📩 إلى أرباب العمل: هل نعيش في رواية 1984؟

إلى أرباب العمل

تخيل بعد مائة عام من الآن، يزور أحفادنا متحفًا لأشياءً يومية شائعة من عصرنا. ماذا قد يجدون هناك؟ وما الاستنتاجات التي قد يستخلصونها بشأن مخاوفنا وتطلعاتنا وقيمنا؟

بصفتي مؤرخًا للحاضر، أود الإشارة إلى أداة تقنية صغيرة حققت مبيعات خيالية: محاكي تحريك الفأرة غير القابل للكشف “The undetectable mouse jiggler”. والذي صُمم للإيحاء بأننا نجلس في حالة تأهب أمام شاشاتنا، منخرطين في عملنا. وذلك من خلال تحريك فأرة الحاسوب على فترات عشوائية، محاكيًا أنشطة النقر والتمرير المعتادة.

لا شك أن علماء الأنثروبولوجيا المستقبليين سيتساءلون لماذا يحتاج الكثير منا إلى جهازٍ كهذا!

إلى أرباب العمل

أولا وقبل كل شيء، جاءت الأداة ردًا تقنيًا على ابتكار تكنولوجي آخر: برنامج مراقبة الموظفين (EMS)، الذي أصبح منتشرًا في جميع أنحاء العالم. ورغم تأكيد معظم الأبحاث تعزيز العمل من المنزل ونظام العمل الهجين “Hybrid working” مستويات إنتاجية وتفاعل وجودة حياة الموظفين، لا زال أرباب العمل يخشون فقدان سيطرتهم على كيفية قضاء موظفيهم ساعات عملهم.

يتميز العمل الهجين -خصوصًا- بعائد ضخم على مستوى معدل الاحتفاظ (Employees Retention Rate). بالإضافة إلى أنه، وبحسب دراسة حديثة، يقضي العاملون من المنزل وقتًا أطول أمام شاشاتهم: بحيث يعملون ساعات أطول ويستريحون لفترات أقصر مقارنةً بالذين يعملون في المكاتب. وهم يميلون إلى أخذ إجازات مرضية أقل (وغالبًا ما يعملون في المساء وعطلات نهاية الأسبوع).

ومع ذلك، أدت موجة الانتقال المتسارعة نحو العمل عن بعد -خلال الجائحة- إلى تعزيز الطلب على منتجات قياس الانتاجية وتقييم الكفاءة، بغض النظر عن مكان تواجد الموظفين. تقيس برامج EMS حركات الفأرة ونشاط لوحة المفاتيح. كما يمكنها تتبع وتقييم المواقع الإلكترونية التي تتصفحها والمستندات التي تفتحها وتُغلقها.


ولعل الأكثر إزعاجًا ..

التقاط بعض تلك البرامج لقطات شاشة عشوائية للموظفين أثناء يوم العمل! بحيث يعلم أرباب العمل حرفيًا المدة التي تقضيها في الحمام، وفترات استراحاتك، والوقت الذي تُمضيه على مواقع ويب معينة. وقد تفاجئك لقطات الشاشة في أي لحظة من يوم عملك. أهلًا بك داخل رواية “1984”!

ويبدو أن اختراق الخصوصية “المزعج” هذا مدفوع بوهم السيطرة الكاملة. كما أنه متأصل في فكرة إقطاعية مفادها أن أرباب العمل لا “يملكون” وقت موظفيهم فحسب، بل لهم الحق في التحكم بتحركاتهم وأجسادهم وحتى أفكارهم طالما يدفعون لهم!

ولا يقتصر الهدف هنا على منع الموظفين من سرقة وقت رؤسائهم، بل يشمل إيجاد طرق أكثر فعالية لتعظيم الاستفادة من “الموارد البشرية“.

هل دققت يومًا في "الكناية" التي يتضمنها مفهوم (موارد بشرية Human resources)؟

أمور أخرى على المحك هنا أيضًا

تدمج برمجيات (مراقبة الموظفين) مفهوم الفعالية مع الانتاجية

ولا تُعدّ الفعالية -متمثلةً في تصفح المواقع الإلكترونية، وفتح المستندات، وتحريك أصابعنا وأجهزتنا- بأي حال من الأحوال مؤشرًا على العمل الهادف/ العميق. اسأل كال نيوبورت ⬇️

لا تقيس برامج مراقبة الموظفين (EMS) جودة أو حجم أفكارنا؛ لأن انتباهنا قد يكون في أي مكان -حرفيًا!- وإن كانت أجسادنا موجودة أمام شاشاتنا. وكذلك الأمر مع (حركة الفأرة) التي لا تبيّن مدى فعاليّة وتأثير أفعالنا. بل يقتصر دورها على تسجيل (النشاط الحركي).

〰️

تقليص فترات الراحة .. القصيرة بطبيعتها!

-- ماذا سيحدث حين تعرف أن كل دقيقة تبتعد فيها عن الشاشة: ستُسجل وتُحاسب عليها؟
** ببساطة، ستتردد في أخذ فترات استراحة مناسبة.

ونعلم جميعًا ضرورة أخذ فترات راحة مناسبة لمن أراد تقديم عمل وأداء ممتازين.

〰️

هل يضعون جودة حياتك في الاعتبار؟

لا يمكن لمثل هذه الأساليب -التي تعكس انخفاض الثقة وتخفيض الاستقلالية- إلا إيذاء جودة حياة ومعنويات الموظفين! وهذا ما يفعله استخدام برامج مراقبة الموظفين عبر افتراض أن جميع الموظفين “لصوص وقت كسالى”، ومعاملتهم كالأطفال المشاغبين الذين يحتاجون إلى مراقبة دقيقة (وتأديب ربما)!


ومع ذلك، فتلك البرامج مفيدة 😏

.. هذا بفرض كان أرباب العمل يبحثون عن زيادة قصيرة الأمد في الإنتاجية (مصدرها الخوف). لكن مع الوقت، سيكون لهذه العبودية الرقمية المهينة آثارها المدمرة.

فبحسب مجلة فوربس Forbes: تؤدي برامج مراقبة الموظفين إلى “إحباط الموظفين، وزيادة معدل دوران العمالة، وإثارة قضايا أخلاقية وقانونية“.


لنتذكر هنا أيضًا ..

أن أساليب الترهيب، حتى الرقمية منها، بقايا بدائية من عصر مضى، والتي اُستبدلت -منذ فترة طويلة- بآليات الدعم والحوافز الذكية في أماكن العمل الأكثر حكمة. علاوة على ذلك، يمتلك معظم أرباب العمل أدوات متعددة لتقييم أداء الموظفين (ما بين مؤشرات الأداء الرئيسية “KPIs ” التقليدية وغيرها) تقيس فعلًا ما يُعد عملاً جيدًا.

حتى لو كنا من المحظوظين الذين لا تخضع أجهزتهم لمراقبة خارجية على النحو المذكورة؟ ماذا لو استوعبنا الخرافة الثقافية المتمثلة في النشاط طوال الوقت؟ ماذا لو خلطنا -بدورنا- بين الفعالية والانتاجية / بين مجرد الجلوس أمام شاشاتنا و العمل الهادف؟

لقد أصبحنا أرباب عمل سيئين لأنفسنا، فحرمنا أنفسهم -عن عمد- لحظات الفرح والراحة والحياة الاجتماعية. وقد نشأت أخلاقيات العمل غير المفيدة هذه، والافتراضات الضارة التي نؤمن بها بشأن العمل والوقت، قبل وقت طويل من ظهور برامج EMS.

📩 إلى أرباب العمل: هل نعيش في رواية 1984؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى