وكالعادة سأبدأ من مقدمات الزيارة. الزيارة التي لطالما حلمت بها!
صحيح، لطالما حلمت بخضوعي لجلسة علاج نفسي -أعود بعدها شخصًا آخر- كما يحدث في الأفلام، وربما تفتّق ذهني عن الفكرة أيام المراهقة، حيث تتخبط الأفكار داخل عقلي، ولا أجد من أتشاركها معه.
ولما كنت ما أزال أتلقى مصروفي من والدي، ظللت عاجزًا عن تنفيذها. حتى شاهدت حلقة من مسلسل يُدعى (بقعة ضوء). شاهدوها أولًا، ثم عودوا لقراءة التدوينة.
تأثرت جدًا بمعاناة (موفق)، حتى أنني بكيت مع المشهد الأخير. ثم فكرت: لما لا أقتبس تجربته، فأعرض المال على الأشخاص في الشارع لقاء الاستماع إليّ؟
لحُسن الحظ، لم أطبّق الفكرة، وإلا لوجدتموني في مستشفى للأمراض العقلية ربما.
مع اكتشافي المدونات (2007-2008)، وجدت متنفسًا. فبدأت بتدوين أفكاري وخواطري وهواجسي، وتلقيت ردود فعلٍ طيبة. ومع ذلك، شعرت أن ثمّة شيئًا ناقصًا؛ لم أكن أُظهر حقيقتي كاملةً، إذ أحتفظت بمشاعري لنفسي، في حين شاركت الأفكار المُتفق عليها.
عام 2013، ومع انتقالنا إلى جمهورية مصر العربية، فيما أسماه والدي: سياحة إجبارية، شرعت في كتابة روايتي الأولى (التي حملت ذات العنوان).
ثم ظهرت فرصة التشافي بالكتابة
مع بداية العام الجديد، أطلقت إحدى صفحات المدونين في الفيس بوك مُبادرة لطيفة (شبيهة بمبادرة #تحدي_رديف على تويتر)
#تحدي_رديف ليس شرطًا أن تبدأه في 17 نوفمبر 2021م
— رديف (@RadeeffCom) November 18, 2021
في أي وقت تشاء تبدأ التدوين اليومي بحيث:
1⃣ كل مقال لا يقل عن 350 كلمة وتنشر يوميا
2⃣ تشير للمقال مع رابطه في تغريدة وهاشتاق #تحدي_رديف
3⃣ تستمر على ذلك أربعين يومًا
ثم: مرحبًا بك في رديف!
العرض سارٍ للأبد https://t.co/7P270X3rvO
بدأت التدوين بأسلوبي المعتاد، ثم انتقلت للتدوين حول جوانب نفسي “المُظلمة” فشاركت مشاعري السلبية اتجاه بيئة العمل، وأحد زملاء العمل ممن أحسدهم على حياتهم، بل وتحدثت عن ممثلة إباحية يُعجبني وجهها (أكثر من جسدها).
رغم أنني اُضطررت -بعد زواجي- لحذفها، ومع ذلك كانت تجربة مثيرة للاهتمام، إذ كسرت عبرها حاجز الخوف من عرض أفكاري باسمي الحقيقي.
تأجلت جلسة العلاج الكيماوي من الاثنين (29/11) إلى السبت (4/12)، ورغم أنها الجلسة الثانية التي تؤجل، لكن هذه المرة كان قلقي أكبر بمراحل.
جاء التأجيل بناءً على طلبي
إذ مللت استهتار الممرضة المسؤولة عن تزويدي بالجرعة، بدءًا من إدخالها الحُقنة بقسوة تسببت في نزيف وردي ذات مرة، و”اِزرقاقه” مرات أخرى، وليس انتهاءً بتحريكها أثناء وضع المحاليل.
إن أضفنا الألم الذي يلي الجرعة لما ذُكر أعلاه، سنحصل على خلطة غضب دفعتني لإعلان نيتي إيقاف تلقي الجرعات بالكامل. فأقنعني المحيطون بيّ بتجربة حلّ بديل: تغيير الممرضة لأخرى أكثر احترافية (أما ألم ما بعد الجرعة، فلا مفرّ منه إلا الموت.. والذي تأرجح قراري ما بين قبوله ورفضه كُرمى لعائلتي).
ومع ذلك، كنت قلقًا من المجهول؛ ماذا لو كانت الممرضة الجديدة أسوء؟ صحيح أنني كتبت العديد من التدوينات حول القلق، سواء على مدونتي:
? هل بمقدور الكتابة شفاءنا من صدماتنا النفسية؟
? ماذا تفعل إن مللت من روتين حياتك؟
أو على زد:
? كيف يختبئ القلق في عاداتك اليومية؟
? كيف نتخلص من القلق الذي يتنامى داخلنا في الأوقات العصيبة؟
? توقف عن القلق، واستمتع بحياتك (العادية)!
? 6 أمور عليك -ككاتب- التوقف عن القلق حيالها!
لكن القول أسهل من الفعل.
لا مفرّ إذًا من جلسة علاج نفسي
لحسن الحظ، احتفظت ذاكرتي بصورة لافتة لعيادة طبيب نفسي، كان قريبًا لطبيب الأعصاب الذي زرته في بداية تشخيص اللمفوما.
ما إن دخلت قاعة الانتظار، حتى وجدت بعض المرضى قد سبقوني، الأمر الذي أثار استغرابي.
انتظرت قرابة الساعة قبل أن يحين دوري. فوجدت الطبيب جالسًا خلف مكتبه بصحبة فنجان قهوته و.. سيجارته. لم يكن هناك كرسي (الشيزلونج) أسترخي فوقه وإنما كانت أشبه بجلسة بين محامي وموكله، بدأت الجلسة ببعض الاسئلة التقليدية:
✍? اسمك؟
✍? سنّك؟
✍? متزوج أم أعزب؟
✍? عملك؟
ثم.. لا شيء.
وعلى الفور، تفوهت بالعبارة التي سيقولها أي شخص: ماذا أقول؟ أجابني: أخبرني بما جاء بك إليّ.
أخبرته حول أزمتي الوجودية، وبأنني لا أعلم سببًا يدفعني للعيش. لديّ أسرة أحبها وأهتم بها، لكنني أشعر أنهم يستحقون شخصًا أفضل.
حدثته حول رغبتي بإنهاء حياتي، وخشيتي من ألّا أنجح من أول مرة.
أوجزت رحلتي إلى مصر، وعودتي منها مُجبرًا. سعادتي -في البداية- لوجودي في بلد أعشق رائحة ياسمينه، ثم إدراكي لصعوبة تنشئة أطفالي في بيئة تزورنا فيها الكهرباء زيارات قصيرة.
[لأخذ العلم: أمضيت عامًا وربع أقنع نفسي أنني مسرورٌ بعودتي، لكن في قرارة نفسي لم أكن كذلك. وهذا ما بيّنه حديثي الصادق مع الطبيب. كل ما أفكر فيه حاليًا هو شراء جنسية بلدٍ أجنبي، يحيا فيه أطفالي كأطفال العالم الأول]
لم يكن هناك تشخيص بالمعنى الحرفي للكلمة، أي لم ينظر الطبيب في عينيّ ليقول: انظر طارق. أنت مُصاب بـكذا.
بل تركتني إلى أن أفرغت في ما كلماتي، ثم طفق يدور حول معاني كلماتي، كما وسمح ليّ بمقاطعته أكثر من مرة لأعقّب وأطرح اسئلتي.
“أنت تعاني من القلق”
توقفت مليًا أمام هذه الجُملة؛ إذ كيف تُراني أحاول تغيير الماضي وأنا مؤمن أنه كان رائعًا؟! “لُكت” عباراتي -في الجلسة- داخل عقلي:
? غادرت البلد مُجبرًا (بضغطٍ من أسرتي).
? عُدت مُجبرًا (لأنني لم اتأقلم مع بلد المهجر).
? دخلت كُلية التجارة والاقتصاد مُجبرًا (لأن مجموعي في الثانوية لم يُتح ليّ فرعًا جامعيًا أفضل).
? تزوجت مُجبرًا (بدافع البحث عن الاستقرار النفسي، لكن الحياة تقول: الزواج للمستقرين).
ثم ربطت تلك العبارات مع موقف مُتكرر: كلما تذكرت مراهقتي، تقافزت إلى عقلي (ساعات اللهو على حساب الدراسة)، فوددت جزّ عُنقي بسكين!
إذًا، أنا أودّ تغيير ماضيّ بالفعل!
انتهت الجلسة -التي امتدت لثلث ساعة فحسب- بأن وصف الدوائين التاليين:
عندما غادرت العيادة، توجهت إلى أقرب صيدلية، وطلبت مني الصيدلانية (رقمي الوطني) ودوّنته على الوصفة “الروشتة” لتحتفظ بالأخيرة. [خمّنت أن السبب يعود لكون الأدوية تُسبب الإدمان]
عندما عُدت إلى المنزل، أخفيت عُلب الأدوية عن الأنظار!
أذكر أنني فعلتها قبل نحو 13 عامًا، حين اشتريت (بروزاك)، في ذلك الحين وضعتها داخل جيب معطفٍ قديم، لكن والدتي اكتشفت الأمر.. فرمت عُلبة الدواء دون أن تُخبرني. وحين سألتها قالت: لا حاجة لك بها.
هذه المرة، أتقنت إخفاء العُلبة. لا خجلًا مما أمرّ به، وإنما لألّا يراها أحدهم فيقول: مضاد اكتئاب؟ واو! أريد كبسولة?.
حتى أنني لم أقرأ النشرة المُرفقة إلا مع موعد الجرعة (قبل النوم)، فوجدتها لعلاج القلق والاكتئاب من الدرجة المتوسطة.
راودتني شكوك!
ظهرت ضمن أفكار ما قبل نوم الليلة الأولى، سألت نفسي: ما نفع العلاج النفسي وقد شارفت على الموت؟ ولما لم أحر جوابًا أقنعت نفسي أن الدواء هو ما أحتاجه [منطلقًا من مبدأ: ليس لديّ ما أخسره?]، ثم تذكرت مقولة تصف الأطباء النفسيين الذين يلجأون للأدوية فورًا بالمتاسهلين?. وأن العلاج الحقيقي يبدأ بتعديل السلوك ثم ينتقل إلى العقاقير الطبية.
ظهر تحسّن المزاج المطلوب مع اليوم الثالث?.
علت الدهشة وجهي لما رأيتني أستيقظ مُفعمًا بالنشاط والحيوية، هادئ الطباع متماسكًا، غير قلقٍ من جرعة الكيماوي القادمة (لقطة من المستقبل: كانت الأشدّ ألمًا حتى الآن! ?)
ربما كانت نقطة التحوّل ? أول جرعة كيماوي: حين تغدو الحياة وردية.. أكثر من اللازم!
ختامًا
ربما كنت من أشدّ المعارضين لفكرة العلاج النفسي وجدواه (حتى وإن أدعيّت العكس). لكنني اليوم -وبعد جلسة علاج نفسي واحدة فحسب- أتمنى لو يمدّ الله في عُمري، لأتلقى المزيد وأضيف الكثير لهذا العالم?.
دمتم أصحاء نفسيًا وجسديًا?
انت انسان رائع – شعرت براحة نفسية بعد قرأتي لتدوينتك. وإحتفظت بالتدوينة لقرائها مرات عديده لاحقآ. كل الود والحب لك, وأتمنى لك حياة سعيدة.
أنت الرائع يا صاحبي.😙
أسعدتني بتعليقك .. فوق الوصف 😻
بعد فترة ان استمريت في الكتابة اليومية هناك احتمالية كبيرة لعدم احتياجك جلسات نفسية اخرى.
احييك على شجاعتك و صراحتك مع نفسك و معنا نحن ايضا.
ربما اقترح عليك ان تمارس التامل و الصمت دون كلام, ستساعدك هذه الطرق على اكتشاف ما الذي يجب عليك علاجه اولا.
مثلا ساعة صمت في اليوم!
دامت لك الصحة و راحت البال و رغبتك في الكتابة. 💚
هذا ما أسعى نحوه فعلًا: المزيد من الكتابة اليومية. رغم ذلك، أعتقد أن لا غنى عن الجلسات. ستُخبرني الأيام القادمة إن كنت على حق.
بدأت تطبيق نصيحتك أ. زهرة
دمتِ مُبدعة كما عهدناكِ
شكرا أيها الطارق الذي تطرق قلوبنا بكل صدق وشفافية..
شكرًا لك كاتبنا العظيم🙏
سررت بمرورك أيّما سرور🥰