هل يحتاج تأليف كتاب شخصًا مجنونًا أم عاقلًا؟

أنا شابة حائرة ومثيرة للشفقة، أبلغ من العمر 26 عامًا، كاتبة لا تستطيع تأليف كتاب. لقد تأخرت في طرح سؤالي عليك (والأهم، على نفسي حقًا). أجلس الآن أمام مكتبي منذ ساعات، وعقلي جامد ثابت أمام سؤال واحد: لماذا لم يعد الأشخاص الذين أحبهم يحبونني؟ كنت مستلقية قبل قليل على سريري، وجهي مدفون في وسادة، وأشعر بالخوف. نهضت، وتوجهت للجلوس أمام حاسوبي، فازداد شعوري سوءًا!

علمت أن ديفيد فوستر والاس “David Foster Wallace” وصم نفسه بالكاتب الفاشل في الثامنة والعشرين (رغم اختيار روايته “لفتة لا متناهية” ضمن أفضل مئة رواية باللغة الانجليزية منذ عام 1923).

وحين سيطر عليّ الاكتئاب ذات يوم، اشتكيت لصديقتي من أنني لن أكون بمهارة (والاس)، فإذ بها تصرخ في وجهي قائلةً، “اصمتي. لقد قتل نفسه! أرجو الله ألّا تكوني مثله أبدًا“.

أفهم أن النساء مثلي يتألمن ويتعاملن مع الاستخفاف بالذات، وازدراء الأشخاص الأكثر نجاحًا، والشفقة في غير محلها، والإدمان، والاكتئاب، سواء أكانوا كاتبات أم لا. حين اتأمل مسيرة الكاتبات أرى كيف انتهت حياتهن المهنية بالانتحار. غالبًا ما أشرح لأمي رُهابي من كوني كاتبة أو امرأة (بل كليهما) يعني معاناةً أبدية، وفي النهاية تنهيها المرأة لأنها عاجزة عن “أن تكون أفضل”. لتُناشدني -والدموع في عينيها-: ألا يمكن أن تكون مسيرتك مختلفة؟

يا لها من رغبة! أود لو أقفز من النافذة لأسباب كثيرة، أهمّها: لا أستطيع تأليف كتاب. ليس رغبةً في الموت بقدر ما هي رغبة بحياة مختلفة تمامًا. بدأت أعتقد أنه يجب علي اختيار مهنة أخرى، كما تمنّت لوري مور ذات يوم “رائدة فضاء، نجمة سينمائية واعدة، مدرّسة في روضة أطفال.” أريد أن أتخلص من كل ما راكمته وأبدأ من جديد؛ شخصًا أفضل.

حياتي ليست سيئة. لم تكن طفولتي مؤلمة. أعلم أنني لست أول كا犀利士 تبة مكتئبة. “كاتبة .. مكتئبة” ربما النعت الأول أقل دقة، على عكس الثاني؛ إذ شُخّصت سريريًا باضطراب الاكتئاب الشديد “MDD” وعلاقتي متقطعة مع الأدوية الموصوفة، والتي أثق بها لذلك لست أرمي مصطلح “الاكتئاب” جزافًا.

ومع ذلك، أنا عالية الأداء، وشخص يمزح حدّ أن معظم مَن حولي يجهلون الحقيقة. الحقيقة: أنا مسكونة بالذعر لأنني لا/لن أستطيع التغلّب على القيود، وانعدام الأمن، والغيرة، وعدم الكفاءة، لأكتب ببراعة وذكاء وإسهاب. وأخشى أنه حتى لو تمكنت من الكتابة، فستُقابل القصص التي أكتبها بالتجاهل والسخرية.

كيف أصل إلى مُبتغاي عندما لا أستطيع رفع رأسي عن الوسادة؟ كيف يمضي المرء عندما يدرك أنه ربما لا يمتلك الموهبة أصلًا؟ كيف ترتقي -المرأة بالذات- وتصبح الكاتبة التي تطمح أن تكونها؟

مع خالص الشكر
(أ. ب)

سؤال حول تأليف كتاب

صديقتي (أ. ب)،

عندما كنت في التاسعة والعشرين من عمري، كان لدي سبورة في غرفة المعيشة؛ تلك بالإطارات الخشبية ذات الوجهين. كتبت على أحد جانبيها، “أول نتاج معرفة الذات هو التواضع ~ فلانيري أوكونور وعلى الجانب الآخر “جلَست وفكرت في شيء واحد فقط، أن والدتها تمسكها وتحتضن أيديهم ~ يودورا ويلتي“.

اقتباس يودورا ويلتي مأخوذ من روايتها ابنة المتفائل، التي فازت بجائزة بوليتزر للأدب في عام 1972. قرأت الرواية مرارًا وتكرارًا وشكّل ذاك السطر عن المرأة التي حصرت تفكيرها في شيء واحد جوهر دافعي للكتابة، إذ جلست مثلها تمامًا، وإن كنت -في الواقع- مشغولة بأمرين: مقدار شوقي لوالدتي وكيف أن الطريقة الوحيدة التي يمكنني تحمل العيش بدونها هي تأليف كتاب.
كتابي الداخلي؛ الذي علمت أنه يسكنني منذ أمد بعيد (قبل إدراك أنه يمكن لأمثالي أن تعيش كتب داخلهم)، والذي شعرت بنبضه في صدري كقلبٍ ثانٍ، بحيث ظلّ بلا شكل محدد حتى ماتت والدتي، وهنا، ظهرت حبكة القصة التي لم أكن لأعيش لو لم أحكيها: باكورة أعمالي.

كان بلوغي التاسعة والعشرين من عمري -دون كتابته- صدمة حزينة بالنسبة لي. صُدمت من نفسي؛ كنت أتوقع أشياء أعظم. كنت مثلك -نوعًا ما- آنذاك؛ بدون كتاب، مع فرق أنني حظيت ببعض الإشادة الأدبية، حيث فزت ببعض المنح والجوائز، ونشرت بضع قصص ومقالات.
أثارت هذه النجاحات الطفيفة أحلامي العظيمة حول ما سأحققه وفي أي عمر سأحققه. قرأت بنهم، وحفظت أعمال كتّابي المفضلين. دوّنت كل تفاصيل حياتي -بغزارة وببراعة- في مذكراتي. كتبت القصص في نوباتٍ محمومة حينًا ومتقطعة حينًا آخر، معتقدة أنها ستشكّل بأعجوبة رواية دون عناء.

ولكنني كنت مخطئة، إذ رغم أن (القلب الثاني بداخلي) كان ينبض أقوى من أي وقت مضى، إنما لم يرى ذاك الكتاب النور بأعجوبة كما تصورت. ومع اقتراب عيد ميلادي الثلاثين، أدركت أنه إذا أردت حقًا كتابة القصة التي يجب أن أرويها، فسيتعين علي حشد كامل طاقتي لتحقيق ذلك؛ توجّب علي أن أجلس وأركّز في شيء واحد فقط أطول وأصعب مما أعتقد أن بمقدوري. كان لزامًا عليّ أن أعاني. أو بالأحرى: بذل جهدٍ حقيقي.

آنذاك، اعتقدت أنني أهدرت عشريناتي لأنني لم أخرج بكتاب مكتمل، وقد انتقدت نفسي بمرارة على ذلك. نظرت لنفسي بنفس الطريقة التي تتحدثين عنها صديقتي، أنني كنت كسولة وضعيفة. فالقصة داخلي، لكنني لا أسعى لأراها تؤتي ثمارها، أو لأُخرجها إلى الصفحة، وأكتبها بـ “براعة وذكاء وإسهاب” على حدّ قولك.
إلى أن وصلت -أخيرًا- إلى مرحلة كان فيها احتمال عدم تأليف كتاب أكثر فظاعة من تأليف كتاب رديء.
وهكذا في النهاية، جلست لأكتب.

كاتب

عندما انتهيت من تأليفه، فهمت أن الأشياء تحدث كما قُدّر لها: لم أستطع كتابة كتابي سابقًا. لأنني لم أكن “مؤهلة” سواء بوصفي كاتبة أو على المستوى الشخصي. للوصول إلى المرحلة التي تؤهلني لتأليف كتابي الأول، كان لزامًا علي المرور بكل ما حدث في عشريناتي، وكتابة عشرات الجمل التي لم تتحول أبدًا إلى أي شيء وقصصًا لم تشكل أبدًا رواية. وأن أقرأ بنهم وأسوّد عشرات الصفحات في مذكراتي. اضطررت إلى بذل الوقت والدموع على موت والدتي والتصالح مع طفولتي والخوض في علاقات حمقاء وأخرى جميلة. باختصار، كان علي اكتساب “تلك المعرفة الذاتية” التي ذكرها فلانيري أوكونور في الاقتباس الذي كتبته على السبورة. وبمجرد وصولي إلى هناك، كان علي أن أتوقف بجديّة عند أول نتاج معرفة الذات: التواضع.

