منذ ما يربو عن 40 عامًا، نشر ثلاثة علماء نفس دراسة بعنوان غريب ومغرٍ نوعًا ما، “الفائزون في اليانصيب وضحايا الحوادث: هل السعادة نسبية؟” حتى لو ظننتَ أنك لا تعرفها، فلا أعتقد ذلك! فقد تسرّبت إلى محادثات تيد، وفقرات (مهارة حياتية) في البرامج الصباحية، وحتى حوارات الأفلام. باتت الورقة البحثية ملازمة لدراسات السعادة، وهي عنصر أساسي في أي مقرر يبحث في سيكولوجية تنمية الإنسان.
الدراسة بسيطة. فكما يوحي عنوانها، استطلع العلماء الفائزين باليانصيب وضحايا الحوادث، بالإضافة إلى مجموعة ضابطة*، بهدف مقارنة مستويات السعادة لديهم. لكن ما وجده الباحثون جاء مناقضًا للبديهة الشائعة. فالضحايا، رغم أنهم أقل سعادة من أفراد المجموعة الضابطة، ظلّوا يصفون سعادتهم (بأعلى من متوسطة)، على الرغم من أن حوادثهم تركتهم -جميعًا- مشلولين (جزئيًا أو رباعيًا). في حين لم يكن الفائزون باليانصيب أسعد من أفراد المجموعة الضابطة، على الأقل بأي معنى ذي دلالة إحصائية. وإن حدث شيء، فهو تهتّك الخيوط التي تربطهم بحياتهم اليومية. حيث انخفض مقدار رضاهم حيال المُتع الصغيرة (مثل التحدث إلى الأصدقاء والاستماع إلى النكات وتناول الإفطار) عن ذي قبل!
كانت هناك عيوب في الدراسة – فتصميمها، للأسف ، بدائي كفأس- لكن يمكنك أن ترى سبب شهرتها. كانت نتيجها شديدة الإغراء: المال لا يشتري السعادة! لكن ربما، وبصورة جوهرية، امتلكت مقدمة مثيرة وسخيفة تقريبًا. مَن العاقل الذي سيفكر في إقران الفائزين باليانصيب وضحايا الحوادث ضمن ورقة بحثية؟ ومن في علم النفس الأكاديمي يمتلك مخيلة غريبة كهذه؟ لقد كان علمًا اجتماعيًا على طريقة صامويل بيكيت.
إجابة هذه السؤال هي (فيليب بريكمان-Philip Brickman)، وهو عالم نفس سطع نجمه في جامعة نورث وسترن، وكان يبلغ من العمر 34 عامًا. كان شخصًا ودودًا، ثائر لا يمكن كبت جماحه، ذو حديثٍ آسر؛ كان عقله عبارة عن آلة لتوليد الأفكار.
وعلى عكس الكثير من أقرانه، لم يكن مهتمًا بالإدراك وإنما بالمشاعر والعواطف: كيف نتغلب على الشدائد؟ كيف نهتم بالآخرين؛ كيف نصوَغ الالتزامات، ونتغلب على الصراعات الداخلية، ونكتشف المعنى والسعادة في هذه الحياة القصيرة؟
قال عنه أقرب أصدقائه، (جيفري بيج-Jeffery Paige):
لذلك بالنسبة لبريكمان، فالتوصل إلى دراسة كهذه منطقي تمامًا. فهي غير اعتيادية وإنسانيًا وقبل كل شيء وثيقة الصلة بحياتنا اليومية: هل يُشعرنا المال بالرضا؟ وهل يُسبب الأذى الجسدي غير قابل للعلاج أذى نفسيًا لا يمكن علاجه أيضًا؟ هل يمكننا ببساطة التكيف مع أي شيء؟
ما الذي نحتاجه، بنهاية المطاف، لنتخطى مصائبنا؟
بعد فترة وجيزة من نشر تلك الدراسة، غادر (بريكمان) نورث وسترن متجهًا نحو جامعة ميشيغان، حيث أصبح مديرًا لأقدم وأعرق فرع لمعهد البحوث الاجتماعية. لقد كانت حفلة هيبة ، شرف غالبًا ما يكون مخصصًا للأكاديميين في ذروة حياتهم المهنية. قال لي بايج ، وهو أستاذ فخري في علم الاجتماع بجامعة ميتشيغان ، إنه يعتقد أن بريكمان كان متجهًا إلى الأكاديمية الوطنية للعلوم يومًا ما.
لن نعرف ابدًا!
في 13 أيار (مايو) 1982، وعن عمر يناهز 38 عامًا، شق فيليب بريكمان طريقه إلى سطح تاور بلازا Tower Plaza، أطول مبنى في آن أربور Ann Arbor (إحدى مدن ولاية ميشيغان الأمريكية)، وقفز!
وفقًا لمن عرفوه، لم يعاني “بريكمان” من نزعات انتحارية مستمرة ومُعقدة. ربما شعر بالاكتئاب ومشاعر نقص عميقة. أما الانتحار؟ فلا، ولا حتى خلال الأسابيع الأخيرة من حياته.
