أتذكر في طفولتي، وكنت وحدي في المنزل، قررت ممارسة لعبة بسيطة: جالسًا في ناحية من الشقة، خاطبت نفسي: “حسنًا، حان الآن وقت الجلوس في الناحية الأخرى. هيا بنا” .. ولكن لم يحدث شيء..
ونظرًا لكوني وحيدًا داخل منزلي، فلم أشعر بالإحراج. لذا بقيت جالسًا في مكاني، أراقب غرابة الموقف.
“لننهض الآن” قلت لنفسي مجددًا. وهنا .. لم يحدث أيضًا! لذا جلست منتظرًا، وأنا متيقّن أن شيء ما سيحدث في النهاية.
وبالفعل، في لحظة ما عقب ذلك بقليل، نهض جسدي -من تلقاء نفسه، ودون أي أمر مني- وتوجّه نحو الغرفة المقابلة.
أقرأ الآن كتابًا بعنوان “حياة الذات الخاصة A Life of One’s Own“. وفيه قصة امرأة تُدعى [ماريون ميلنر Marion Milner]، قررت مراقبة عقلها عن كثب، ورؤية ما يجعلها سعيدة، وما تريده حقًا من الحياة، وما يمكنها فعله لتحقيق المزيد فيها.
صادفت بالأمس، أثناء قراءة الكتاب، المقطع التالي:
كتبت ميلنر أنها اعتقدت أغلب حياتها بوجود طريقين ممكنين للحياة:
- الأول (طريق الإجبار)، أي استخدام إرادتها لإجبار نفسها ودفعها إلى التحرك.
- أما الثاني فهو نفي الإرادة “نوعًا ما”، والتقبّل الرواقي.
ولكن مع الوقت، أدرك ميلنر وجود طريق ثالث. وهذا ما تدور حوله المقولة أعلاه.
ربما لا تحتاج للجلوس مثل “سمبليسيوس”، أو جلد نفسك حتى تتصرف أخيرًا. ولكن باستخدام الإرادة بطريقة أخرى، حيث تتريث وتنتظر.
ذكّرني هذا بشيء آخر قرأته مؤخرًا، عن “الإرادة الحرة”.
ربما سمعت بتجارب علم الأعصاب التي تُظهر إمكانية رصد أفعالنا واختياراتنا في الدماغ قُبيل درايتنا بها بجزء من الثانية، أي قبل “البتّ فيها” بوعي؛ ما نتج عنه نفي البعض مفهوم (الإرادة الحرة).
ولكن هناك بعض التجارب العصبية -المجهولة لنا- أجراها علماء الأعصاب الذين تحدثنا عنهم آنفًا. وتُظهِر أنه في “الجزء من الثانية” ذاك ما بين قرار دماغنا فعل شيء ما وحدوثه بالفعل، يستطيع العقل الواعي الاعتراض على القرار، ومنع تنفيذه.
لا أعلم معنى كل هذه العلوم العصبية عمليًا
إنما ينسجم جزئها الأول -الذي يتحدث عن الأفعال والاختيارات التي تأتي من مكان ما خارج وعينا- مع تجاربي الحياتية، كالموقف الذي استفتحت التدوينة به.
أما الجزء الثاني، الذي يتحدث عن قوة “الفيتو” الواعي، فيتوافق مع ما قالته ميلنر، ومع بعض تجاربي الحياتية الأخرى.
في الواقع، دوّنت منذ عامين ونصف تقريبًا، وتحديدًا في 23 / آذار (مارس) / 2022، حول كيف بدأت أقضي 7 دقائق دون فعل أي شيء قبل وصولي إلى العمل.
تلخصت طريقتي في تحسين الإنتاجية خلال سبع دقائق بالجلوس والتحديق والسماح لنفسي بالتوتر؛ وأجدني -بعدما تنقضي الدقائق السبع- مستعدًا ومتحمسًا لبدء العمل، عوض الاضطرار إلى إجبار نفسي ودفعها.
في ذلك الوقت، لم أدرك فائدة ذلك. لكنني اليوم أسميه التشافي بالملل. وإليك “جلسة نموذجية”:
- لنفترض أنني جالس لقراءة كتاب. وبعد القراءة لدقيقتين. خطرت في بالي -فجأة- فكرة: “دعني أتحقق من بريدي الإلكتروني. ربما يكون هناك شيء مثير في انتظاري!“
- إذا انتبهت للفكرة مُبكرًا، فسيسهُل منع نفسي، ولو لمرة، من الانصياع لها.
ولكن هنا مربط الفرس. في هذه المرحلة، لا أحاول إجبار نفسي على العودة إلى القراءة، رغم اضطراب أفكاري الواضح، ورغم -أيضًا- احتمالية ظهور فكرة التحقق من البريد الإلكتروني مجددًا.
عوض ذلك، أضع الكتاب جانبًا ولا أفعل شيئًا. بل أتريث وأسمح لأفكاري بالتدفق كما تشاء. - بمرور الوقت، تنتهي أفكاري، وأشعر بالرغبة في قراءة الكتاب مرة أخرى. غير أنني أنتظر لحظة؛ للتأكد من أنها ليست حيلة تمارسها أفكاري عليّ (شكل آخر من أشكال القلق).
فإذا كانت حيلة فعلًا، فأظل منتظرًا كما أنا. وإلا، أرفع الكتاب عن صدري (أميل إلى القراءة وأنا مستلقٍ على الأريكة)، وأستأنف القراءة من حيث توقفت.
لقد استخدمت مثال قراءة كتاب لأوضح كيفية التشافي بالملل. ولكنه مفيد أيضًا لإنجاز المهام، أو ممارسة الرياضة في صالة الألعاب الرياضية (عندما أفكر “لا أشعر بالرغبة في ممارسة الرياضة، فلنعد إلى المنزل”)… أو، إذا كانت ميلنر على حق، فلعيش حياتك بالطريقة التي تريدها والاستمتاع بها أيضًا.
أدرك كيف يبدو كل هذا غامضًا أو حتى مثيرًا للشكّ بعض الشيء. ففي نهاية المطاف، ربما لم تسمع قط عن ماريون ميلنر، ولست متأكدًا من وجوب الاستماع لنصيحتها. أما أنا، فأعترف بامتلاكي سجلًا طويلًا من التفكير الوردي وغير العملي وحتى .. غير المنطقي!
دعني أخبرك بقصة أخيرة
القصة عن كاتب إعلانات من الطراز الأول، يوجين شوارتز Eugene Schwartz.
ألّف شوارتز كتبًا كثيرة حول كتابة الإعلانات، بما فيها أعظم كتاب في المجال، Breakthrough Advertising، وكانت لديه أبحاث منشورة في الكتاب المقدس.
وبطبيعة الحال، كتب مئات رسائل المبيعات لنفسه ولعملائه، والتي مكّنته من عيش حياة فارهة في شقته الفاخرة في بارك أفينيو، وامتلاك مجموعة فنية ذات المستوى العالمي. وكل ذلك بالعمل لثلاث ساعات فقط يوميًا.
اشتهر شوارتز بضبط مؤقت المطبخ على 33 دقيقة و33 ثانية. حيث يعمل خلال هذه الفترات ثم يأخذ استراحة.
عادةً ما يُركز الناس على جزئية فترات العمل، ويُهملون الأهمّ: التشافي بالملل، لأن شوارتز مارس نفس الأمر. على حد تعبيره:
بالمناسبة، هذا الاقتباس هو جزء من محاضرة ألقاها شوارتز لصالح صحيفة رودال Rodale Press.