لطالما كنت مِمن يقترحون كتب تطوير الذات للآخرين. أرى شيئًا سحريًا حقًا في تلك الكتب؛ تمنحنا لمحة مذهلة لأسلوب تفكير أذكى العقول في العالم وأساليب عملية -أثبت الزمن جدواها- للارتقاء بحيواتنا.
لكن، بالطبع، الكمال لله وحده.
في مجال محتوى تطوير الذات، هناك -دائمًا- مصيدة (إن صح التعبير)؛ منحنا إحساسًا وهميًا بالإنجاز. يمكننا “التهام” هذه الكتب الرائعة، واستيعاب استراتيجيات لا حصر لها، ومع ذلك نشعر -لحدٍ كبير- أننا لا نحرز أي تقدم حقيقي، رغم نمو (مكتبتنا العقلية) بوتيرة مذهلة.
إذن، ماذا يحدث هنا؟ هل يمكن أن يكون ضرر محتوى تطوير الذات أكبر من نفعه؟ سنحاول سويّة حل هذا اللغز.
مفاتيح حلّ اللغز
عندما تصبح العزيمة.. وهمًا!
لا أسهل من انغماسنا بفكرة أن تعلم المزيد أفضل دومًا. ولكن ما لم يتبع التعلم عمل، تصبح هذه الدروس -ببساطة- توهمًا عقليًا، وسرعان ما يحلّ (وهم الإنجاز) مكان عزيمتنا!
ما رأيك لو استشهدنا بمثال عملي؟ اللياقة البدنية
يمكنك قراءة عدد لا نهائي من كتب الأنظمة الغذائية وكتيبات التمارين الرياضية، ولكن ما لم توصلنا “هذه المعرفة” إلى صالة الألعاب الرياضية ونحرّك أجسادنا، فإنها بلا طائل.
لمَ نقع ضحايا وهم الإنجاز
هل سبق وتعمّقت في أسطورة “شريط التقدم الوهمي”؟
أنا فعلت! حيث وجدت مقالًا رائعًا في The Atlantic (تجده مترجمًا هنا) -متبوعًا بمجموعة من المقالات المماثلة الأخرى- جعلتني أفكر أكثر في مفهوم وهم التقدم.
وإليك ما توصّلت إليه.
أشرطة التقدم مثل خطوط الطاقة. ربما لا تعرف بوجودها أو تلحظها دائمًا، ولكنك تعتمد عليها من نواحٍ عديدة. تستخدم مئات الآلاف من مواقع الويب شريط التقدم (رسم متحرك لشريط أو شكل آخر للامتلاء؛ غالبًا ما تصاحبه نسبة مئوية) لإعلامنا بوجود نشاط -غير مرئي- يحدث أثناء الانتظار. ونعتمد عليها لتخفيف حدّة نفاد صبرنا.
لكن التقدّم لا يتحقق دائمًا. أليس كذلك؟ تحقق كاتب المقالة المذكورة من شريط التحميل على موقع TurboTax (=برنامج يحسب قيم الضرائب) ووجده (ويا للمفاجأة!) ثابتًا بغض النظر عن المُستخدم وقيمة الضرائب المترتبة عليه. بعبارة أخرى: لم يعكس كيفية “تحميل” الصفحة، وإنما تلخصت مهمته في “إشعار” المستخدم بسير العملية على ما يُرام.
تضليل إيجابي/خيّر؟
بالتعمق أكثر قليلاً، تتبعت مصدر إلهام المقال وصولًا لظاهرة تُدعى “التضليل الإيجابي/الخيّر Benevolent deception” التي صاغها البروفيسور (إيتان أدار) في عام 2013؛ مصطلح يطلق على الخدع البسيطة -التي نتعرض لها- عند تعاملنا مع المنتجات الرقمية/الملموسة.
على سبيل المثال، لا تتحكم أزرار عبور المشاة “Crosswalk buttons” فعليًا في حركة المرور. وإنما تمنحنا -ببساطة- إحساسًا “وهميًا” بالسيطرة على الموقف.
يتمثّل الجزء الرائع من ورقة البروفيسور أدار في استخدامه لكلمة “الخيّر”. ويوضح أن بعض تلك الممارسات مفيدة بالفعل للمستهلك؛ توفر إحساسًا بالسيطرة وتساعد على تقليل التوتر.
وبالعودة لموضوعنا “سبب خداعنا أنفسنا في التقدم الشخصي”، أوحت ليّ الورقة البحثية بفكرة: ماذا سيحدث لو استخدمنا “شريط التقدم الوهمي” في حياتنا الشخصية؟ هل سيبقى ذاك (خيّرًا)؟
لا إحسان في إيهام الذات!
مشكلة منح أنفسنا (وهم الإنجاز) جليّة: لا نملك خوارزميات أو أكواد فعّالة تعمل في الخلفية، وتؤدي لنتيجة في نهاية المطاف. ولا يمكننا الاعتماد على الشريط لملئه من تلقاء نفسه. لذا، كلما أحرزنا تقدمًا.. تخلفنا!
سواء أدركنا أم لا، يبني العديد منا أشرطة تقدم وهمية على أساس منتظم. لا أود التعميم، لذا ربما من المهم ضرب بعض الأمثلة المحددة.
تنزيل تطبيقات اللياقة البدنية على هواتفنا
إن عملية تنزيل التطبيق أو (الدفع مقابل الاشتراك) ملموسة بشكل لا يُصدق. حيث تشهد رد فعل مرئي -وملموس- على هاتفك؛ هناك معاملة مالية للدفع مقابل العضوية تجعل العملية تبدو تفاعلية.
تدفعك عملية نشاء حساب وتلقي رسالة تأكيد إلكترونية “البسيطة” لقول “رائع، أنا حقًا أُسدي معروفًا لنفسي هنا.” وقد تقضي بضعة أيام في العبث بإعدادات التطبيق، وتحديد أهدافك، وتتبع مسيرة تحقيقها.
ثم تصل إلى النقطة الفاصلة. بالنسبة للكثيرين، يعدّ تقديم “أدلة كافية” على العمل الجاد؛ تنزيل التطبيق، والالتزام بخطة الدفع، وضبط الإعدادات بمثابة محطة وصول (نرتاح بعدها).
الاستماع إلى مدونات تنمية الذات الصوتية
أعشق المدونات الصوتية (البودكاست). ورغم أنني لم أُفلح كمقدّم ?! لكنني لن أتخلى أبدًا عن إيماني بقدرتها المذهلة على تغيير حياتنا ودفعنا لنصبح نُسخًا أفضل من أنفسنا.
ولكن حتى البودكاست يمكن أن تكون فخًا ?. إذ قد تبدو استثمارًا حقيقيًا لوقتك، فينتهي بك الأمر إلى إحساسك بأنك “باحث في تطوير الذات” إلى حدٍ ما؛ أنت تتلقى كمًّا ضخمًا من المعلومات والنصائح المفيدة، هذا يعني أن تحرز نموًا فكريًا، أليس كذلك؟ ?
لنكن صريحين، يعتمد ذلك على مستوى انتباهك واستعدادك لتطبيق ما تعلمته. فإن كنت تستمع “بخَدر” إلى البودكاست أثناء طريق عودتك من العمل ? ، حيث تختلط كلمات المقدّم وكلمات الضيف وأحلام يقظتك معًا، فالفائدة الوحيدة التي تحصل عليها حقًا هي شعور الرضا “أنا أستغل وقتي بحكمة! أنا أتعلم!“
نعم، أنت تتعلم. إنما فقط إذا استيقظت في اليوم التالي وطبّقت ما سمعته.
مشاهدة مقاطع الفيديو “تلك” على يوتيوب
إن لم تكن مواكبًا لمستجدّات عالم اليوتيوب، فهناك “زوبعة” لمقاطع تروج لأسلوب حياة صحي ومثالي (على نحو غريب):
? حصص تدريبية في الخامسة صباحًا، وختام اليوم في التاسعة مساءً (دون نسيان قناع الأفوكادو للوجه الذي يضمن الحصول على بشرة مثالية)!
? تناول الخضراوات على الإفطار (فوق سرير مصنوع من اللفت).
? العمل -أو الدراسة- لمدة عشر ساعات متواصلة بتركيز عالٍ.
تمنح مقاطع الفيديو المذكورة حافزًا مذهلًا، وهي مصممة لتُشعرك بأن أمامك (هدفًا تسعى إليه). ولكن لنتمّعن في الأمر جيدًا: ليس لدى معظمنا الوقت أو الطاقة اللازمين لخلق نسختنا الخاصة من هؤلاء “المثاليين”. ويجب ألا نضيع وقتنا في محاولة الاقتداء بهم.
? لا تحتاج بشرة مثالية أو الاستيقاظ في الخامسة صباحًا لتكون ناجحًا ?
[اعمل بذكاء وليس بجهد: لكن كيف؟!]
يقع كُثر أسرى “شبق” استهلاك مئات مقاطع الفيديو هذه، كما لو أنهم سيستوعبون العادات عن طريق التناضح أو شيء من هذا القبيل! رغم أنني أتفهم موقفهم تمامًا (فتلك الفيديوهات مُغوية حقًا). لكن يتلخص -دور المذكورة أخيرًا- في ملأ شريط التقدم الوهمي (المحكوم عليه بعدم الاكتمال.. للأبد).
