثيرًا للاهتمام للغاية. يقول: اعتزم المخرج الفني لمجلة فرنسية استخدام الذكاء الصُنعي AI في الرسومات التوضيحية للمقالات. فكان السؤال: كيف يشعر الفنان إزاءها؟
هل يمكن اعتبار فنّ الذكاء الصُنعي AI فنًا؟
فازت الصورة أعلاه التي التقطتها أنيكا نوردنسكيولد “Annika Nordenskiöld” بجائزة في مهرجان (بينالي بالارات الدولي للتصوير الفوتوغرافي) العام الماضي. وتؤجج مثل هذه الجوائز شعلة الجدل حول ما إذا كان بمقدور الآلات توليد الفن.
وقد أدلت الفنانة بتصريح:
أجد الصورة آسرة وغير مريحة؛ تعلّقت عيناي -لعدة ثوانٍ- بها. أليس هذا جوهر الفن بمعناه الأنقى: نقل المشاعر من الفنان إلى الرائي؟
لا يعدو الذكاء الصُنعي AI عن كونه، كقلم الرصاص أو رذاذ الطلاء، وسيلة لابتكار الفن. ومن غير الصواب أن يقطع الشخص بماهيّة الوسيط الفني عمّا عداه.
وشخصيًا، أستسخف عدم اعتبار التطورات التقنية فنًا.
كيف اختار الفنانون تبني الذكاء الصُنعي AI؟
أطلقت غرايمز (Grimes)، إحدى مغنياتي المفضلات، موقع Elf Tech: مولد صوت بالذكاء الصُنعي AI يحاكي غنائها مجانًا. وحثّت مُعجبيها على إطلاق لخيالهم العنان، ووعدت بتقاسم عائدات أي أغنية ناجحة مناصفةً.
ولكن ليست الأمور وردية دومًا. إذ تواجه فرقة Tears for Fears، التي كانت من أوائل فرق الثمانينيات، ردود الفعل العنيفة لاختيارها تصميم غلاف ألبومها القادم “Songs For A Nervous Planet“ باستخدام الذكاء الصُنعي AI.
أود قول أن هذه الاستجابات المتطرفة تحمل طاقة مماثلة لتلك التي يروج لها قول اليمين “يأتي الأجانب ويسرقون كل وظائفنا”. ولا يُفيد هذا أحدًا برأيي. وأعتقد بوجود أرضية مشتركة حيث لا يتعايش الذكاء الصُنعي AI والفن فحسب، بل يكملان بعضهما أيضًا.
من المحتمل أنك صادفت هذه التغريدة:
بالنسبة لي، جانبت (جوانا) الصواب؛ لن يتولى الذكاء الصُنعي AI جميع أشكال الفن والكتابة.
- هل سيحلّ الذكاء الصُنعي محل كتّاب مقالات القوائم “Listicles” والتدوينات البسيطة؟ نعم.
- هل سيحلّ محل جميع كتّاب المحتوى؟ قطعًا لا.
لا يجلس الذكاء الصُنعي AI ليصنع الفن ويكتب بمفرده. ولا يشعر -أيضًا- بأي متعة في الابتكار: هذه حقيقة بالغة الأهمية يجب تذكرها.
أعتقد أن الذكاء الصُنعي AI سيُعلي من قيمة اللمسة الإنسانية. إذ يحتاج الاستثمار في الحرفية والمهارة نَفسًا طويلًا، ويستحيل التغلّب على وَقع هذا في النفوس.
متأكد تمامًا من قدرة الذكاء الصُنعي AI على تزيّيف مشاهد كاملة للألعاب الأولمبية، وبالتأكيد يمكنه ابتكار رياضيين ودفعهم لتأدية مآثر بدنية مبهرة. وطالما كان هذا ممكنًا، فلماذا -إذًا- لا نلغي الألعاب الأولمبية والبارالمبية الحالية؟ لماذا نضيع الوقت والمال والجهد على المشهد بأكمله؟
ثمّة سرّ يجعلنا نشعر بالإلهام عندما نشاهد الرياضيين المهرة يتنافسون في المسابقات الرياضية. ويجعل الناس يقفون ضمن طوابير طويلة أمام مخبز عتيق -لثلاث ساعات- لشراء كعكة الهيل.
لماذا يُنفق الناس ثمن منزل على سيارة قديمة، في ظل وجود سيارات ذاتية القيادة؟
ولماذا نجد عشرات متاجر كتب المانغا والروايات المصورة -هنا وهناك- رغم تفوّق أفلام بيكسار جودةً وتصويرًا؟
والأهم، لمَ نمتلك متاحف مليئة باللوحات الأثرية، ونضعها تحت حراسة مشددة على مدار الساعة؟
لن يغيّر الذكاء الصُنعي AI -أبدًا- ما يجعلنا بشرًا
يبدو الفن والتعبير الإبداعي مختلفين اعتمادًا عن موضوعه: الأعمال الخشبية، رقص التانغو، البستنة، أعمال السيراميك.
البشر مبدعون بالفطرة يستمتعون بالأشياء الملموسة. ولقرون، أعطينا قيمة للحرف اليدوية وحميناها.
قد تبدو وجهة نظر شديدة الرومانسية للمشكلة، ولست أقصد الاستخفاف من الفوضى التي يُحدثها الذكاء الصُنعي AI. متأكد من كون الكتّاب والمترجمين المستقلين يتصببون عرقًا الآن.
وجهة نظري: دائمًا ما نتوقع أسوأ نتيجة ممكنة، عندما لا تسير الأمور بالطريقة التي نتوقعها.
سمّها إيجابية سامة لو شئت، لكنني لا أؤمن بمفهوم تآكل قيمة الفن والكتابة التي ينتجها الإنسان بسبب الذكاء الصُنعي AI.
سلطت مقالة نشرت مؤخرًا في صحيفة الجارديان الضوء على حقيقة مفادها ارتفاع مبيعات كلًا من الأقراص المدمجة والحفلات الموسيقية الحية، وذاك رغم وفرة خدمات البث والفيديو عالي الجودة بين أيدينا.
أجده ملهمًا للغاية. تكمن القوة الدافعة وراء الظاهرة في رغبة الناس بـ”امتلاك” الفن مرة أخرى، بدلاً من ربط مجموعاتهم الصوتية والمرئية باشتراكات خدمات البث. وفي الوقت نفسه، دفع الاستياء المتزايد بشأن محنة الموسيقيين (متوسطيّ الشهرة) وشركات الإنتاج المعجبين للتواصل مع فنانيهم المفضلين ودعمهم عبر الحفلات الموسيقية الحية والألبومات. يتوجب علينا منح الإنسانية المزيد من التقدير: فالناس يحبون ويرتبطون ويرغبون في دعم الآخرين وإبداعاتهم. أعتقد حقًا أن حركة مماثلة ستحدث مع أشكال أخرى من الفن والكتابة.
يستكشف كتاب Everyday Millionaires لكريس هوجان “Chris Hogan” نتائج أكبر دراسة أجريت على الإطلاق على أصحاب الملايين في الولايات المتحدة، وشارك فيها أكثر من 10000 مشارك. يتعمق الكتاب في عادات وسلوكيات واستراتيجيات فاحشي الثراء. كانت إحدى أبرز نتائج الدراسة أن العديد من أصحاب الملايين يفضّلون قضاء وقتهم -بعد تجميع ثروة كبيرة- في أنشطة عملية بسيطة مثل الزراعة والنجارة. هذه نقطة بيانات أخرى مثيرة للاهتمام تدعم حقيقة أن الناس ينجذبون بفطرتهم نحو المساعي الإبداعية ويقدّرونها.
ختامًا
أعتقد أن قيمة الفن الإنساني ستنمو -بالتزامن- مع تزايد رقمنة عالمنا وتطوره. وربما مع اهتمام الذكاء الصُنعي AI ببعض الأعمال الدونية، سيبدأ الناس في دفع (علاوة) للإنسانية.