في حياتنا جميعًا أشخاص، نرغب لو تصرفوا على نحو مختلف؛ ربما زميلك الذي يرفض تفويض المهام لغيره، أو يستجيب سلبًا للنقد، أو يكون “وغدًا” عند تعامله مع أعضاء فرق العمل الأخرى!
عند العمل الوثيق مع شخص ما، نكون في تماس مع كلٍ من مواهبه واضطراباته. وغالبًا ما نشعر بتلك الأخيرة تتفوّق على خدمات ذاك الشخص للفريق. ما الذي عليك فعله في مثل هذه المواقف؟
حسنًا! إذا كنت صاحب سلطة (مدير/أب/أم.. إلخ)، فلن تواجه إشكالية في تقديم ملاحظات بشأن النقطة العمياء/المخفيّة “Blind spot” وتوجيه الشخص لـ”يُحسن التصرّف“.
ليس لديّ سلطة لسنّ التغيير!
ماذا لو كان الشخص المقصود: صديقك أو زميلك في العمل؟
في هذه الحالة، تغدو تنمية الرغبة الداخلية نحو التغيير-عوض محاولة فرضه- أكثر فعالية.
إذًا، ما رأيك لو تعلمت فن التأثير عندما لا يدرك الشخص وجود المشكلة أصلًا؟
فن التأثير المثير
أبحاث الإدمان طريقك نحو تغيير الإنسان
يعتبر الإدمان مثالًا قوي على النقطة العمياء، حيث الشخص بعيد كل البعد عن تبعات سلوكه.
طوّر علماء النفس خلال العقود الأخيرة حزمة من الوسائل الفعّالة لمساعدة مَن يعانون من الإدمان، ويمكن استخدام ذات الوسائل لتوجيه الآخرين بلطف نحو مجالات النمو الممكنة.
بعيدًا عن المواجهة والسلبية
عند التعامل مع شخص عالق في نقطة عمياء، غالبًا ما نستخدم إحدى استراتيجيتين أساسيتين:
- المواجهة. بحيث نوجّه انتقادات مباشرة أو إنذارًا نهائيًا بشأن شيء ما يجب تغييره.
- التعامل بالسلبية. على أمل أن يتغير من تلقاء نفسه، أو قد نقلل من أهمية الأمر (محل النزاع)، أو -للأسف- قد نقطع علاقتنا به لتجنب التعامل مع المشكلة!
على سبيل المثال، إذا كان أحد أفراد أسرتك يعاني من إدمان الإباحية:
? إما “ننصحه” بالإقلاع، ونخبره كيف يؤثر إدمانه ذاك على من يحبونه.
? أو نلجئ لما يُدعى “الانفصال المُحب Detach with love“، آملين أن يصل إلى الحضيض بمفرده، ويقرر -في النهاية- تغيير حاله.
أظهرت الأبحاث افتقاد كلا الاستراتيجيتين للفعالية مع الإدمان، حيث لا تتعدى نسبة نجاح كل منهما بدفع الشخص نحو العلاج 30%
بعد ذلك، في السبعينيات، طور الباحثون نهجًا جديدًا سُميّ تعزيز المجتمع والتدريب الأسري (CRAFT)، وحقق نجاحًا بنسبة 70% (أكثر من ضعف فعالية المواجهة أو التعامل بسلبية!).
سر نهج تعزيز المجتمع والتدريب الأسري
يفسّر نهج تعزيز المجتمع والتدريب الأسري لمَ تأتي استراتيجيات تحفيز التغيير الشائعة بنتائج عكسية، ثم يقدّم عدة مهارات -مثبتة بالأدلة- تساعد الشخص على التواصل مع رغبته في التغيير.
فن التأثير البارع
عندما نوجّه ملاحظات في إطار العمل/الحياة، نتوقع أن يكون المتلقيّ لها مستعدًا وراغبًا في التغيير. في الواقع، ذاك -غالبًا- أبعد ما يكون عن الحقيقة!
في أوائل الثمانينيات، توصل باحثان في مجال الإقلاع عن التدخين إلى نموذج سداسي المراحل يعين على فهم آلية تغيير الناس. وإن كانت الملاحظات المباشرة تفيد شخصًا جاهزًا بالفعل للتغيير، لكنها تأتي بنتائج عكسية إن اُستخدمت قبل أوانها.
في مراحل التغيير المبكرة، يتردد الشخص حيال تغيير سلوكه. قد يقرّ (جزء داخله) بالحاجة إلى التغيير، لكن جزء آخر “يغرق” في الوضع الراهن، أو يرى تكاليف التغيير باهظة للغاية. هنا يعلق أغلبنا معظم الأوقات، ولذا نادرًا ما تنجح المواجهة المباشرة.