قراءة كتب تطوير الذات
على غرار البودكاست، تمنحك قراءة كتب المساعدة الذاتية وهم الإنجاز لأنه يُفترض أنك تستغل وقتك في نشاط مفيد. مرة أخرى، لست ضد كتب تطوير الذات (التنمية البشرية)، وأظنك تُدرك ما أتحدث عنه: تُعيد الغالبية العظمى من هذه الكتب تجميع نفس النصائح القديمة وتجعلك تشعر وكأنك تعلمت شيئًا جديدًا.
إذا كنت مُدمنًا على هذه النوعية من الكتب، فتحتاج خطة عمل. وأنصحك هنا بكتب مارك مانسون Mark Manson؛ يرفق كتبه بدليل عملي حقيقي؛ ما يدلّ على فهمه التام لما يتحدث عنه.
عدا ذلك، سيسهل إقناعك أنك تُحرز تقدمًا. ثم بعد بضعة أشهر (أو سنوات)، ستتأمل كومة كتبك وتتساءل:
لماذا لم ابنِ أي من العادات المذكورة بين دفتيكِ؟
تنظيم حياتك على منصات (إدارة المشاريع)
غيرت تلك المنصات مفهوم الإنتاجية بشكلٍ مذهل. حيث تمنحك القدرة على إعداد جميع أنواع القوائم والإجراءات؛ وقد عملت لدى شركات عدّة كانت تعتمد عليها وحدها لتنظيم العمل.
يمكنك قضاء ساعات في وضع حياتك بالكامل في جداول وصفحات منسقة بدقة. ساعات .. وساعات .. وساعات. وفي النهاية، سواء استخدمتها أم لا: ستشعر بالإنجاز (أم يجدر بي قول وهم الإنجاز؟ إذ تلقى عقلك “الإشارة المطلوبة”)
هيّا نحقق إنجازًا فعليًا!
الآن، سأستعرض كل الأمثلة التي ذكرتها للتو وأقدم بعض النصائح لتحويلها من أنشطة تمنح وهم الإنجاز إلى استثمارات قيّمة لطاقتك.
تطبيقات اللياقة البدنية
إليك الحيلة التي تعلمتها عقب اختبار عشرات التطبيقات، وفشلي في الالتزام بنصائحها: تخلص من التطبيقات تمامًا! دوّن ملاحظات حول ما قد يناسبك – بل ودوّن أسماء التمارين- ولكن لا تعتمد على التطبيق نفسه لإبقائك على المسار الصحيح.
ثمّة سرّ في امتلاكك زمام لياقتك. إذا كنت تعتمد على (الإشعارات) لإخبارك بموعد أداء 20 تمرين ضغط “Push-ups”، فربما حان الوقت لتبحث عن ممارسات لتقوية إرادتك?.
لا غضاضة في استخدام التطبيقات كنقطة انطلاق، وربما لمست -أحيانًا- بعض الاستفادة. لكن إذا كنت مدمن تطبيقات، فربما الأفضل استعادة السيطرة: اضبط المنبهات يدويًا?. ودوّن سلسلة تمارينك (بناءً على ما يناسبك حقًا).
لن تجد -أبدًا- تطبيقًا شاملًا لكل التمارين الرياضية التي تحتاجها، لذا لا تقع فريسة وهم الإنجاز الذي تجلبه هذه التطبيقات.
المدونات الصوتية “البودكاست”
نصيحتي بسيطة: إذا كنت جادًا في التعلم من البودكاست الذي تستمع إليه، فلا غنى عن تدوين بعض الملاحظات أو تطبيق ما تسمعه.
(لاحظ أن هذا لا يشمل الأشخاص الذين يستمعون بغرض الترفيه فحسب. وإنما حديثي موجّه للذين يحاولون -بصدق- استيعاب المعرفة والتفوق).
قد يبدو ذلك غير مجدٍ في البداية، لكن ثق بي: استمع إلى البودكاست المهم أكثر من مرة؛ بقدر ما يتطلبه استيعابك للمعلومات. ثم دوّن النقاط التي تهمك، وأخيرًا: انطلق وابحث بعمق أكبر.
كتب تطوير الذات
كما فعلت أعلاه، تحتاج تدوين الملاحظات وتطبيق النصائح التي تتعلمها. لا تتصفح فقط؛ خذ وقتك للتعمق في كل عبارة تركت أثرًا داخلك، ثم ابحث عن طريقة لتطبيقها في حياتك اليومية.
قد يعني هذا بناء خطة عمل أو ابتكار أسلوب لدمج دروس الكتاب في روتينك دون الضغط على نفسك.
معظمنا معتاد على إنهاء كتاب -خلال يومٍ أو اثنين- ثم الانتقال إلى “الكتاب التالي”. هكذا كان الحال دائمًا. أنا أشجعك على كسر القالب ? ومنح نفسك بعض الوقت للارتكان للمعرفة التي اكتسبتها.
مقاطع الفيديو “المثالية”
بصراحة، كدت أتخطى هذه الجزئية؛ فتلك المقاطع غير واقعية وإدمانية، وما إن تمرّ بضع ساعات حتى تشعر أنك غير كافٍ ولا متحمس.
إذا كنت تبحث عن الدافع أو الإلهام، فابحث عنه في مكان آخر. هناك الكثير من قنوات اليوتيوب الإيجابية التي تقدم نصائحًا وقصصًا حقيقية (لا مجرد صورة لامعة لشكل الحياة؛ إذا توفّر لديك الوقت والمال .. والجينات المناسبة!).
منصات إدارة المشاريع
تبرز المشكلة الرئيسية هنا عندما نصبح مهووسين بالجماليات “Aesthetics” حتى الإلكترونية منها! نعم، تبدو واجهات هذا النوع من المنصات جميلة. ولكن إذا كنت تقضي وقتك في إنشاء مستند “ملوّن” عوض استخدامه في الواقع، فهناك خطأ ما.
لذا، قبل استخدام أي منصة لإدارة المشاريع، اسأل نفسك: هل ستساعدني في تحقيق أهدافي؟ ما القيمة التي أحصل عليها منها؟ كيف يمكنني التأكد من أنني لا أضيع الوقت فحسب؟
هل الإنجاز هو الغاية المبتغاة؟
لا أريدك أن تشعر بأنني ألخص الحياة في الإنجاز. (لم ولن أفعل ذلك!). التمهّل مهم – الاستمتاع بحياتك الآن مهم – الراحة مهمة. إذا كنت تستمع إلى البودكاست باعتباره وسيلة الاسترخاء، فذاك رائع!
ما أود قوله: إذا كنت تبحث عن إنجاز حقيقي، فكن على دراية بالطريقة التي تقضي بها وقتك. اسأل نفسك ما إذا كانت هناك قيمة فعلية لما تفعله وما إذا سيؤدي “نشاط معين” في النهاية للنتائج التي تريدها.
إذا لم يحدث ذلك، فاحذر فخ التفكير في أن “وهم الإنجاز” كافٍ؛ لن يكتمل الشريط من تلقاء نفسه، مهما طال انتظارك!
شكرا للقراءة!
إذا استمتعت بالتدوينة، فتسعدني متابعتك على التلغرام؛ حيث ستجد جميع المحتوى الذي لا أنشره على مدونتي.
وأيضًا، احرص على قراءة كتاب الزميل العزيز أحمد حسن مشرف وهم الإنجاز: كيف يتحرك العامة وماذا يحفزهم
وتدوينة أقدام أم جذور؟ – مدونة ميادة خليل، وأقتبس منها:
ثمة حقيقة واحدة حول هذه الكتب؛ أنها غير فعالة. لأنها تعرض الأزمات على أنها نعمة، وفرصة للتطور، ولا تتناول أزمات لا يمكن حلها.
لهذا السبب تخليت عن قراءة كتب تطوير الذات ومشاهدة مقاطع الفيديو التحفيزية وبدلا من ذلك صرت أزجّ بنفسي في التجارب علني أتعلم.
مثلا كم من كتاب قرأته عن المال ولحد الآن لم أجد طريقة لتحويل تلك الدولارات من عقلي إلى حسابي البنكي 😂😅 لأن التطبيق العملي للمعلومة يخونني
خيرًا فعلتِ يا كنزة. ^_^
ثقافة تطوير الذات هي وهم خلط كل شيء في خلاط واحد ليتم صناعة تيه أكبر
إقناع الناس بطريقة ساذجة أن المعرفة هي نفسها التجربة هي نفسها البحث عن الإيمان وهي نفسها آليات التحليل العقلي والرضا الذاتي وقبول البؤس كتفاعل حيوي بمسمى الاندماج الاجتماعي
التعلّم يحتاج بعض الرفض للثابت كي تتكشف فيه قيم التغيير وليس ترميم الواقع
وعي مطورو الذات عبارة عن طابور خامس لدى نظام التدجين الاستعبادي يا صديقي
تعليقك درس في حد ذاته 🤩
ما شاء الله موضوع جميل 👍👏
أسعدتني بتعليقك
اللهم بارك موضوع موضوع رائع 👍👍
شكرًا لاهتمامك