يسحقنا عصرنا المتسارع أمام الشاشات بما لا يدع مجالًا للشك، ولذا يُجمع العالم على تدهور مدى انتباهنا؛ تُهاجمنا التنبيهات ورسائل البريد الإلكتروني والإشعارات والرسائل النصية بلا هوادة. مُنهَكين بسيل من الأفكار والآراء والأحكام، نشعر بالتحفيز المفرِط، والمفارقة؟ يزيد ذاك شعورنا بالوحدة والانفصال “Feel disconnected”.
ولا عجب أن يرى الكثيرين أنفسهم مدمنين على هواتفهم؛ صُممت الأجهزة الرقمية بحيث تستغل بيولوجيتنا القديمة ونقاط ضعف الدماغ البدائي، وخاصة عجزه عن مقاومة الأمور المستحدثة وأي تغيير في الظروف السائدة.
وفي غمرة انشغالنا بالردّ على الرسائل في عجالة أو تصفّح شبكات التواصل الاجتماعي بلا توقف، قد ننسى أهم عناصر الصحة النفسية: الراحة والتمهّل.
على نقيض الانشغال المستمر، نجد موروثًا هولنديًا يُدعى “النيكسن Niksen”، أيّ فنّ العطالة. والذي اكتسب شعبية مؤخرًا بصفته أحد أشكال مقاومة التواجد الدائم الذي تفرضه الحياة المعاصرة علينا.
تحفزنا فلسفة النيكسن على الانخراط فيما قد يبدو للوهلة الأولى نشاطًا عبثيًا كالتحديق من النافذة، والاستماع إلى تغريد الطيور، وترك عقولنا تسرح.
لمجرد انعزالنا عن صخب الحياة من حولنا والاكتفاء بالوجود تأثير “البلسم” على أدمغتنا المُرهَقة والمُرهِقة.

لماذا نستصعب التوقف؟
يُعزى التحدي الذي نواجهه -جزئيًا- إلى المعايير الثقافية التي تُمجّد الإنتاجية والانشغال. في حين يقول الفيلسوف الروماني الشهير سينيكا Seneca:
“لا يُعتبر حبّ النشاط مواظبةً، وإنما تعبيرًا عن قلق عقلٍ مُرهَق”.
يُقال لنا منذ نعومة أظفارنا:
- “الكسل دليل ضعف الشخصية”
- “الوقت من ذهب”
- “مَن جدّ وجد، ولا يأتي النجاح إلا بالجهد المتواصل”.
ولأننا نواجه هذه التلقينات حتى سن الرشد، يكرّس عدم فعل شيء الانزعاج، وربما الخجل؛ إذ يرانا المجتمع نُضيّع وقتًا ثمينًا.
والآن، بغض النظر عن رسوخ هذه المواقف، تظل مغلوطة عند مُقارنتها بتأثير الانشغال على عقولنا.
دماغ العصر الحجري The Stone-Age brain، والذي تطور لأداء مهام البقاء المصيرية في البرية، غير مؤهل للتعامل مع متطلبات التكنولوجيا الحديثة. حيث تطوّر مُستجيبًا لأي تغيّر في الظروف؛ باعتبار الانتباه للمحفزات الجديدة أو غير العادية ضروريًا للبقاء.
تستغل شركات التكنولوجيا اليوم هذه الثغرة
عبر تقديم سيل لا ينضب من وسائل التشتيت الرقمية المصممة لإبقائنا مدمنين: يمنحنا كل إشعار، وكل إعجاب أو مشاركة، جرعة من الدوبامين (الناقل العصبي المرتبط بالمتعة والمكافأة). فتنشئ حلقة مفرغة يصعب التخلص منها.
لا شكّ من محدودية موارد طاقة الدماغ، مما يجعل الانشغال الدائم بالشاشات يُكلفنا ثمنًا إدراكيًا باهظًا. يستنزف الانتباه الذي نمنحه لأجهزتنا طاقتنا المحدودة والتي يُفترض تخصيصها لمهام أهمّ، مثل التفكير العميق، وحل المشكلات، والتواصل الهادف مع الآخرين.
ولا يقتصر ثمن هذا التحفيز المستمر على انخفاض الإنتاجية فحسب، بل يشمل أيضًا انخفاضًا في مستوى جودة الحياة.
كيف يُصلح النيكسن هذه الفوضى؟
وهنا تبرز أهمية مفهوم النيكسن. والذي يحرص على منح العقل الراحة التي يتوق إليها.
تُظهر الأبحاث أن أخذنا استراحات من العمل الذهني المُركّز -وخاصةً عبر الشرود أو العطالة المتعمدة- يُدخل أدمغتنا في شبكة الوضع الافتراضي (DNM) حالة سَكينة تُمكّننا من فهم المشاعر وحل المشكلات والتأمل، وهي ضرورية للإبداع والابتكار.
وعندما تنشغل أدمغتنا باستمرار، نفقد هذه العمليات التجديدية المهمة.

تخيّل التحديق من نافذة
قد يبدو فعلًا تافهًا وعبثيًا، لكنه في الحقيقة عكس ذلك تمامًا. عندما تتخلى عن هوسك بالإنتاجية، تسمح لعقلك بإعادة شحن طاقته. وتمنح نفسك استراحة تُخفف التوتر وتُحسّن التركيز عند العودة إلى مهامك.
في عالم نكون فيه “متصلين” دائمًا، يصبح تعلم كيفية “الانفصال” عملًا ثوريًا للرعاية الذاتية “Self-care”.
كيف نكسر الحلقة المُفرغة إياها؟
يقع مَن يدّعون إدمان هواتفهم في دوامة التعزيز الإيجابي (والتي نعتبرها القوة المؤثرة في ماكينات القمار المصممة -أصلًا- للإدمان). فكيف نخرج من هذه الدوامة؟
1. خلق مساحة للنيكسن
قد تستغرب ما سأقوله، لكن حتى لبضع دقائق من النيكسن تأثيرٌ عميق. يمكنك البدء بخطواتٍ صغيرة كتخصيص 5-10 يوميًا للجلوس بهدوء دون استخدام هاتفك أو أي شيءٍ آخر يُشتت انتباهك. ومع مرور الوقت، يمكنك زيادة المدة، ومنح دماغك الراحة التي يحتاجها لإعادة شحن طاقته.
2. ممارسة اليقظة الذهنية
رغم اختلاف النيكسن عن اليقظة الذهنية، إلا أنهما متكاملان. تشجعنا اليقظة الذهنية على التواجد في اللحظة، سواء كنا نركز على أنفاسنا أو محيطنا أو أفكارنا. ويمكن لهذه الممارسة مساعدتنا في التخلص من “هاجس” التقاط بهواتفنا لنهرب من توترنا.
3. ضع حدودًا
من أكثر طرائق الحد من إدمان الهاتف فعاليةً: وضع حدود. خصص أوقاتًا تخلو من الهاتف خلال اليوم، مثلًا أثناء الوجبات أو قبل النوم، أو فعّل خاصية “عدم الإزعاج”. قد تستصعب ذاك في البداية، لكن سرعان ما ستتضح المنافع.
4. إعادة صياغة علاقتك بالإنتاجية
من أسباب صعوبة تطبيق النيكسن ربط الإنتاجية بتقدير الذات. حسنًا، لا تعني الإنتاجية -بالضرورة- فعل شيء ملموس أو قابل للقياس. غيّر مفهومك عن معنى أن تكون منتجًا. فتخصيص وقت للراحة أو التأمل أو حتى لمجرد عيش اللحظة لا يقل أهمية عن إنجاز مهامك.
5. تحدى الخوف من تفويت الفرصة (FOMO)
مشكلة بقائنا (متصلين دائمًا) أنها تفوّت علينا أشياء أكثر أهمية، مثل لحظات التواصل الصادقة والتأمل والإبداع. وأنت لا تفوّت شيئًا بتبنّيك النيكسن، بل تكتسب ما هو أثمن بكثير: صحتك النفسية.

اقرأ .. بهدوء
قد لا نستطيع تغيير تركيبتنا البيولوجية، لكن بمقدورنا تغيير طريقة استجابتنا لها. وهذا أهمّ درس تقدمه فلسفة النيكسن.
تذكر: لم تُصمَّم أدمغتنا للتحفيز المتواصل. وباعتماد النيكسن، نستعيد رفاهنا الذهني ونحقق توازنًا صحيًا بين الإنتاجية والفهم العميق والراحة.
إذا كنت مستعدًا لاحتضان قوة [عدم فعل أي شيء]، فستتولد داخلك طاقة وتركيز وإبداع يفوق ما تتخيله.
قد يكون التخلي عن الأشياء أكثر ما يمكنك فعله إنتاجية على الإطلاق.
هذا ما اخترته لك من تدوينة: The Art of Doing Nothing: Why Switching Off Is So Hard for Americans