إذا كان اليوم آخر أيام حياتك، فهل ستكون ممتنًا بكيف ستُمضيه؟
اشتهر ستيف جوبز بسؤال نفسه هذا السؤال كل صباح.
بالمناسبة، لو كان ما زال حيًا: هل كنت لتوظف “ستيف جوبز”؟
اكتشفت أن عادة ستيف جوبز تلك هي أحد أصعب الأشياء وأكثرها قيمة التي يمكنك القيام بها كمؤسس شركة؛ تكمن صعوبته في سهولة ضياعك بين أطنان العمل اليومي لإنجاح شركتك. أمّا قيمته فلأن العمل على شيء يهمّك هو الطريقة الوحيدة لجعل التوتر يستحق العناء.
تعلمت هذا بالطريقة القاسية منتصف عام 2010؛ عندما كنت أدير أول عمل حقيقي لي بثلاث سنوات.
فما بدأ كمشروع جانبي -وهو معتكف مخترقين لمدة ثلاثة أشهر في كوستاريكا- تحول إلى شركة سفريات تحقق 500,000$ إيرادات سنوية. ومع ذلك، مع نمو الشركة، وجدت نفسي في منصب -وحياة- تركتني مع شعور بعدم الرضى.
تحت إغراء فكرة تأسيس شركة ممولة ذاتيًا “Bootstrapped Business“، بتّ منقادًا -على نحوٍ متزايد- لتجنب الخسارة. اتخذنا بعض القرارات المحورية لبثّ الحيوية في الشركة- رفع الأسعار واستهداف العملاء مرتفعي الدخل- ولكن ذات القرارات أبعدتنا أيضًا عن جوانب العمل التي تكسبه قيمته.
بعد أعوامٍ ثلاث، بنينا شركة مستدامة، لكن زهدت بإدارتها آنذاك. ذلك لأنني فقدت الاتصال بقيمي. كان كل قرار مهني اتخذته مجديًا اقتصاديًا، ولكنه يتجاهل ما أردت لحياتي وعملي أن يدور حوله. إجمالاً، صاغت تلك القرارات نمط حياة لم اتأقلم معه.
ولو كنت، عوض ذلك، منسجمًا أكثر بما أريده من حياتي وعملي. لاستطعنا، باعتقادي، بناء شركة حيويّة وهادفة.
كيف تعيش وفق قيمك أثناء تأسيسك شركة؟
على مدار سنواتٍ مضت، انغمست في أدبيات القيم المستخلصة من العلاج بالتقبّل والالتزام (ACT)، وكانت أكثر الأدوات فاعلية لتجويد معنى الحياتين الشخصية والمهنية.
في هذه التدوينة، سنتعمق في تفاصيل القيم وكيف تُعينك على إبقاء تواصلك بالأمور المهمة، لألا ينتهي بك الأمر إلى شركة ناجحة داخل حياة كريهة.
محاور التدوينة
لنعرّف القيم أولًا..
أثناء خضوعنا للعلاج بالتقبّل والالتزام (ACT)، سنرى القيم على أنها ما نريد لحياتنا أن تتمحور حوله في نهاية المطاف. بعبارة أخرى: الطريقة التي نريد أن نحيا بها لحظاتنا، مع العلم أننا سنموت يومًا ما. [وأجد الوقت مواتيًا لأخبرك حول معنى الحياة عند الشخص العدمي ☠️]
إذا سألت أحدهم عما يقدّره، فسيقول شيئًا على غرار “العمل” أو “الأسرة” أو “الروحانية“. في حين لا تُعد تلك الأمور -من منظور ACT- قيمًا. وإنما ميادين قيّمة؛ مجالات حياتيّة يمكن للمرء التعبير -من خلالها- عن القيم المختلفة.
نظرًا لأن العلاج بالتقبّل والالتزام مستوحى من علم النفس السلوكي، فهو يتعامل مع القيم كسلوكيات. ترى (جينا ليجون Jenna Lejeune) في كتابها “Values in Therapy” أن القيم تتمحور حول “الأفعال والأحوال”. لتصل عمق قيم الشخص، يمكنك أن تسأله:
- ماذا ستفعل لو أُتيحت لك فرصة عيش حياة هادفة؟ (الفعل)
- كيف ستجسّد أفعالك على الملأ؟ (حال)
على سبيل المثال، قد نُعلي من قيمة (المحبة العلانية Loving openly) في حياتنا الأسرية أو الحلول الإبداعية في حياتنا العملية. في كلا المثالين، تدور قيمنا حول سلوكنا ونوايانا.
فضلًا عن ذلك، تتعلق القيم بما نخطو نحوه، لا بما نجتنبه. لا يُعتبر “عدم الخوف” قيمة، ولكن يمكن اعتبار “العيش بشجاعة” كذلك.
تتجلى أهمية هذا التمييز بكون الحياة الهادفة ليست تلك التي تجنبنا خلالها التهديدات بنجاح؛ وإنما التي سعينا فيها خلف ما يستحق.
من الجدير بالذكر أيضًا أن القيم ليست شيئًا تعلل سعيك خلفه؛ فلا هي “أخلاقية” ولا تتطلب تبريرًا عقلانيًا حتى! ترتبط القيم بما يمنحك خبرة حسيّة بالمعنى والهدف، ولا علاقة لها بالموقف الفلسفي لما يجدر أن يكون مهمًا في الحياة (سواء من منظورك أو منظور الآخرين).
القيم هي أساليب حياة، وهي ما تضمن قولك على فراش الموت “كانت تلك حياة رائعة بحقّ”
القيم مقابل الأهداف
باستطاعتنا أيضًا رؤية القيم -ضمن إطار العلاج بالتقبّل والالتزام- كتوجّهات لحياة مُثمرة، في حين تبقى الأهداف معالم على الطريق هل تذكرون تدوينة التوجّه هو المقصد ? (نحو علاقة صحيّة بأهدافنا)؟
حين اسألك “ما الذي تتوق لتحقيقه في حياتك؟” فغالبًا ما ستفهم أنني اسألك عن “هدف مُحدد“:
- أريد تأليف كتاب.
- أرغب في بناء شركة ثم بيعها بمبلغٍ ضخم.
- أودّ لو أجد شريك الحياة المثالي.
المشكلة أن التركيز المفرط على النتائج قد يعيق صنع المعنى والدافع طويل الأمد. فدائمًا ما تكون الأهداف في الماضي أو المستقبل، لا وجود لها في الحاضر أبدًا؛ إذا ركزنا على حالة مستقبلية مثالية، فإننا نفقد فرصًا للمعنى في اللحظة الراهنة، وتصبح حياتنا وسيلة لتحقيق غاية. من ناحية أخرى، بمجرد أن نحقق هدفًا، يغدو ماضيًا، فنفتقد لشيء نتجه نحوه!
وراء كل هدف هو شيء نقدره
ربما تريد تأليف كتاب لأنك تقدّر التعلم أو المساهمة في العالم. وربما ترغب في بناء شركة لأنك تقدّر الاستقلالية أو القدرة على إعالة أسرتك. الهدف مجرد معنى بالنسبة لنا، لأنه يرتبط -بطريقة ما- بجانب من جوانب الحياة التي نعتز بها.
عندما نرى أهدافنا مجرد محطات بارزة على مسار حياة هادفة، فستغدو كل خطوة نتخذها وسيلة للعيش بهذه القيمة في اللحظة الراهنة.
على سبيل المثال، بدلاً من التركيز على الهدف البعيد المتمثل في تأليف كتاب -والذي قد يبدو شاقًا وغير مؤكد- يمكنك إيجاد معنى في الإبداع اليومي: وضع الكلمات على الصفحة، أو في كيفية نمو إدراكك أثناء مشاركة عصارة فكرك مع الآخرين.
وهكذا، يمكننا إيجاد المعنى والمتعة في الرحلة نفسها. والتي، وفق تجربتي الشخصية، هي الطريقة الوحيدة لتحمّل العمل المليء بالتحديات بمرور الوقت.
? احرص على قراءة تدوينة لماذا يجب أن تتبنى مفهوم الحياة الخالية من الأهداف؟ لتكتمل رؤيتك للفكرة.
بجانب ذلك، عندما تحقق هدفًا كبيرًا في النهاية -مثل نشر كتاب- فستبقى قيمك لإرشادك. يمكنك إنهاء كتابة كتاب، لكن لا يمكنك أبدًا “إكمال” القيم مثل التعلم أو الاهتمام أو الاستقلالية أو المساهمة.
ثمّة أمرٌ آخر يجب معرفته عن الأهداف: ليست سواسية.
أهداف الشخص الميت
كما ذكرت أعلاه، تتعلق القيم بما نخطو نحوه، لا بما نجتنبه. إلا أن البعض يضع أهدافًا “اجتنابية”، على غرار:
- أود ألّا أماطل.
- أرجو لو أُنهي وجود يوتيوب/ تويتر/ تيكتوك في حياتي.
- ليتني أقلل الاهتمام بما يعتقده الآخرون عني.
يُطلق على أشباه ما سبق “أهداف الشخص الميت”، لأنها أهداف يمكن للشخص الميت تحقيقها على نحوٍ أفضل من الشخص الحي؛ الجثة لا تماطل أو تشاهد يوتيوب.. فهي لا تفعل أي شيء على الإطلاق!
لو تعمّقنا في مثل هذه الأهداف، سنلاحظ أنها (تحبسنا داخل أقفاص): يُصبح سلوكنا متمحورًا حول تجنب الأمر “السيئ”، وفي ظل وجود قواعد لا تُعدّ ولا تحصى، يغدو الالتزام بكل المعايير التي وضعناها لأنفسنا.. مستحيلًا!
كيف نبثّ الحياة في هدف ميّت؟
عبر طرح سؤال بسيط: “ما الذي سيحلّ محلّ [العادة السيئة] إن انحسرت الأخيرة؟ ما الذي آمل تحقيق المزيد منه في حياتي؟ “
لنطبّق ذلك عمليًا من خلال الأمثلة أعلاه:
- أودّ التوقّف عن المماطلة لأتمكن من أداء المهام العميقة.
- أسعى لترك (يوتيوب/ تويتر) فأكون أكثر حضوراً مع عائلتي وأكثر تركيزاً في العمل.
- أريد أن ألّا أهتم بما يعتقده الآخرون عني، عساني أخوض مخاطر أكثر في حياتي وأسعى وراء ما أريده حقًا.
في كل من هذه الأمثلة، بمجرد أن نعرف ما نستفيده من إزاحة (هدف الشخص الميت الأصلي) جانبًا، سيكون بمقدورنا التخلي عن (الاجتناب) والتركيز على التحرك نحو ما نهتم به.
? اتخذ كتاب اصنع وقتا اكثر من المتاح رفيقَ طريق.
قد يبدو هذا تلاعبًا بالألفاظ فحسب، لكنه مهم للغاية.
عندما يرتكز سلوكنا على محاولة تجنب شيء “سيئ”، فسيتطلب الأمر قوة إرادة مُتجددة (وقد تُستنزف بمرور الوقت). على الجانب الآخر، عندما نتحرك نحو ما نهتم به، تكون العملية مُجزية في جوهرها وتمدّنا بالطاقة التي لا تنضب.
في نهاية المطاف، كلما تواصلنا مع قيمنا في عملنا، زاد الحماس الذي يُعيننا على الاستمرار، ما يؤدي إلى أنماط سلوك -متوافق مع القيم- أعظم في حياتنا.
والآن، بعد هذه اللمحة عن القيم، كيف يمكننا وضعها موضع التنفيذ في حياتنا وعملنا؟
تمارين القيم
يضمّ العلاج بالتقبّل والالتزام عشرات التدريبات حول القيم، وسنغطي منها اثنين يمكنك تطبيقهما مباشرةً.
المنطقة المثالية The Sweet Spot
حيث نستحضر لحظة من ماضينا ذات مغزى عميق بالنسبة لنا، ثم نبذل قصارى جهدنا لتجسيد تلك الذكرى واستشعارها. أغمض عينيك وفكر فيها بعمق أكبر. يمكنك استكشافها من خلال أسئلة مثل:
- أين كنت؟
- مع من كنت؟
- ماذا رأيت / سمعت / شممت؟
- بم كنت أشعر؟
- ما المهم -بالنسبة لي- في تلك اللحظة؟
من المهم اختيار “لحظة يومية” جذّابة، عوض واحدة من تجارب الذروة “Peak experience”؛ القفز بالمظلات أو إتمام صفقة كبيرة.
تدوين القيم
يتضمن تدوين القيم التفكير في نهاية كل يوم فيما فعلته وكيف يرتبط بغاياتك الأسمى.
تذكر كيلي مكجونيغال Kelly McGonigal، عالمة النفس بجامعة ستانفورد، هذه الممارسة في كتابها، الجانب الإيجابي من التوتر The Upside of Stress:
“الكتابة عن قيمك هي واحدة من أكثر العلاجات النفسية فعالية على الإطلاق. على المدى القصير، الكتابة عن القيم الشخصية تجعل الناس يشعرون بمزيد من القوة والسيطرة والفخر. كما أنها تُشعرهم بمحبة أعمق وقدرة أكبر على التواصل والتعاطف مع الآخرين. فهي تزيد من تحمل الألم، وتعزز ضبط النفس، ويقلل من اجترار الأخطاء -غير المفيد- بعد تجربة مرهقة.
على المدى الطويل، ثبت أن الكتابة عن القيم تعزز معدلات النمو، وتحسن الصحة النفسية، كما أنها تُسهم -لحدٍ كبير- في كل شيء من إنقاص الوزن إلى الإقلاع عن التدخين.. إلخ”.
وذاك منطقي: فالقيم -من منظور ACT- تعني توظيف سلوكك في خدمة الأشياء التي تهتم بها، وييساعدك تدوينها على تعمّد بناء هذه الروابط استباقيًا.
يمكنك تطبيق ذلك من خلال الاحتفاظ بدفتر يوميات يركزّ على السؤال الآتي:
كيف ارتبط سلوكي اليوم بقيمي؛ بما يهمني بشدة؟
من خلال طرح هذا السؤال، لا نبدأ فقط في ربط قيمنا وسلوكنا، ولكن أيضًا نسهّل اكتشاف فرصَ تعبيرٍ عن قيمنا في حياتنا اليومية.
مخرج.. نحو الحياة الحقيقية
سأتركك مع سؤالين:
- إذا كان بإمكانك الاختيار، ما الذي تريده بشدة لحياتك؟
- إذا كان اليوم آخر أيام حياتك، فهل ستكون ممتنًا بكيف ستُمضيه؟
ربما كنت تعيش وفقًا لقيمك، وتضفي هذه الأسئلة إحساسًا بالمعنى والرضا. أو ربما تشعر بانفصالك عنها، فستعيدك تلك الاسئلة لجادّة الصواب.
أيًّا كان وضعك الحالي، آمل أن تستمر في العودة إلى أسئلة مثل هذه، حتى عندما تترك غير مرتاحًا. يمكن لفهم كيف نرغب حقًا في العيش -وكيف يتناقض ذلك مع واقعنا اليومي- أن يوضح لنا ما قد نحتاج إلى تغييره أو قبوله للمضي قدمًا في حياتنا.