هل تعرفين ما التواضع صديقتي؟ تأتي الكلمة (Humble بالإنجليزية) من الكلمات اللاتينية humilis و humus. أن تكون منخفضًا.. من الأرض. [وفي العربية وَ . ضَـ . ــع]

أن تكون على الأرض. هو بالضبط المكان الذي شهد وضعي الكلمة الأخيرة في كتابي الأول. أرضية البلاط الباردة التي جلست عليها وبكيت.. بكيت وصرخت وضحكت من بين دموعي. توسّدت الأرض لنصف ساعة. كنت سعيدة جدًا وممتنة.
كنت قد بلغت الخامسة والثلاثين من العمر قبل أسابيع قليلة، وحاملًا منذ شهرين بطفلي الأول. لم أعلم ما إن كان الناس سيرون كتابي جيدًا أم سيئًا أم فظيعًا أم جميلًا.. ولم أهتم!
عرفت -فحسب- أنه لم يعد لدي قلبان ينبضان في صدري. كنت قد أخرجت أحدهما بيدي العاريتين. لقد عانيت ومنحت كل ما لدي.

وإن كنت قد تمكنت أخيرًا من فعلها، فلأنني تخليت عن كل الأفكار الضخمة التي كوّنتها عن نفسي وكتابتي؛ موهوبة جدًا! يافعة جدًا! لقد توقفت عن محاولة أن أكون شخصًا عظيمًا“ضآلت” نفسي لفكرة أن الشيء الوحيد المُطلق -والمهم- هو إخراج ذاك القلب النابض من صدري. مما يعني أنه علي كتابة كتابي.. كتابي العادي ​​جدا.. كتابي الذي ربما لن يُنشر أبدًا. الكتاب الذي لا مكان له بين الكُتب التي أعجبتني حدّ حفظها غيبًا!
عندها فقط، عندما استسلمت بتواضع، تمكنت من فعل ما كنت بحاجة لفعله.

آمل أن تفكري مليًا بذلك، عزيزتي. لو كان لديك سبورة ذات وجهين في غرفة معيشتك، لكتبت لأجلك التواضع في جانب و التسليم في الجانب الآخر. هذا ما أعتقد أنك بحاجة للبحث عنه وتطبيقه لإنقاذ نفسك من الذعر الذي تعيش وسطه. الشيء الأخّاذ -بالنسبة لي- في رسالتك أن تحت كل القلق والحزن والخوف وكراهية الذات، هناك غطرسة في جوهرها. تُقنعكِ بوجوب أن تكوني ناجحة في السادسة والعشرين (في حين أن معظم الكتاب يستغرقون دهرًا للوصول إلى النجاح). 
غرورك الذي يتأسف على أنك لن تكوني أبدًا بمستوى ديفيد فوستر والاس -سيد الحِرفة العبقري- بينما يسخر -في نفس الوقت- من مدى ضآلة كتابتك. أنت تكرهين نفسك، ومع ذلك تطحنينها باعتقاد حول أهميتك. تضعين نفسك إما في أعلى علييّن، أو في أسفل السافلين. ولا يمكن -في كليهما- إنجاز أي شيء.

نحن ننجز حين نكون على الأرض. وأجدى نصيحة أُسديها: أن تضعي مؤخرتك على الأرض! أعلم أن الكتابة صعبة يا عزيزتي. لكن الأصعب عدم الكتابة. والطريقة الوحيدة التي تكشف ما إن كنت “موهوبة” هي بخوض المعترك الكتابي. والسبيل الوحيد لتجاوز “القيود، وعدم الأمان، والغيرة، وعدم الكفاءة” هي تقديم ما لديكِ. ستصادفك قيود. وربما لا تكونين كفؤ في بعض النواحي. ذاك ينطبق على كل كاتب، وخصوصًا على ذوي الـ 26 عامًا منهم. ستشعرين بعدم الأمان والغيرة بالتأكيد؛ أما مقدار تأثير تلك المشاعر، فمتروك لك تمامًا.

متأكدة أن معاناتك من اضطراب الاكتئاب الشديد “MDD” يضيف طبقة صعوبات إضافية للكومة التي تواجهك. لم أركز عليه في إجابتي لأنني أعتقد -ويبدو أنك توافقنني الرأي- أنه مجرد طبقة.
من نافلة القول أن حياتك أهم من كتابتك وأنه يجب عليك استشارة طبيبك حول دور اكتئابك في اليأس الذي تشعر به حيال عملك. لستُ طبيبة، فلا يمكنني تقديم نصيحة طبية. إنما بمقدوري القول أنك لست وحدك في مخاوفك وانعدام الأمن؛ فهي معتادة للكتّاب، حتى مَن لا يعانون الاكتئاب. سيفهم الفنانون -من جميع المشارب- الذين يقرؤون كلماتك معاناتك. بمن فيهم أنا.