على الطرف الآخر، يشجّع نهج تعزيز المجتمع والتدريب الأسري رؤية التواصل مع زملائك وأحبائك من منظور إشارة المرور?؛ عندما يكون ضوءها “أخضر?” = إذا كان الشخص يتحدث عن رغبته في التغيير أو يتخذ خطوات عملية نحوه، فذاك يعني أن الشخص سيتقبّل نصائحك وملاحظاتك. على عكس حين يكون ضوءها “أحمر?”، فحينها تحفّز النصائح ردود أفعال عكسية.
الانفتاح على التغيير [تحويل الضوء نحو اللون الأخضر?]
لنلاحظ أن فن التأثير البارع يعمل فحسب عندما يتوافق التغيير مع مصالح الشخص طويلة الأمد. ولا يهدف للتلاعب بشخص ما بغية تحقيق غاياتك الخاصة، بل لمساعدته على التواصل مع دوافعه الذاتية للتغيير.
❤️? لن ينجح فن التأثير إلا بوجود حافز داخلي/ذاتي.
كيف تتقن فن التأثير؟
حافظ على الاستقلالية
بحسب (نظرية تقرير المصير Self-determination theory)، يستطيع البشر تقرير مصيرهم عندما تُلبى 3 حاجات أساسية:
- الاستقلالية.
- الكفاءة.
- التواصل.
وأحد الأسباب التي تجعل تحفيز التغيير يعود بنتائج عكسية أنه قد يوحي بانتهاك الاستقلالية، فيسارع الشخص للتشبّث بموقفه الحالي باعتباره وسيلة لاستعادة الشعور بالحرية.
وكنتيجة، قد تعزز النصائح -حسنة النية- العادات السيئة التي نحاول تغييرها، مما يؤدي -في النهاية- إلى ديناميكية تُعتبر فيها أي محاولة لتسليط الضوء على المشكلة بمثابة محاولة إكراه! وذاك السيناريو الأسوأ؛ حيث “ينغلق” الشخص حتى على مستوى النظر في المشكلة، ناهيك عن مناقشتها.
ومع ذلك، عادةً ما يكون رد فعلنا الغريزي -عند رؤية شخص ينتهج سلوكًا انهزاميًا- محاولة إصلاحه، وهو ما يسميه علم نفس الإدمان “منعكس التصحيح The Righting Reflex“.
فأول خطوة للحفاظ على الاستقلالية: التنّبه لأنفسنا عندما نقترب من شخص حاملين "أجندة تغيير"، ثم التخليّ عن محاولاتنا الصريحة لتغييره!
يمكنك أيضًا ترسيخ استقلالية المرء عن طريق ذكرها في معرض الحدث. فمثلًا، عند تقديم نصيحة للشخص، يمكنك ختم حديثك بالقول:
“في النهاية، الأمر متروك لك في كيفية التعامل مع هذا الأمر”.
يمكن أن يساهم التعزيز الصادق لاستقلالية شخص في بناء جسور الثقة، وهدم الجدران التي تُحبط أي محاولة للتأثير الخارجي.
استغل النتائج الطبيعية
عندما يكون الشخص مترددًا حيال إجراء تغيير، فلأنه يرى تكلفة التغيير تفوق تكاليف استمرار الحال على ما هو عليه. وهدفنا مساعدته على إدراك النتيجة الطبيعية لسلوكه الحالي، وترجيح كفّة التغيير.
لنفترض أنك أسست شركة مع صديقك، ثم وجدته يقضي جُلّ وقته في حلّ المشكلات الصغيرة عوض مساعدتك في تأسيس النظام اللازم لتوسيع نطاق الشركة. قد يسلّم بالحاجة إلى تغيير سلوكه ذاك، لكنه يشعر أنه مُنهك، ويعمل فوق طاقته، وبالتالي يُديم تأجيل التغيير!
هنا، يمكنك تفّهم مدى انشغاله وتوجهه -برفق- نحو العواقب، سواء على الفريق أو على نفسه.
بمقدورك، على سبيل المثال، طرح أسئلة مفتوحة على غرار::
- “ما مدى احتمالية خسارة [الموظف “س”: أهم موظف لديكم] إذا استمرت الأمور على هذا النحو؟”
- “كيف تسير الأمور في المنزل؟”
بهذه الطريقة، أنت توجهه نحو تكاليف الوضع الراهن، فيتمكن من رؤية كيف يتعارض سلوكه مع ما يعتبره -هو ذاته- أهمّ. يحدث التغيير بعد ذلك؛ نتيجة لمواءمته أفعاله مع قيمه التي يحيا وفقها، ما يحفّزه لإدامة التغيير المرجو.
