قضيت معظم حياتي أدعيّ أنني شخص “مشغول”. ورغم كون الأمر حقيقةً لا إدعاءً فارغًا، لكنه أصبح أيضًا جزءًا من هويتي، إلى أن أدركت حقيقة غريبة.
إذا سألني أي شخص عمّا أفعل، فسأردّ دائمًا بجواب يتراوح بين “مشغول جدًا!” أو “بخير، لكن مشغول حقًا!“
أصبح الانشغال جزءًا من هويتي؛ تفاخر غريب طورّته كإشارة إلى قيمتي ورفع تقديري لذاتي.
أجزم أنني لست استنثاءً، أصدقني القول:
كم مرة قلت -خلال الشهر الماضي مثلًا- عباراتٍ شبيهة عندما سُئلت كيف حالك؟
ربما أكثر بكثير مما تودّ الاعتراف به.
لا عليك، فلست وحدك.
في حين أننا ننتمي لخلفيات مختلفة، فإن السمة المشتركة بيننا أننا جميعًا نسعى نحو النمو؛ فالإنجاز والتحسين والنمو يمنحنا الطاقة.
غالبًا ما يكون ذاك المنحى إيجابيًا، لأنه يعني ميلنا لاستغلال ما لدينا في الأنشطة التي تبني مستقبل أفضل. لكن للأسف، لذاك جانب سلبي؛ ميلنا للوقوع في الفخ؛ مصيدة الانشغال.
اليوم، سنتعاون على (تفكيك المصيدة) لتعميق فهمًا حول ما يجعلنا -جميعًا- دائمي الانشغال، وكيف يضر ذلك بحياتنا، وأخيرًا، سنتعرف على بعض التطبيقات والقواعد لتجنّب تلك المصيدة.
دعنا نتعمق في..
لما أنا مشغول؟
في السنوات الأخيرة، بدا الجميع قد أصبحوا مشغولين حقًا. إذا حضرت حفلًا ما، فغالبًا ما ستسمع كلمة “مشغول” 100 مرة (على الأقل).
تلك نزعة مثيرة للاهتمام، وجديرة بالمراقبة، لا سيما بالنظر إلى تضارب الأبحاث حول ما إذا كانت ساعات العمل الفعلية والالتزامات المرتبطة بها قد زادت فعلًا.
في سبيل فهم هذه المشكلة، ربما من المنطقي تفكيكها إلى قسمين منفصلين:
- لماذا نقول نحن مشغولون؟
- لماذا نشعر بأننا مشغولون؟
التمييز مهم هنا.
لنبدأ بالأول:
لماذا نقول إننا مشغولون؟
“الاستعراض” أو السعي إلى المكانة ?
أصبح الانشغال رمزًا للمكانة في بيئة العمل الحديثة؛ قررنا -بطريقة ما- أن الانشغال أمر حسن، لذلك نفخر بانشغالنا ونعتبره دليلًا على قيمتنا في المجتمع؛ فأن نكن منشغلين طوال الوقت، فهذا لأننا نتمتع بقيمة عالية وننتج بغزارة!
حماية الذات ?♂️
قد نستخدم (الانشغال) أسلوبًا لحماية أنفسنا من الرقابة في سوق العمل؛ إذا كررت باستمرار أنك مشغول (أو أظهرت ذلك)، فلن يشكك مديرك أبدًا في أخلاقيات عملك أو نتائجه، وستستمر في تسلّق الهرم الوظيفي بثبات.
حسنًا، هذان سببان رئيسيان لإدعائنا الانشغال، ولكن ماذا شعورنا بأننا مشغولون؟
لماذا نشعر بأننا مشغولون؟
الترابطية الدائمة
لا يخفى على أحد أننا نعيش في عصر الترابطية الدائمة (Constant Connectedness). أجهزتنا الرقمية مربوطة “حرفيًا” بأجسادنا طيلة الوقت، ترسل إلينا إشعارات محمومة بأحدث الأخبار والمهام العاجلة.
يمكن القول أن الجائحة والعمل عن بعد أدّيا إلى تفاقم المشكلة. مع غياب تحديد ساعات يوم العمل، أصبحنا أحرارًا في البقاء على الشابكة 24/7، ويشعر “رؤسائنا” أننا متاحون طوال الوقت.
تُعد الترابطية، من نواحٍ عديدة، مفارقة:
نحن على اتصال دائم، نرزح تحت وابل الإشعارات وهَبّات الدوبامين. لكن في حين نحظى بترابطية عالية، نشعر بأننا أقل ارتباطًا؛ عمل أكثر، قائمة مهام أطول، اجتماعات أكثف، طنين “pings” مستمر، وفي المقابل: سيطرة.. مساءلة.. روابط أقل.
أدت الترابطية الدائمة لشعور بأننا أكثر انشغالًا، بالتزامن مع افتقادنا المعنى وسط الصخب.
الهوس بالاستفادة
بحسب ثقافة التطوير: إن لم تحقق أقصى استفادة من كل ثانية في يومك، فإنك تحيد عن مسيرة النمو.
أعلم ما تحدّث نفسك به الآن! أنني أكتب الكثير عن رفع الإنتاجية وتطوير الذات. إنما أكتب -بالتوازي- عن العمل بذكاء وليس بجهد، وأرى في الكفاءة عدوًا، وفي الملل صديقًا، وأشددّ على أهمية الهوايات للمستقلين.
عندما نسعى باستمرار إلى الاستفادة المثلى من وقتنا، فإننا نملأ الأخير بالحركة (والتي قد تخلو تمامًا من الإنجاز).
الفشل في تحديد الأولويات
ربما يعدّ الدافع الأكبر للانشغال. ويظهر بشكلين:
- القائمة المختصرة: نادرًا ما يتواجد أكثر من 2-3 أشياء مهمة حقًا في أي وقت. وفشلنا في تحديدها والتركيز عليها يعني أننا نشغل أنفسنا بكل شيء آخر في قائمة مهامنا!
- العاجل مقابل الضروري: يصرف قضاء وقت أكثر من اللازم على الأمور العاجلة انتباهنا بعيدًا عن الضروري والهام.
بعد أن غطينا أسباب انشغالنا الشديد، دعنا نناقش -بإيجاز- عواقب انشغالنا الدائم.
عواقب الانشغال الدائم
وجدت -عبر تجربتي الخاصة- نتائج سلبية تنجم عن العيش في حالة مشغولية دائمة، على سبيل المثال:
- الفشل في إنجاز المهام الضرورية: الانشغال استنزاف للعقل؛ يفرض تخصيصًا -غير فعّال- لمواردنا العقلية الثمينة، علاوة عن تبديده طاقتنا الإبداعية.
الشخص المشغول يقضي وقته فيما لا يهمّه حقًا، ليفوت على نفسه فرصة العمل على المشاريع الحقيقية. هذا يعني -عادة- أن نسعى ولكن دون إحراز أي تقدّم. أو بعبارة أخرى: يصبح المرء حصانًا هزازًا: دائم الحركة، ولكنه يراوح في مكانه!
- الإضرار بصحة الجسد: عندما تشعر أنك مشغول، فستختلق أعذارًا للاستسهال. بالنسبة لمعظمنا، هذا يعني فقدان الموقمات الثلاث الرئيسية للصحة البدنية: النوم والتمارين الرياضية والتغذية.
كم مرة تذرّعت بانشغالك لتجنّب الذهاب إلى التمرين، أو لتناول وجبة غير صحية، أو للسهر لوقت متأخر؟ تصرفات ضررها واضح على المدى الطويل. - الإضرار بالصحة النفسية: المشغولية وصفة مضمونة للإنهاك “Burnout”. إذا كنت تشعر بأنك مشغول معظم الوقت، واستمر ذلك لفترة طويلة، فستنهار في النهاية. للانشغال الدائم تأثير سلبي مخيف على الصحة النفسية وجودة الحياة “Wellbeing”.
- افتقاد مشاعر الامتنان والمتعة: عندما تكون مشغولًا، فلن تتوقف قطعًا لتلّمس جمال العالم.
كيف نتجنب مصيدة الانشغال؟
أرجو أن تكون قد اقتنعت بإشكالية الانشغال. فلنتحدث إذًا عن كيفية تجنّبها.
أعد صياغة هدفك
الخطوة الأولى هي إقصاء رغبتنا في إدعاء الانشغال. نحتاج لإزالة “مشغول” من قائمة المؤشرات الإيجابية في وعينا الجمعي.
عوض محاولة إنتاج مدخلات وافرة، لما لا تعمل على فكرة مخرجات وفيرة من كل مُدخَل؛ من “المُبهر” قول: قرأت 52 كتابًا خلال العام. لكن المبهر أكثر قراءة كتاب بعمق كافٍ لتغيير حياتك.
لا يتعلق الأمر بعدد ساعات العمل أو مدى امتلاء أيامك بالنشاطات. بل بالتحكم بإسهاماتك.
إذا استطعت تجنّب مصيدة الانشغال، فاحرص -في حفل الكوكتيل القادم- على التفاخر بمدى عدم انشغالك! تحدث عن الحرية التي تتمتع بها في التنزه خلال اليوم، والتفكير الإبداعي في المشاريع الكبيرة والطموحة، وقضاء الوقت مع أحبائك.
دعونا نجعل (عدم الانشغال) صيحة جديدة!
حدد وركّز على المهم والضروري
تأنّى حيال تحديد المهم في حياتك وعملك.
واسمح ليّ بمشاركتك استراتيجية بسيطة لتحديد ما المهم حقًا:
- نظّم قائمة: تتضمن أهم 25 أولوية لديك. (أجد شخصياً صعوبة في الوصول إلى 25، لذا تضمنت قائمتي 10 أولويات فحسب).
- ضيّق القائمة: عُد للقائمة أعلاه وضَع دائرة حول أعلى 3-5 منها. يجدر أن تكون تلك الأولويات القصوى المطلقة في حياتك المهنية. وهي التي ستحمل أكبر تأثير على مسارك.
- اشطر القائمة: اكتب أهم 3-5 أولويات في قائمة، وستكون (قائمة تركيزك). وضع بقية العناصر في قائمة أخرى، والتي ستحمل اسم قائمة (تجنّبها مهما كان الثمن).
بمجرد إنهاء بنود كلتا القائمتين، كن صارمًا في تطبيق ما ورد ضمن قائمة التركيز. وإذا ظهرت أي مهمة جديدة، فُعد للقائمة النهائية واجرِ تقييمًا سريعًا لتحديد ما إذا كانت تستحق مكانًا في قائمة التركيز (أم في القائمة الأخرى).
استخدم مصفوفة آيزنهاور “Eisenhower Matrix” لمعرفة مقدار الوقت الذي تقضيه في المهام العاجلة مقابل المهام المهمة.
احتضن الملل ?
في عالمنا فائق الترابط “Hyper-connected”، عُلّمنا ذم الملل والكسل ووقت الفراغ. وقيل لنا أنها علامات ركود وانعدام إنتاجية، وذاك أبعد ما يكون عن الحقيقة!
إذ ظلّ الملل ووقت الفراغ “المُجدول”، طيلة عقود، سلاحًا سريًا لأعظم عقول التاريخ. وأعتقد أننا بحاجة لاستعادة هذه الممارسة إن أردنا الهرب من مصيدة الانشغال.
لإشعال شرارة التغيير، جرب تحدي الملل الإبداعي (Creative Boredom Challenge) الآتي:
- خصص 30 دقيقة لمدة 5 أيام، بحيث تخرج للتنزّه -وحيدًا- بدون اصطحاب أي جهاز كان (أو يمكنك الجلوس بمفردك؛ دون “خير جليس”).
- والآن، دع عقلك يشرد ببساطة. مسموح لك بحمل دفتر ملاحظات صغير لتسجيل أي أفكار أو رؤى مثيرة للاهتمام.
سيساعدك تخصيص وقت الفراغ هذا على رؤية الصورة كاملة. عندما تحظى بوقت فراغ، سيكون ذهنك صافيًا بما يكفي لاستقبال الأفكار الجديدة؛ لم تعد صناعة الحظ سرًا منذ الآن.
مَخرج ?
أعتقد أننا في خضم أزمة انشغال عالمية. وعلى عكس ما قد تفترضه، يجعلنا الانشغال جميعًا أقل إنتاجية، لا العكس. إضافة لتأثيره السلبي على شتى مجالات حياتنا.
آن أوان اتخاذ موقف مناهض للانشغال.
والآن، أرغب لو تشاركني:
- هل كنت -ذات مرة- ضحية مصيدة الانشغال؟
- كيف هربت منها؟
إذا أحببت التدوينة، فتُسعدني مشاركتك المصدر: نشرة The Tilt لروّاد أعمال المحتوى.
حمل الأصل عنوان: How to Escape the Busy Trap