أريد تأليف كتاب، فماذا أحتاج؟

يبدو مصدر قلقك الآخر أن كتابتك -بصفتك امرأة- ستؤخذ على محمل الجد أقل من كتابات الرجال. وأنت لم تُجانبي الصواب للأسف. لقد أحرزت ثقافتنا تقدمًا كبيرًا فيما يتعلق بالتمييز الجندري والعرقية، لكن لا زال الطريق طويلًا؛ ما زالت الأعمال الأدبية للنساء والكتّاب الملونين تؤطر على أنها محلية لا عالمية، شخصية أو خاصة وليست ذات أهمية اجتماعية. 
ثمّة ما يمكن فعله لتسليط الضوء وتحدي تلك التحيزات. منظمات مثل VIDA: النساء في الفنون الأدبية موجودة لفعل ذلك بالضبط.

لكن أفضل ما تواجهين به قلقك هو تأليف كتاب مذهل بحيث يعجز الآخرون عن تأطيرك. لن يمنحك أحد الإذن بالكتابة.. لن يمنحك أحد شيئًا. عليك أن تمنحيه لنفسك بنفسك، وتخبرينا بما لديك.

هذا ما فعلته الكاتبات على مرّ العصور وما سنستمر في فعله. ليس صحيحًا أن كونك كاتبة يعاني [معاناةً أبدية، تنهيها المرأة لأنها عاجزة عن “أن تكون أفضل”] ولا أن [السمة الموحدة للكاتبات أن العديد من حياتهم المهنية انتهت بالانتحار] وأنا أشجعك بشدة على التخلي عن هذه المعتقدات؛ غير دقيقة وميلودرامية ولا تخدمك. الناس من جميع المهن يعانون ويقتلون أنفسهم. ورغم الأساطير المختلفة المتعلقة بالفنانين ومدى هشاشتهم النفسية، فلا توجد علاقة بين المهنة ومعدّلات الانتحار. وقد يسهل ترداد قائمة الكاتبات اللواتي انهين حياتهن بأنفسهن، ونخمن أن وضعهن في المجتمعات التي عِشن فيها قد ساهم في حالة الاكتئاب واليأس التي دفعتهن إلى ارتكاب تلك الفعلة. لكنها ليست عاملًا مشتركًا بينهنّ!

إنما هل توديّن معرفة العامل المشترك -حقًا- بين الكاتبات؟

كمَ امرأة كتبت روايات جميلة وقصص وأشعار ومقالات ومسرحيات وسيناريوهات وأغاني بالرغم من كل الهراء الذي تحملته. كم منهنّ لم تنهار تحت وطأة “كان بإمكاني أن أكون أفضل من هذا” وبدلاً من ذلك تقدموا مباشرة وأصبحوا أفضل مما توقعه/سمح به أي شخص. العامل المشترك هو المرونة والإيمان. لا الهشاشة، بل القوة. استخراج الفحم أصعب من الكتابة، فهل ترين عمال المناجم يقفون طوال اليوم ويتحدثون عن مدى صعوبته؟ بالطبع لا. هم -ببساطة- يحفرون .

عليكِ فعل ذات الأمر، عزيزتي الجميلة المتغطرسة الموهوبة المجنونة المعذبة النجم الصاعد المتوهج. إن ارتباطك الشديد بالكتابة يخبرني أن تأليف كتاب هو سبب وجودك في الحياة. وعندما تكون الكتابة غاية وجود أحدهم، فهو يخبرنا دائمًا بشيء نحتاج إلى سماعه. أود رؤية ما بداخلك.. أتوق لتجسيدك معالم قلبك الثاني النابض.

أكتبي (أ.ب). ليس كأمرأة. ولا كرجل.. وإنما كشخصٍ مجنون!

المُخلصة: سُكّر Sugar

هل يحتاج تأليف كتاب شخصًا مجنونًا أم عاقلًا؟

5 أفكار بشأن “هل يحتاج تأليف كتاب شخصًا مجنونًا أم عاقلًا؟

    1. أما أنا، فأقف عاجزًا أمام صياغة عبارات تليق بلُطفك ورقّة كلماتك. 😊
      طبتِ وطاب ممشاكِ في الحياة 🙏🏼

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى