تتسم شركتي السابقة بطريقتها الفريدة في إظهار القيمة المُقدمة لعملائنا، باعتبارنا مديري ثروات ومستشاري استثمارات، حيث اعتدنا تخصيص وقت لتأريخ السجل المالي الكامل مع العميل المحتمل، بدءًا من استعراض أرقامه وليس انتهاءً بعقليته ومشاعره وقصصه عن المال؛ بحيث نتمكن من تقديم توقعات أكثر شمولاً لمستقبله المالي.
وفي ذات يوم، كنّا على وشك مقابلة عميلة محتملة شديدة التحفّظ اتجاه تاريخها المالي. ومع ذلك، كان لزامًا عليّ إعداد ذاك العرض التقديمي المتعمق، ولرغبتي في تجنّب البناء على افتراضات، استخدمت بياناتي المالية الحقيقية، وأجرى الفريق المقابلة معي كما لو كنت العميل المحتمل.
وأثناء استعراضي سجلي المالي، وتعمّقي في قيمي الشخصية، وتفكّري في شكل الحياة التي أتمناها .. انتابني شعور بالغثيان؛ أدركت أن حياتي الحالية لا تشبهها على الإطلاق!
كل هذا ولم نتعمق بعد!
أجرينا تحليلًا لما أملكه، ومقدار ما أنفقه، وقارناه بما قد أعيشه. أثناء ذلك، بدأت تتجلى أمامي الحقيقة: حتى لو تجاوزت الـ 100 عام وتضاعفت مصاريفي، فلن تنفد أموالي.
وهنا، بدأت دموعي تنهمر؛ رأيت سعيي خلف الأمان المالي -من بين أمور أخرى- غير مدركة لامتلاكي له أصلًا، واقعةً تحت تأثير دويّ طبول المجتمع.
ظننت ذلك واضحًا😅؛ فمنذ متى كنت أعمل مستشار استثمارات؟ والأدهى من ذلك: تنفد أموالي منذ الآن! 😭
صاحبة القصة -يا صديقي- هي مانيشا ثاكور Manisha Thakor، مؤلفة كتاب MoneyZen، والذي تفتتحه بالسطور الآتية:
إذا أُعتبرت تجربتي الشخصية دليلًا، فأمامك سبيلان لاعتناق الدين الجديد. الأول عبر اتخاذ قرار واعٍ. والثاني من خلال اتخاذ سلسلة خطوات صغيرة متسقة .. وغير الواعية نحو الشعلة المتوهجة. وبالنظر إلى الماضي، لا أستطيع نفي تحذيراتهم ليّ.
والدين المذكور هنا هو ما أسمته مانيشا “دين عدم الاكتفاء Never Enough“.
أما المقصود بدويّ طبول المجتمع: رسالته المبطّنة بأن حل أي مشكلة “بذل جهد أكبر، وكسب مالٍ أكثر، وأن تغدو شخصًا عظيمًا“.
غرقت مانيشا في نشاط محموم -ما بين عمل ومكاسب وإنجازات- حدّ جعلها تتجاهل تمامًا حقيقة امتلاكها ما تريده. لحظة يصفها الفلاسفة بالاغتراب عن الذات.
تصف الفيلسوفة راهيل جايغي Rahel Jaeggi تجربة الاغتراب على النحو التالي:
وتوضح أن الاغتراب مرتبط أكثر بالدور الذي يلعبه الشخص أكثر من ارتباطه بالشخص. حيث يكتنف الأخير شعور “بتعقيد / تعذّر الوصول إلى الذات“.
قد يكون الشعور مؤلمًا للغاية. ويعمل هذا الألم -في نواحٍ كثيرة- على تغذية دورة الاغتراب.
ليبقينا عالقين في عبادة عدم الاكتفاء
تستذكر مانيشا رحلة العودة بالطائرة بعد قضاء عامها الجامعي الثالث في أكسفورد، وكيف تأثرت بكتاب “غرفة تخص المرء وحده” لفرجينيا وولف. إذ أدركت رغباتها الحقيقية في الحياة: امتلاك مساحة للنشاطات التي تحبها، وتحقيق ذاتها عبرها، بإضافة للمال اللازم لتوفير هذه المساحة.
“لذا رسمت مثلثًا على منديل كوكتيل، وكتبت أعلاه البساطة. أردت حقًا أن تكون (البساطة Simplicity) مُرشدتي”.
وبعدها، كتبت مسرّات صغيرة في الزاوية اليسرى السفلى من المثلث والاستقلال المالي في الزاوية المقابلة؛ متيقنةً أن هذه القيم الثلاث ستوفّر لها فرصة العيش بالطريقة التي أرادتها وأن تغدو من تريد .. لنفسها وللآخرين.
“لكنني أدركت -مع اقترابي من الخمسين- وبفعل الاجتماع الذي جعلني أجهش بالبكاء، مدى انفصالي عن المثلث المذكور”
رأت مانيشا كيف انقلب المثلث رأسًا على عقب. وأصبح الاستقلال المالي مُرشدها، بينما هُمّشت البساطة والمسرّات الصغيرة. لقد ضلّت دربها وسط طقوس [عدم الاكتفاء].
كيف نلعب أدوارنا
تعرّف جايغي في كتابها “Alienation” حالة الاغتراب بمعزل عن فكرة “الذات الحقيقية” المدفونة تحت طبقات من التكييف والتنشئة الاجتماعية. وترى (الاغتراب) باعتباره نظرية نقدية تودّ تجريدها من الأنماط البدائية أو البديهية لفهم الذات.
بالنسبة لجايغي، يغدو لعب الدور مشكلة بفقداننا المسافة التي تفصلنا عنه. بعبارة أخرى، حين نبالغ في التماهي مع الدور الذي نلعبه، حتى نصل لاعتباره هويتنا الحقيقية.
عملت مانيشا في قطاع الخدمات المالية لأكثر من 25 عامًا. وحصلت على ماجستير إدارة الأعمال من كلية هارفارد للأعمال. كما نشرت كتبًا حول الثقافة المالية للنساء، علاوة عن ظهورها في جميع وسائل الإعلام الوطنية الأمريكية مثل Today Show وNPR وCNN وFast Company.
قد تعتقد أنها مستشارة ومتحدثة ومؤلفة ناجحة، لكنها تقول أنه بين الصدمات الصغيرة والتأثيرات الاجتماعية والثقافية، وحتى بعض تأثيرات علم النفس التطوري، كانت بحاجة إلى “عدة صفعات قوية على رأسها” قبل أن تتمكن من رؤية ما كانت تفعله بنفسها.
“وجدت نفسي -دون وعي- أعيش حياتي لتحقيق معادلة مريضة وسامة بشكل لا يصدق:
قيمتي الذاتية = قيمة صافي ثروتي“
لقد عانت من مرضين خطيرين تطلّب التعافي منهما فترة طويلة. وانتهى زواجها لأنها لم تكن حاضرة في علاقتها. وفوق كل هذا، أدركت أن بطاقات التهنئة الوحيدة التي تلقتها كانت من زملاء في العمل. “حذفني جميع أصدقائي من قوائمهم”. ولعل من عجيب المفارقات أن إدراكها جاء بعد تجربة في بيئة العمل [وهل يُصنع الترياق إلا من السمّ؟].
في لحظة البصيرة التي تصفها مانيشا، تدرك أنها أخطأت التمييز بين دور المجتهد المتفوق وهويتها. وترى أنها التصقت بالدور حتى عجزت عن رؤية تحقيق الأهداف التي صُمم الدور لتحقيقها!
مانيشا اليوم هي امرأة بعيدة كل البعد عن الأدوار التي تلعبها. متكاملة تمامًا؛ قادرة على لعب أدوار المؤلفة الناجحة، والمتحدثة الجذابة، والمخططة المالية الذكية، ولكنها لا تخضع لأي منها.
إذا لم تكن هناك مسافة بيننا والأدوار التي نلعبها، فلا عجب أن نشعر بعدم الاكتفاء؛ فلا وجود لدور كافٍ لبناء الإنسان المتكامل. في المقابل، يغدو الإنسان متكاملًا حين يلعب ما شاء من الأدوار، لكنه يُبقيها في منظورها الصحيح، ليسعى في العالم مجسدًا “الاكتفاء”.
أو كما تقول جايغي :
يُعدّ الخروج من دين (عدم الاكتفاء) -وخلق مسافة مع الأدوار التي نلعبها- مفتاحًا لأحد المفاهيم الجوهرية الأخرى التي تناولتها مانيشا في كتابها [MoneyZen] : فهم الفرق بين “المخاوف” المالية و”المشاكل” المالية.
المخاوف المالية مقابل المشاكل المالية
- يمكن تجاوز المشاكل المالية بالحلول المالية والاستراتيجية. بالنسبة للفرد أو الأسرة، تتعلق هذه المشاكل بأمور مثل ديون بطاقات الائتمان، والقروض الطلابية، ومدخرات التقاعد، وتكاليف رعاية الأطفال، وما إلى ذلك.
وعلى مستوى المجتمع، بإشكاليات على غرار ركود الأجور، والتضخم، وتفاوت الثروات، وتكاليف الرعاية الصحية .. إلخ. - تتطلب المخاوف المالية، على الطرف الآخر، “حلولاً عاطفية وفكرية”. تقول مانيشا: “المخاوف المالية ألم جماعي، تولّد شعور بالعجز أمامها مهما حاولنا جاهدين”.
يؤكد مئات “الخبراء” الماليين -في كتبهم ومدوناتهم الصوتية ومقابلاتهم التلفزيونية- أن مفتاح حلّ مشاكلك المالية بسيط: اكسب أكثر وأنفق أقل. في حين أراه تبسيط مُخلّ؛ فلا تأتي الصحة المالية في “باقة موحّدة” تناسب الجميع، والعديد من المشاكل المالية تتفاقم بسبب قوى خارجة عن سيطرة أي فرد.
في الواقع، ركزت مانيشا في أول كتابين لها على الثقافة المالية بنفسها. كانت ترغب في تزويد النساء بالحقائق حول المال وكيفية إدارته حتى يتمكنّ من حل مشاكلهن المالية. تقول:
“ثم أدركت أنه لمجرد تقديمي إجابات على مشاكلك المالية، فأنا لا أخلق بالضرورة حالة من الهدوء والراحة في حياتك المالية”.
ما لم نفصل أنفسنا عن مشاكلنا المالية فإننا نتعلم التماهي معها شيئًا فشيئًا. ليغدو أحدنا “الرجل الذي يعاني من ديون دراسية ضخمة” أو “المرأة التي تعجز عن سداد قرضها العقاري“. وبالتالي، نفقد القدرة على التمييز بين ذواتنا والمشاكل المالية التي نحتاج لحلّها، ونفتقد أي منظور للطريقة التي تؤدي بها العوامل الخارجة عن سيطرتنا إلى تفاقم مشاكلنا المالية.
وبينما يحاول القطاع المالي ربط العمل بعقلية الفرد وقصص النجاح المالي، ترى مانيشا أن هذه المجهودات عاجزة عن الوصول إلى جذور المشكلة. فتقول:
“تميل هذه الأمور لكونها “أعراضًا” لا “سببًا” للعلاقة المؤلمة السامة التي نختبرها مع المال والعمل”.
ورغم اختلاف الأسباب الجذرية المحددة التي يواجهها الأفراد، تستند جميعها إلى عدم رضانا عما يحدث في حياتنا. وعوض مواجهة هذا الاستياء، ينتهي بنا المآل إلى بذل جهد أكبر، وزيادة إيماننا بدين عدم الاكتفاء.
ترى مانيشا الحل في تنمية ثروتنا العاطفية Emotional Wealth:
“الثروة العاطفية هي القدرة على استخدام صوتك بالطريقة التي تريدها واتخاذ خيارات تساهم في خلق حياة تجعل قلبك ينبض بالفرح”.
وتستطرد:
“أنا شخصيًا، في سن الخمسين، استيقظت لأدرك أنني ضحيت بكل حياتي تقريبًا على مذبح العمل. وأردت أن أعرف كيف حدث هذا، والأهم: ماذا أفعل حيال ذلك؟”
تجسّد السخط
يقول الناقد تود ماكجوان Todd McGowan في كتابه الرأسمالية والرغبة: الكلفة السيكلوجية للأسواق الحرة: “تقصفنا الرأسمالية بتجسيدات لاستيائنا“
افتح مجلة.. أو شغّل التلفاز.. أو تصفّح تطبيق تيك توك . تجوّل بسيارتك في الشارع. وسترى مثيرات السخط في كل مكان، جنبًا إلى جنب مع الوعد بإغاثتنا طبعًا.
“يُضطر كثيرٌ منا لفعل أشياء يمقتها”، كما توضح مانيشا، “لشراء أشياء تدفع مَن نبغضهم للانبهار بنا”.
ولكن، سيتمسك الكثيرون برؤية للحياة أكثر سهولة في الوصول إليها مما قد نتصور: فالثروة العاطفية، في عالمنا، ميسورة الثمن.
فقط لولا قصورنا الذاتي!
تتطلب مسايرة التيار طاقة نفسية أقل بكثير مقارنة باتخاذ خيار مختلف. وتقدم مانيشا مثالاً مؤلمًا:
“لم أحضر جنازة جدتي لأنني كنت في ذروة حياتي المهنية في الشركات”، تقولها بصوت مرتجف، “فكرت، “حسنًا، جدتي ماتت. لن تعرف ما إذا حضرت جنازتها أم لا”. تقول كيف لم يخطر ببالها أن “الجنازات تتعلق أيضًا بالأحياء“. لم تر قيمة الطقوس الاجتماعية لأنها كانت منغمسة في العمل والإنجاز.
تشكّل القدرة على إدراك قيمة العلاقات والطقوس والتجارب اليومية، والتي ربما لا تتناسب تمامًا مع السلم الوظيفي، عنصرًا أساسيًا في مفهوم مانيشا للثروة العاطفية.
الطريقة التي نخلق بها ثروتنا العاطفية تختلف من شخص لآخر. ولكن مانيشا تقول إن سرّ اكتشاف ما قد يجعلك ثريًا عاطفيًا هو أن تسأل نفسك أسئلة مثل:
“هل يجعل الأمر قلبك يغني؟ هل يتوافق مع قيمك وأسلوب الحياة الذي تتمناه؟”
يزعم تود ماكجوان، الناقد الذي ذكرته قبل قليل، أن جمودنا ورغبتنا في المزيد متأصلة في النظام الرأسمالي. ويتوقف نمو الاقتصاد على عدم رضانا؛ فعدم رضانا يقودنا إلى الاستهلاك. ويرى ماكجوان أن “جوهر الرأسمالية هو التكديس“. إذ نتخيل أن بمقدور سلعة ما نقتنيها إشباع رغبتنا في نهاية المطاف “[ذاك] الغرض الذي من شأنه أن يطفئ رغبتنا ويسمح لنا بوضع حد للتعطش الدائم إلى التكديس“.
يساعدنا عملا (ماكجوان حول طبيعة الرغبة في الرأسمالية) و (جايغي حول الاغتراب) على إدراك الطرق التي ننتهي بها إلى أن نكون جزءًا من عبادة عدم الاكتفاء أبدًا. لقد كافحت مانيشا مع نفس القصص للوصول إلى رؤاها الخاصة.
نحن لسنا منكسرين، ولا أغبياء؛ لكن غُسلت أدمغتنا بنظام يحقق هذه النتيجة المتوقعة
إن إدراك وجود أمل عميق في الفرار من الواقع أمر ممكن. ربما لا نستطيع الفرار من الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي تشكّل هيكل العالم بأسره، ولكن بإدراكنا وجود هذه الأنظمة، يمكننا أن نكون أكثر وعيًا بكيفية التحرك من خلالها -ومن ثمّ- تجاوزها.
إننا لن نستطيع الاستفادة حتى من أفضل النصائح المالية ما لم نتعامل مع الأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تدمرنا. ولكن بمجرد أن نفهم هذه الأنظمة ونتعامل معها، فإن الطريق إلى الخروج منها سيكون واضحاً للغاية. والمشكلة ليست أننا لا نعرف ما نفعله. بل تكمن المشكلة في وجود روابط نفسية تمنعنا من فعله.
فإذا أردنا الخروج من دين عدم الاكتفاء، فيتعين علينا بذل الجهد اللازم لفهم ما جعلنا نعتقد أننا لسنا مكتفين في المقام الأول.