كيف تُشبع شهوة أن تكون مفهومًا؟

كيف تُشبع شهوة أن تكون مفهومًا؟

لشعور كونك مفهومًا دفء معين. ولا يقتصر ذلك على سماع الكلمات المناسبة أو تلقي ردود مدروسة؛ بل يحدث عندما يفهمك الشخص حقًا، ويرى ما بين سطور ما تقوله، وينفذ إلى قلب عواطفك.

شعور نادر، وربما لهذا يبدو حميميًا للغاية عندما يحدث. يجعل (كونك مفهومًا) كل شيء آخر يتلاشى للحظة؛ إذ لا تكون وحدك في أفكارك أو مشاعرك. بل تجد شخصًا آخر يقف معك، لا بصفته متفرجًا وإنما كيانًا يرى عالمك ويتردد صداه معه.

أحد أكثر الأشياء حميمية في الحياة هو التواصل العميق الذي تستشعره عندما يفهمك شخص آخر.

لحظة دهشة، تأتيك على حين غرّة

فبينما تتحدث عن شيء يثقل كاهلك أو تحاول التعبير عن مشاعرك تجاه شيء مهم، يتفاعل مستمعك بحيث تدرك أنه لا يستمع فحسب، بل هو منغمس بالفعل!
كما لو أنه وجد طريقة لترجمة الأفكار المجردة في عقلك إلى شيء ملموس؛ يمكنه حمله معك جنبًا إلى جنب.

المثير للاهتمام أنه لا يحدث دائمًا في المحادثات مع مَن تعرفهم جيدًا. بل قد يُفاجئك شخص قابلته للتو -أو آخر لا تتحدث معه كثيرًا- بفهم جوهرك.

وهل التدوين إلا استمتاع بالمخاوف والآمال؟


نقضي وقتنا في محاولة شرح أنفسنا، ونبذل قصارى جهدنا للتأكد من إدراك الآخرين ما نعنيه، ومع ذلك، تحدث لحظات الفهم العميق -غالبًا- عندما نتوقف عن المحاولة.

إذ نكون أنفسنا فحسب، ونقول ما يخطرلنا دون تفكير، ثم يأتي شخص ويلتقط المعنى الكامن خلف الكلمات.. بسلاسة؛ لا من منطلق التعاطف والتواصل، بل نتيجة حرص المستمع بما يكفي لإيلاء الاهتمام، والنظر لما وراء الكلمات، والبحث عن “شيء حقيقي”.

أن تكون مفهومًا

في أغلب الأحيان، يُساء فهمنا!

وتُفهم نوايانا أو مشاعرنا بطريقة خاطئة. حيث تشارك فكرة أو شعور، وعوض أن تكون مفهومًا، تُقابل بالارتباك أو الأسوأ من ذلك، اللامبالاة.

مثله كمثل الصراخ في ليلة عاصفة؛ على أمل الحصول على صدى!

وهنا، يتحول غياب الفهم إلى شعور بالعزلة. كما لو كنت تائهًا، ولا أحد يعرف مكانك أو ما تمر به.

مرّت عليّ أوقات حاولت فيها جاهدًا تفسير نفسي لأحدهم، ليعجز عن فهم ما وددت قوله. لم يكن خطأه ولا خطأي، بل لم يكن عالَمينا متوافقين في تلك اللحظة.

حينها أدركت مدى ندرة الفهم الحقيقي؛ عندما يُساء فهمك مرات كافية، يتملكك الشبق نحو لحظات تُفهم فيها دون الحاجة إلى تفسير كل كلمة.


للأمر ذات اللذة (إن لم يكن أكثر).
يكمن (رضا مطئمن) في قدرتك على رؤية شخص على حقيقته، حتى إن لم يكشف كل دواخله. تشاهد وجهه، وتستمع إلى كلماته، ويتجلّى شيء ما. فتقول أنه لا يتحدث عمّا يدور في خلده فحسب، بل عمّا في قلبه أيضًا، وتتشكل “صِلة” بينكما.

يبدو كونك على الجانب المتلقي لهذا النوع من الفهم وكأنه هِبة، لكن تقديمه فعل حب في حد ذاته.

هذا ما يجعل التفّهم قويًا جدًا، لأنه يتعلق بالحضور. إنه يتعلق بالتواجد الكامل، بكل انتباهك وتعاطفك وانفتاحك. وعندما تقدم ذلك لشخص ما، أو عندما يقدمه لك، فإنه يخلق رابطًا يصعب وصفه. إنه لا يتعلق بكونك أفضل الأصدقاء أو رفقاء الروح؛ إنه يتعلق بتجربة مشتركة، لحظة عابرة حيث تكونان على نفس الموجة، حتى لو كان ذلك لفترة قصيرة فقط.

لطالما فكرت في سبب تأثير هذا الشعور بالفهم العميق، واكتشفت أننا -جميعًا- نسير مع الكثير من الأفكار والمشاعر غير المعلنة.

يحاول معظمنا معرفة كيفية السير في العالم، والتعبير عن أنفسنا، وفهم ما يجري داخل رؤوسنا. لذا، عندما يأتي شخص ما ويتمكن من الانسجام مع هذا التردد -دون أن تُطالبه- فيبدو الأمر كما لو أن ثقلًا قد اُنزل عن كتفيك. لم تعد مضطرًا إلى شرح أو تبرير نفسك بعد الآن. يمكنك فقط أن تكون (أنت)، وهذا يكفي.

هناك حميمية في هذا النوع من القبول. أنت تُظهر لشخص ما جزءًا من نفسك، وهو يقبله دون سؤال. لا يتعلق الأمر بتأييد كل ما تقوله أو مشاركتك ذات آرائك؛ بل يتعلق بالاحترام والاعتراف بامتلاك كلٍ منّا تجاربه الفريدة، والتي قد تتداخل -أحيانًا- بطرائق لا نتوقعها.

🛐 هل تُحب العزلة؟

عندما نجد أرضية مشتركة، حتى في أصغر الأشياء، فذاك يجعل العالم يبدو أقل اتساعًا و”أقل عزلة”. لا يتعين علينا أن نكون في وئام تام مع الجميع طوال الوقت (سيكون مرهقًا). ولكن عندما نجد تلك اللحظات من التفاهم، يجب أن نعتز بها. فهي تذكرنا بأن التواصل ممكن، وأننا لسنا معزولين في تجاربنا كما قد نعتقد.

في النهاية، أن تكون مفهومًا لا يعني الكمال. ولا يعني أن يكون هناك شخص يفهم كل جزء منك أو أن تكونا دائمًا متفقين. كل ما يتطلبه الأمر أن ترغب في المحاولة، وتستمع، وترى ما وراء الواضح والبديهي. يعني (أن تكون مفهومًا) الظهور لشخص آخر بطريقة تقول: “أنا هنا. أنا منتبه. أنا أهتم”.

وعندما يحدث ذلك، حتى لو كان عابرًا، فهو حميمي بطريقة لا يمكن استنساخها بأي شيء آخر. ذلك الأمر حقيقي وإنساني، وهو شيء نحتاجه جميعًا، سواء أدركنا ذلك أم لا.


قد لا يبدو مقصد التدوينة واضحًا، بل وربما تراه مُشتتًا، ولن ألومك.
لكن مذّ رأيت صديقتنا إسراء تحاول كبح مشاعرها، وأنا مشغول بإيجاد كلمات تشدّ من أزرها، إنما دون جدوى! حتى صادفت هذه التدوينة، ووجدتها مناسبةً تمامًا.

وهذا كل شيء يا سادة

كيف تُشبع شهوة أن تكون مفهومًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تمرير للأعلى