يُعد جون دافيسون روكفلر [John D. Rockefeller] أحد أنجح رجل أعمال على مر العصور. الملفت أنه كان انعزاليًا، يقضي معظم وقته وحيدًا. نادرًا ما رآه الناس يتحدث، وكان يتعمد البقاء في الظل، وحتى إن لفت أحدهم انتباهه، ظلّ صامتًا.
يصفه عامل مصفاة تكرير (عمل تحت أمرته) “أنه يترك الجميع يتحدث، بينما يجلس منصتًا. إنما يبدو مُستذكرًا كل شيء. وهكذا، عندما يبدأ العمل، يُتقنه تمامًا“.
وكلما سُئل روكفلر عن صمته أثناء الاجتماعات، ردد الأبيات الآتية:
عاشت بومة عجوز حكيمة في شجرة بلوط،
كلما رأت أكثر، قلّ حديثها،
كلما قلّ كلامها، زاد سمعها،
لمَ لا نقتدي جميعًا بذلك الطائر العجوز؟
كان رجلًا غريب الأطوار. لكن كلما قرأتٌ عنه أكثر، أدركت أنه رأى آنذاك ما ينطبق -اليوم- على عشرات ملايين العمال.
لم تكن مهمة روكفلر حفر الآبار، أو تحميل القطارات، أو نقل البراميل، بل اتخاذ قرارات صائبة. ويتطلب اتخاذ القرارات، قبل كل شيء، الاختلاء بنفسك للتفكير في المشكلة.
لم يكن نتاج روكفلر -أو إنجازه- ما فعله بيديه، أو حتى بكلماته، بل ما استوعبه في عقله. لذا، قضى معظم وقته وطاقته “هناك”.
وكان هذا استثنائيًا في عصره
تطلّبت جميع المهن تقريبًا -في عهد روكفلر- العمل اليدوي. إذ انحصرت ما بين الزراعة (46%) والحِرف والصناعات (35%)، لتعتمد نسبة مهن قليلة (19%) على عقل العامل. وفقًا للاقتصادي روبرت جوردون [Robert Gordon].
لم يكن المرء يفكر؛ بل يعمل بلا انقطاع، وكان عمله مرئيًا وملموسًا.
انقلبت الآية اليوم.
تُوسم 38% من الوظائف الآن بكونها وظائف "مدراء ومسؤولين ومهنيين"، أي وظائف تتطلب اتخاذ قرارات. و41% أخرى وظائف "خدمية" تعتمد -غالبًا- على أفكارك قدر اعتمادها على جهدك.
والمشكلة التي لا نتمّعن فيها؟ حتى مع تزايد المهن الفكرية التي تتطلب خلوة للتفكير في مشكلة ما، لا زلنا أسرى الاعتقاد بأن الموظف الجيد يعمل أمام أعيننا ودون انقطاع.
شتّان بين العمل المُثمر اليوم ونظيره في العصور السابقة!
- إن كانت وظيفتك تحريك رافعة Lever، فستكون منتجًا “فقط” حين تسحب الذراع.
- لكن حين تكون وظيفتك إطلاق حملة تسويقية، فستظل منتجًا حتى أثناء جلوسك بهدوء وبعينين مغمضتين، تفكر في التصميم.
تكمن المشكلة في توقّع العديد من أماكن العمل من مسؤولي المعرفة سحب ذراع الرافعة “المُشابهة” -متمثلةً بـليبر اوفيس (LibreOffice)– لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع بينما حريٌ بهم الانغماس في نشاطات تبدو كسولة -ظاهريًا- ولكنها في الواقع منتجة. والنتيجة؟ مَنح معظم الناس وظائف فكرية دون أن يُمنحوا وقتًا كافيًا للتفكير، ما يُشبه إجبار حافر الخنادق على العمل دون مجرفة! ربما لهذا انخفض معدل نمو الإنتاجية إلى نصف ما كان عليه.

إذا كنتَ مُتمسكًا بالعالم القديم، حيث يُعرف (الإنجاز الممتاز) بنشاطه البدني، فقد تستصعب إدراك أن الاستخدام الأمثل لوقت العامل المعرفي يكون بالجلوس على الأريكة والتفكير. رغم أن ذلك بديهي تمامًا.
نادرًا ما تأتي الأفكار العظيمة في الاجتماعات، أو أثناء جلوسك إلى مكتبك. بل نراها تهبط علينا ونحن نستحمّ، أو أثناء طريقنا للعمل، أو في خضم عطلة نهاية الأسبوع. لطالما دُهشت من عدد الأفكار الشهيرة التي تخطر في حوض الاستحمام. لكن أخبر مديرك أنك بحاجة إلى حمام دافئ في منتصف النهار، وسيكون رده متوقعًا تمامًا!
انظر إلى المفكرين المشهورين الذين لم يحاولوا إثارة الإعجاب بإدعائهم الانشغال، وسترى قاسمًا مشتركًا بينهم: جميعهم قضى ساعات في أمور لم تبدو وكأنها عمل، ولكنها -في الواقع- كانت منتجة بشكل مذهل.
يقول ألبرت أينشتاين على سبيل المثال:
أخصص وقتًا للمشي الطويل على الشاطئ لأستمع لما يدور في رأسي. وإذا لم يَسر عملي كما يجب، أستلقي في منتصف يوم العمل أحدّق في السقف لأستمع وأتخيل ما يدور في خيالي.
شعر موزارت بنفس الطريقة:
عندما أسافر في عربة أو أتمشى بعد تناول وجبة دسمة أو عندما يُجافيني النوم، تتدفق أفكاري في مثل هذه اللحظات بكثرة.
يتوافق هذا مع دراسة أجريت في ستانفورد أظهرت أن المشي يزيد الإبداع بنسبة 60%.
في نهاية المطاف، لا مناص من التزام الجميع بأهدافه
ولكن، مع تحول الاقتصاد نحو العمل المعرفي، علينا فهم أن ما يُنتج عملاً لائقًا قد يبدو للوهلة الأولى كسلًا، والعكس صحيح.
في الاستثمار، حيث توجد إمكانية للنجاح بمحض الصدفة، نحكم على الشخص بناءً على طريقة استثماره لا على مُخرجاته. ربما يكون العمل عكس ذلك. احكم على الناس بناءً على نتائجهم، لا على وضوح عملية استثمارهم، والتي غالبًا ما تختبئ في عقولهم.