كافئ السلوك الإيجابي
نادرا ما يتوحّد الأشخاص مع سلوكهم. تتمثل مكافأة السلوك الإيجابي في ملاحظة الحياد الإيجابي عن القاعدة وتشجيعه، مما يزيد احتمالية تكراره.
على سبيل المثال، إذا اعتاد زميلك في العمل رفض التفويض، فيمكنك أن تركّز على المرّات الصغيرة التي تنازل فيها عن “عرشه” لأعضاء آخرين في الفريق. يكفي أن تُراسله:
لتكون مكافأة السلوك الإيجابي فعّالة، لا بدّ أن تكون ملموسة. لا يكفي أن تكون لطيفًا عمومًا مع الشخص؛ تحتاج لملاحظة السلوك وتعزيزه بالثناء أو الإقرار الودودين.
إذا لم يتضح للشخص اختلاف سلوكك عن طريقتك العادية في التفاعل، فلن يُحدث فرقًا كبيرًا. مهما كان مستوى إيجابيتك الأساسي، فلا بدّ من رفعه بما يكفي ليلحظه الطرف الآخر ويربطه -على نحو مباشر- بسلوكه.
استثمر في العلاقة
يكون الأشخاص أكثر تقبلاً لملاحظات مَن يحبونهم ويثقون بهم. لذلك، فإن جزءًا أساسيًا من فن التأثير البارع هو الحفاظ على قوة العلاقة، وضمان ألا تقود نحو وضع يتمحور فيه معظم تواصلك حول محاولة تغيير الشخص.
أفضل طريقة لذلك هي المحافظة على تشارك التجارب الإيجابية: الخروج لتناول الغداء بعد العمل / الاحتفال بإنجاز جماعي للشركة / إلقاء الدعابات بين الاجتماعات. تحافظ هذه التفاعلات الإيجابية على دفء العلاقة وتدعّم الثقة، بحيث يكون الشخص منفتحًا على تعليقات (عندما يتغير الضوء للأخضر?).
أعلم أن ذاك قد يكون صعبًا؛ فغريزتنا في المحادثات تقودنا نحو طرح ما نراه واجب التغيير. وبالتالي، يسير الاستثمار في العلاقة -جنبًا إلى جنب- مع المهارة التالية.
تحكم في ردود أفعالك
كثيرًا ما يتكون لدينا، عند التعامل مع شخص ذو سلوك مدمر للذات، رد فعل عاطفي؛ يقودنا نحو التصرف بأسلوب عقيم.
على سبيل المثال، كان شريك أحد عملائي يعيش حالة دائمة من الإرهاق والاحتراق الوظيفي Burnout. حتى في ظل غياب الأزمات، لم يبدو ذاك الشريك قادرًا على التوقف، كان يمضي الليالي وعطلات نهاية الأسبوع في التركيز على المشروع، ولا يمنح نفسه أبدًا أي إجازة!
عندما بدأنا العمل معًا، تملّك عميلي الإحباط. إذ كان شريكه يفكر في أخذ استراحة، ومع ذلك استمر على ذات نهج الإفراط في العمل. وتحّول شعور عميلي إلى غضب: كيف بوسع شريكه ألا يرى أن الوضع الذي يستهلكه.. من صنع يده؟!
كان رد فعله التلقائي التعبير عن غضبه بطرائق فظة، أدّت -فحسب- لخلق هوة في علاقتهما. وهكذا، غدا عملي الجديد هو إرشاده لكيفية التعامل مع رد فعله العاطفي، ومعرفة المخاوف التي أثارها الوضع داخله، والاستجابة بطريقة أكثر مهارة باستخدام بعض الاستراتيجيات التي أوجزتها أعلاه.
“إنها دائمًا مشكلة شخصية”
كتب عالم الكمبيوتر (جيرالد فاينبرغ Gerald Weinberg) ذات مرة
ستساعدك الاستراتيجيات المذكورة أعلاه في حل مشاكل الناس على نحو أكثر فعالية.
وهي ليست دائمًا سهلة التنفيذ. ففي أحلك اللحظات، تسهل العودة إلى المواجهة أو السلبية. أشجعك على ممارسة هذه المهارات على مسائل صغيرة (حيث تنخفض نسبة الخطورة☣️)، وبهذا، عندما تظهر مشكلة ملحّة♨️، تكون قد بنيت العادات اللازمة للاستجابة بطرائق احترافية.
ترجمة -بتصرف لتدوينة The Art of Subtle Influence