تقول (فيتا كارولي رابينوفيتز Vita Carulli Rabinowitz)، إحدى طالبات الدراسات العليا:
“لأتخيل ما كان يمكن أن يدفعه للانتحار، توجّب علي تخيل شخصًا مختلفًا. ما جعلني أتساءل: هل عانى من اضطراب كامن لم نره؟”
معظم حالات الانتحار هي ألغاز صعبة، فمعاناة المنتحر “خاصة ويصعب وصفها”، كما وصفتها (كاي ريدفيلد جاميسون Kay Redfield Jamison) في تحفتها “ظُلمة تتهاوى: محاولة لفهم الانتحار”.
لكن “بريكمان” كتب -خلال حياته القصيرة- أكثر من 50 فصلاً من كتب وأوراق أكاديمية، علاوة عن كتاب (نُشر بعد وفاته). فلو عانى من اضطراب كامن، كما تشير رابينوفيتز، فلا بدّ أنه تعدى حدود الوصف. ما يجعل من المغري، حتى لو بعد فوات الأوان، أن نتساءل عما إذا كانت أبحاثه مجرد محاولة -غير واعية- لفكّ لغز نفسه المتكدرة.
بمقدورنا القول أن جزءًا منها كان كذلك. لكنها، للأسف، لم تكن كافية.
هل ثمّة ما فاته؟
وإذا كان الأمر كذلك، فهل كان اكتمال أفكاره ليُحدث فرقًا؟ سيكون هناك دائمًا فجوة -يمكن جسرها بالنسبة لمعظمنا، ولكن يصعب التغلب عليها بالنسبة لقلة تعاني- بين فهم ما يزعجنا وامتلاك الوسائل أو الرغبة في التخلص من تلك المشاعر الصعبة.
وربما من المفيد التساؤل عما إذا كان الفهم له علاقة بالموضوع (فهو مطلب للأحياء أكثر منه للموتى).
ماذا نتعلم من فيليب بريكمان؟
كأستاذ، مزج بريكمان -بفرادة- بين الحيوية وغرابة الأطوار، والدقة وانعدام الثقة. كان محاضرًا سيئًا. لكن متحدثًا بارعًا، من النوع الذي يقتحم مكتبك كلما خطرت له فكرة جديدة، حريصًا على مناقشتها، وأكثر حماسًا للتعاون.
في لقاءه الأول بكاميل وورتمان Camille Wortman، وهي الآن أستاذة فخرية لعلم النفس في جامعة ستوني بروك، كان التساؤل “عما إذا كانت تعتقد أن القتلة المتسلسلين يستحقون التعاطف” مناورته الافتتاحية للمحادثة.
تقول: “بالنسبة لي، كان حبًا فكريًا من الكلمة الأولى“. خلال محادثاتهما، توجّب عليها -في كثير من الأحيان- قتل رغبتها بالعودة إلى مكتبها وتدوين الملاحظات.
ومع ذلك، كان بريكمان مرتبكًا بسبب انعدام الأمن الجسدي والفكري. كان “بيتوتيًا”، تملئ وجهه ندوب حب الشباب، وشفته متوجة بشارب مُبالغٍ فيه. حنونًا ولكن حساسًا.
تقول وورتمان: “سيُصاب بالجنون لو حصلت دراسة قدّمها على تقييم سلبي. لا أحد يحب التقييمات السلبية، ولكن تأثيرها السيء يفوق الوصف بالنسبة لبريكمان. إذ كان يثرثر حولها لأيام!”.
تقول رابينوفيتز، نائب عميد جامعة مدينة نيويورك: “لم تكن لترغب حقًا في عقد اجتماع معه”. كان بائسًا.. غريبًا. لكن ممن تعتز بهم، حتى لو استنفد صبرك. ومع ذلك، لا يبدو أنه حظيّ لنفسه بنصف إعجاب الآخرين به.
المفارقة هي أن بريكمان أدرك، أفضل من أي شخص آخر تقريبًا، أن السعي إلى المكانة، والوفرة المادية -وفي النهاية السعادة نفسها- مسعى لا طائل منه.
إذ أدرك في بداية حياته المهنية أنه كلما حققنا المزيد، احتجنا إلى المزيد للحفاظ على مستوياتنا الجديدة من الرضا. فرضانا عن الجديد يتلاشى؛ نحن نتكيف رغم أنفنا.
هذا ملفت للغاية، ولكن ما الذي ستعيش من أجله، إن لم تكن السعادة؟
ذاك ما سنُجيب عليه في التدوينة القادمة بإذن الله.
ماذا كتبت أيضًا عن مفهوم السعادة؟
? نقاش عشوائي عن التبسيط والمتعة
? ما هو شعور أن تمتلك كل شيء؟ [تجربتي الشخصية]
وهذا ما كتبه أصدقائي أيضًا:
? عن السعادة .. ~ مدونة وِجـــدان
? 2018؛ احتفوا بالحياة! ~ مدونة بيان علي
? مفتاح السعادة – تأمل في طبيعة علاقاتنا الإنسانية ~ مدونة زوايا
====