خالص الامتنان للأستاذة مريم الهاجري؛ إذ ألهمتني كتاباتها للتدوين اليوم.
لنبدأ مع حقيقة بسيطة: لن يستطيع أي نظام إنتاجية، أو روتين صباحي، أو متتبع عادات تغيير حياتك إذا كنت تجهل دافعك. بدليل رفوف مكتبتك المليئة بكتب تطوير الذات، والتي لم تقرأ نصفها، وقائمة تتبّع (العادة الذريّة) والتي لم تشطب منها سوى 9 أيام فحسب، وأخيرًا تطبيقات الإنتاجية التي حمّلتها ونسيت تسجيل حساب فيها!
ولكن كيف وصلنا إلى هنا؟ 😥

كذبة المليار دولار! 👿
ترتكز “صناعة” تطوير الذات على فكرة بسيطة:
أنت معطوب وبحاجة لإصلاح؛ لذا اشترِ هذه الدورة.. أو اتبع الخبير الفلاني. ولنتائج أفضل: استخدم النظام الآتي.
لكن بعد 15 عامًا ساعيًا خلف تطوير ذاتي، أدركت أن معظم مَن يحاولون “إصلاح” أنفسهم لا يفهمون حتى ما يصلحونه > تخيل محاولتك إصلاح سيارة دون فتح غطاء المحرك!
ذاك جوهر تحسين الذات (أو معظمه) :: محاولة حل المشكلات دون فهم مصدرها.
- لا تعاني مشكلة إنتاجية، بل مشكلة وضوح رؤية.
- ولا مشكلة انضباط، وإنما مشكلة اتساق.
- ولا ينقصك -حتى- تحفيز، أنت تعاني غياب معنى.
- ولا مشكلة انضباط، وإنما مشكلة اتساق.
التحسين دون محاولة فهم الذات أشبَه باستخدام خريطة خاطئة. مهما بلغت سرعتك، لن تصل إلى وجهتك أبدًا.
وتحت ذلك كله؟ يوجد شيء أعمق 🔚 الأنماط العقلية التي تدير قراراتك “باللاوعي”.
نظام التشغيل الخَفي 👁🗨
كل قرار تتخذه مصدره (نظام تشغيل داخلي)، مثبّت رغمًا عنك!
وهل تدري مما يتألف؟ شبكة معقدة من:
- المعتقدات اللاواعية حول ما تستحقه.
- قواعد خفية حول الآمن و/أو الخطير.
- الاتفاقيات البَينية -التي عقدتها مع نفسك- طيلة عقود.
- الهويات التي يُفترض أنك تجاوزتها (لكنك لا تزال تتمثلها)
يُدير نظام التشغيل هذا 95% من حياتك، ثم يُنسب فضل (اتخاذ القرارات) لعقلك الواعي.
يستحيل ترقية برامج لا يمكنك الوصول إليها.
حين كتب الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد “Søren Kierkegaard” أن “أشيّع أشكال اليأس: عدم كونك على طبيعتك”، لم يكن يتحدث عن “نظام تطوير ذات آخر“، بل كان يصف معاناة الانفصال عن ذاتك الحقيقية، والانقياد لبرامج لم تخترها.
قضيت سنواتٍ أحاول بناء روتين كتابة ثابتًا. ومع أنني جربتُ كلَّ نظام إنتاجية، ومنهجية مساءلة، وبرنامج تتبع عادات متاحًا. لكنني عُدت -دومًا- بـخُفيّ حنين. ولذا، توقفت عن محاولة حل المشكلة وبدأت في محاولة فهمها.
اكتشفتُ، عبر تدوين اليوميات والتأمل، أنني لم أكن أتجنب الكتابة، بل تلقي الأحكام. ساوى نظام التشغيل داخلي بين النشر والتعرض النقد. وعمليًا، لن تجد نظام إنتاجية يحل هذه المشكلة. ومع ذلك، غيّر فهمها -أقصد فهم المشكلة- منهجيتي مباشرةً.
الخلاصة: يحاول معظمنا تحسين ذاته دون فهم ما يعيقنا فعليًا.

يفرض الأساس ارتفاع البناء
من الواضح أننا نتعامل مع النمو الشخصي بطريقة عكسية، إذ نضيف عادات وأنظمة جديدة دون توطيد ما تحتها أولًا. هل يمكنك بناء قصر على أساسات كوخ؟ قطعًا لا!
إذًا، مما تتكون “أساساتك”؟
- مفهومك عن ذاتك (بعبارة أخرى: كيف ترى نفسك؟)
- نظرتك للعالم (أو: كيف ترى الواقع؟)
- قيمك (أخبرني: ما الذي يحفّز قراراتك حقًا؟)
- مخاوفك (هل تعرف ما يحدّ من أفعالك باللاوعي؟)
أُلاحظ انتشار نمط معين:
رواد أعمال يتبنون أنظمة أعمال معقدة دون فهم علاقتهم بالمال. أو مدراء تنفيذيون يُعيّنون مدربي إنتاجية دون تفحّص إدمانهم على الانشغال. وصنّاع محتوى يتنقلون بين المشاريع دون فهم خوفهم من “الحداد الإبداعي”.
🤝 دعني أساعدك:
- كيف تتعامل مع القلق بشأن وضعك المالي؟
- كيف توقفت عن إدعاء أنني مشغول؟ 🐝
- حاذر الحداد الإبداعي بعد إنجاز مشروعك!
لكن لا تجلد ذاتك، إذ ثمّة سبب لكون أُسسنا غير مستقرة (في أغلب الأحيان) : لم يعلمنا أحد كيفية بنائها بشكل صحيح.

الخريطة المفقودة: لم يعلمك أحد كيف تفهم نفسك!
❌ علّمتك المدرسة الرياضيات والتاريخ، لا كيفية تحليل أفكارك. ❌ علّمك والداكَ الأخلاق والضوابط، لا كيفية التعامل مع مشاعرك. ❌ علّمك المجتمع الإنجاز والسعي إلى المكانة، لا كيفية فهم الذات الحقيقية.
توقّعَ الجميع منك الإبحار في عالمك الداخلي بلا خريطة!
ومع ذلك، يبقى تعلّم كيفية قراءة دواخلك المهارة الأكثر قيمة. والتي يمكن لأي شخص -بالمناسبة- إتقانها؛ حيث تبدأ بتحوّل بسيط ولكن غير مريح: من الإصلاح إلى المراقبة.
أي: عوض محاولة تغيير سلوكك فورًا، احرص -ببساطة- على رصده بفضول:
- لماذا أمسك هاتفي -دائمًا- لحظة جلوسي أمام مكتبي؟
- لماذا أتململ في وجود أشخاص معينين، في حين أتفجّر حيويةً في حضور آخرين؟
- لماذا أقوّض إنجازي بمجرد أن ألمس “بداية نجاح”؟
تقدم هذه الأسئلة رؤى يعجز أي خبير أو نظام عن تقديمها لك< لأن الإجابات فريدة من نوعها بالنسبة لنظام تشغيلك.
لكن الرصد وحده غير كافٍ. بل تحتاج إلى عملية منهجية لتحويل الوعي إلى أفعال.
خوارزمية التغيير الحقيقي
يتبع التغيير الحقيقي تسلسلًا واضحًا (تتجاهله معظم برامج تطوير الذات):
- الوعي – الرؤية الواضحة للسلوك (دون إطلاق أحكام)
- الفهم – إدراك سبب وجوده (مع التعاطف)
- الاختيار – التحديد الواعي لما يفيدك الآن
- العمل – الانطلاق من الفهم الجديد.
عادةً ما نحاول القفز مباشرة إلى الخطوة #4 ، ولهذا لا ننجح.
وبالعودة إلى مشكلتي مع روتين الكتابة، وبعندما أدركتُ أن مماطلتي كانت -في الواقع- خوفًا من خيبة أمل الآخرين، لا تكاسلًا؛ غيّرت سلوكي تمامًا (لا قسرًا، وإنما بفضل وضوح الرؤية).
يأتي الفهم قبل التغيير.. دائمًا.
ولكن كيف تُنمّي هذا الفهم؟ تحتاج إلى أدوات عملية، لا مجرد نظرية. صحيح؟

تكنولوجيا رؤية الذات
فهم الذات ليس مجرد فكرة فلسفية مُبهمة أو ضبابية، بل مهارة عملية يمكنك تطويرها بتقنيات محددة. لذا، إليك أدوات تساعدك على استبصار نظامك اللاوعي:
1. تشريح القرارات
لنأخذ قرارًا اتخذته مؤخرًا -خاصةً إذا كنت نادمًا عليه أو لم تفهمه تمامًا- ونتسائل سويّةً:
- ماذا كنت تستهدف من ورائه؟ ( بعيدًا عن ظاهره).
- وماذا كنت تتجنب عندما اتخذته؟
- ما القناعة التي جعلته منطقيًا آنذاك؟
- مَن كنت أحمي “Protecting” بقراري؟
كرر الخطوات مع 5 قرارات؛ وسترى أنماطًا تكشف عن كيفية تصرفك فعليًا.
2. رسم الخرائط العاطفية
مشاعرك ليست عبثية، بل بيانات. احرص -لمدة أسبوع- على مراقبة مشاعرك القوية (خاصة السلبية)، واسأل نفسك:
- أين شعرت بذات الشعور من قبل في حياتي؟
- عمّا يُحرضني هذا الشعور؟
- ماذا سأقول لو نطق هذا الشعور؟
غالبًا ما تكون المشاعر صدىً لماضيك، فتحاول حمايتك من التهديدات القديمة. إدراك ذلك يكسر سيطرتها التلقائية.
3. جرد الهوية
ضع الأدوار التي تحددك (الوالد – الصديق – صانع المحتوى .. إلخ). واطرح -لكلٍ منها- الأسئلة التالية:
- متى اعتمدت [هذه الهوية] أول مرة؟
- ماذا سيحدث لو تخليت عنها؟
- مما تحميني [هذه الهوية]؟
- ماذا تمنعني [هذه الهوية] من تجربته؟
أكبر قيودك ليست خارجية، بل هويات تجاوزتها، لكنك متماهٍ معها.
لا تهدف الممارسات أعلاه إلى تحسين شعورك، وإنما توفير منظور أوضح. وعندما تبدأ في الرؤية بوضوح، يحدث شيء غير متوقع.

مفارقة التحول
إليك ما لا يخبرك به أحد عن النمو الشخصي: أسرع طريقة للتغيير هي التقبّل للوضع الحالي بالكامل. وإن بدا ذلك متناقضًا، لكنه مفتاح التحول الحقيقي:
ما تقاومه يبقى، وما تفهمه يتغير.
عندما تُحارب أنماطك الحالية، تقاومك بقوة أكبر.
وعندما تفهمها بتعاطف، تتلاشى -غالبًا- تلقائيًا.
لقد مررتُ بهذا مع مشكلة التحكم بالغضب التي حاولتُ “إصلاحها” لسنوات. لم يأتِ الحلّ من تحسين سيطرتي على غضبي، بل من فهم مصدره ◀️ طفولةٌ كان الغضب -خلالها- الشعور الوحيد الذي يُلبّي احتياجاتي (أو هكذا ظننتُ).
بمجرد “استيعاب” الغضب، فقدَ الأخير قبضته المُحكَمة عليّ (دون أن أُضطر إلى “العمل عليه”).
الأجزاء من نفسك التي تحاول جاهدًا تغييرها هي الأكثر حاجةً للتفهم.
عندما تستمر في محاولة إصلاح نفسك بدلاً من فهمها، تقع في الفخ الأكثر شيوعًا (الدورة اللانهائية من محاولات تحسين الذات العبثية).
التخلص من إدمان تطوير الذات
لنكون صادقين: يمكن أن يغدو تحسين الذات إدمانًا. وبتّ تعلم الآن أن الوصول لمستوى نموك التالي لا يكمن في إضافة المزيد، بل في رؤية الموجود بالفعل.
كيفية كسر هذه الدورة:
- توقف لمدة 30 يومًا عن شراء منتجات تطوير الذات. واستغل الفترة لتطبيق ما تعرفه بالفعل.
- أنشئ قائمة “توقف عن فعل = السلوكيات التي لم تعد تُفيدك ..” إلى جانب قائمة “مهام يجب إنجازها”.
- مارس “الفعل المعاكس” : أي عندما تشعر بالحاجة إلى تحسين شيء ما، اقضِ وقتك في فهمه.
بالتأكيد ستظهر أعراض انسحاب مزعجة. لكن هذا الانزعاج يحمل إشارة: ما الذي تتجنبه بانشغالك بتطوير ذاتك؟
إن العائد من طرح هذا السؤال يستحق (شعور الإزعاج المؤقت) ذاك.
العودة إلى الفهم
يتفوق العائد على الاستثمار في فهم الذات على أي استثمار شخصي آخر؛ فعندما تفهم أنماطك العقلية:
- تتوقف عن معاكسة طبيعتك.
- تتماشى أهدافك مع قيمك الحقيقية.
- ترى العقبات الحقيقية (لا الأعراض).
- تتخذ القرارات عبر رؤية واضحة، لا كإنعكاس شرطي!
يدّعي سكوت كلاري Scott Clary أن كل ساعة تقضيها في فهم الذات الحقيقي توفر لك 100 ساعة في تحسين الذات على نحوٍ خاطئ!

السؤال الذي يغير كل شيء
جودة حياتك تحددها جودة أسئلتك. يتساءل معظم الناس: “كيف يمكنني إصلاح كذا في نفسي؟” أما أنت فاسأل: “لماذا أفعل هذا في المقام الأول؟”
يغيّر هذا التحول البسيط من التحسين إلى الفهم كل شيء؛ فلا تحتاج إلى معلومات أو أنظمة. بل إلى الشجاعة لرؤية ما بين يديك.
توقف عن السعي نحو الأفضل، وابدأ بالسعي نحو الأوضح.
فهم الذات ليس جذابًا. فهو لا يُروّج لدورات أو كتب، كما أنه لا يُقدّم وعودًا بـ “رفع جودة حياتك عشرة أضعاف في 30 يومًا“.
لكن الأساس هو ما يجعل كل شيء آخر ممكنًا. وهو متاح أمامك الآن، دون الحاجة لشراء أي شيء، أو متابعة أي شخص، أو تغيير أي شيء.
فقط راقب وافهم.