هل لاحظت كيف ننطق هذه العبارات بعفوية، وربما نشعر بصلابتها، وقد نقضي شهورًا وأعوامًا نحاول حماية “هويتنا” والحفاظ عليها؟
الآن، أريدك أن تلاحظ أمرً آخر:
- متى توقفت عن كونك شخصًا يُحب الكتابة وأصبحت “كاتبًا”؟
- متى تحوّل “بناء مشروع تجاري” إلى وصف “رائد أعمال”؟
- متى أصبحت القدرة على التكيف التزامًا بالثبات عمّا أثبته بالفعل؟
لحظة تحوّل الهوية إلى .. سجن
تمرّ في حياة كل شخص ناجح (لحظة) تصبح فيها أعظم نقاط قوته أكبر قيوده. وغالبًا ما يحدث ذلك بهدوء شديد، فلا يلحظه حتى.
تبدأ الخدعة حين تجدّ لتصبح مختلفًا، وتبني سمعة طيبة في مجالك، وشيئًا فشيئًا تصنع هوية تفتح أمامك الأبواب، وتجذب لك الفرص، وتكسبك الاحترام. ثم، فجأة، تستيقظ مدركًا عجزك عن أن تكون شيئًا آخر.
- لذا نجد رائد أعمال لا يتوقف عن تفقد بريده الإلكتروني لأن “رواد الأعمال حاضرون دائمًا!”.
- وتسمع عن قائد الفكر الذي لا يعترف بالحيرة لأن “قادة الفكر يملكون الإجابات كافة”. تلميحة: حتى التي لا يملكها الذكاء الصُنعي بذاته.
- وطبعًا، نجدك -أنت- صانع المحتوى الناجح الذي يرفض تجربة أساليب جديدة لأنها “لا تعبّر عن علامتك الشخصية”.
- ولا ننسى الخبير الذي يرفض التعلم لأنه يرى فيه دليل عوزٍ للخبرة؛ متجاهلًا ألّا أحد يبدأ من نقطة الصفر!
لقد بنيتَ هويةً ناجحة لحدّ أنها بدأتَ -هي- في إعادة تشكيلك!
فخ التعلّق 🖇
يسميّ بوذا هذا “الارتباط بالهوية Attachment to identity”، ويعتبره أحد أمكر “Subtle” وأخطر أشكال المعاناة. ليس لأن الهوية -بذاتها- سيئة، ولكن لأنها تتحول إلى [سجّان🛃] بمجرد خلطك بين حقيقتك ووظيفتك، فعوض تفكيرك بما (تودّ فعله)، تبدأ بالتساؤل (ماذا سيفعل شخص مثلي؟).
حينئذٍ، تتوقف عن استكشاف خياراتك وما قد تصبح مستقبلًا عليه، وتبدأ الدفاع بشراسة عمّا تمثّله حاليًا. واسمح ليّ بتذكيرك هنا كيف تُفسد قصة حياتك فهمك للعالم.
كيف يتجلى فخّ التعلق؟
- يرفض الكاتب بدء مشروعه لأن “الكتّاب لا يُديرون شركات رأسمالية“.
- يتجنب صاحب الشركة إمساك القلم والكتابة لأنه ” لا وقت للإبداع عند رواد الأعمال”.
- ينسى الأب (أو الأم) السعي خلف أحلامهم لأن “الآباء يُضحّون بكل شيء كُرمى أبنائهم”.
- لا يخاطر الشخص الناجح بأي شيء لأن “الناجحين لا يقوّضون ما بنوه”.
تُنشئ كل هوية زنزانة خفيّة. ويُضيف كل إنجازٍ -تُحققه علامتك الشخصية- أصفادًا إضافية!

لماذا تُقلقنا الهوية الواحدة؟
يحرمك التمسّك بالهوية الواحدة من التحوّل لأي شخصٍ آخر يمكن (أو يُفترض) أن تكونه، فحين تُصبح “الخبير”، تختفي إحتمالية “المبتدئ”. ويفقد الشخص “الموثوق” ذاتيّته؛ فيعجز عن التصرف بـ”عفوية” أو “تلقائية” .. أو حتى عشوائية! وحين يصفك الناس بـ “المحترف”، لا يعود بمقدورك حمل صفة “المُجرّب The experimenter”
تتشكل كل هوية من خلال إقصاء بقية الهويات. فقولك “أنا فلان” يعني تلقائيًا “أنك لست علّان”. وما إن يتقبل العالم هويتك، يفرض عليك ضبط حدودها والثبات عليها، بل ويطلب منك البقاء “كما يعرفك”:
- يتوقع جمهورك رؤية صانع المحتوى الذي تابعوه.
- ويرنو فريقك بأبصاره نحوك، بصفتك القائد الذي اختاروه.
- وتتوقع عائلتك الشخص الذي عرفوه وربّوه.
- وينتظر عملاؤك ذات الخدمة التي اشتروها.
وإذ بك تصبح سجين ارتباط الآخرين بهويتك، بعدما كنت سجين تعلقك بعلامتك الشخصية فحسب!
هل نسيت أنك كائن (مرن)؟
إليك ما فهمه بوذا ونسيناه: لا هوية ثابتة. بل ليس ثمّة هوية حقيقية حتى بالطريقة التي نتخيلها. فما تسميه “ذاتك” هو خليط من الأنماط المؤقتة، والتفضيلات المتغيرة، والأفكار المتطورة، والظروف الزائلة.
تذكر السؤال المكروه: أين ترى نفسك بعد 5 سنوات؟ فالشخص الذي كنته قبل خمس سنوات يؤمن بأشياء متباينة، ويريد نتائج مغايرة، ولديه مخاوف مختلفة عما لديك اليوم. وسينظر الشخص الذي ستكونه بعد خمس سنوات إلى حالك اليوم بذات الاستغراب.
“الذات” ليست اسمًا، بل فعل. هي شيء تفعله، لا تُمثله. وكأيّ فعل، يمكنك دائمًا النكوص عنه أو تغييره.
كيف تستفيد من مرونة علامتك الشخصية؟
ببساطة، استخدم هويتك بصفتها “أداة” عوض استخدامها الحالي لك بصفتك “نتاجها”. بعبارة أخرى، ارتدِ وظيفتك كالملابس بدلًا من اعتبارها جلدك:
- عوض تعريف نفسك “أنا رائد أعمال”، جرّب قول “أختبر حاليًا ريادة الأعمال”.
- وبدل تلقيب نفسك “بالكاتب”، قُل “أستكشف حاليًا العالم من خلال الكتابة”.
- وتجنّب قول “أنا ناجح”، لمَ لا تقول “أحقق -حاليًا- نجاحًا”؟
أترى بالفرق؟ يخلق الوصف الأول سجنًا. ويعبّر الثاني عن “ممارسة”.
وحين تصبح الهوية (فعلًا) بدلًا من (اسم)، يمكنك تغيير مسارك في الحياة دون التخلي عن هويتك، وبالتالي يمكنك تجربة خياراتٍ جديدة دون خيانة علامتك الشخصية.

حرية البدء من جديد
أتقن أنجح الأشخاص الذين أعرفهم هذه المرونة: رواد أعمال يفكرون كالفنانين، وفنانون يفكرون مثل أصحاب شركات، إضافة لخبراء يفكرون من منطلق المبتدئين. وقادة فكر لا يمانعون التفكير كالطلاب.
هؤلاء أشخاص لم يتخلوا عن هويتهم، بل تعلموا التناغم معها. ويرون أن كل إنجاز يفتح آفاقًا جديدة أفضل ألف مرة من سجن الأنماط القديمة، ويعتبرون (السمعة) نقطة انطلاق، لا خط نهاية.
يعلمون أن السؤال ليس “من أنا؟”، بل “مَن سأصبح؟”.
هيّا نكسر تعويذتك
ربما كنت -اليوم- متعلقًا بنسخة من نفسك انتهت فائدتها. وربما رأيتَ فيها الهوية التي اكتسبتها بجهد وتضحيات كبيرة، وخلقت لك فرصًا وفتحت لك أبوابًا، لكن يؤسفني إخبارك أنها تبدو الآن أشبه بقفص منها بمفتاح.
“قفص” رائد الأعمال الذي يحرمك من الإبداع. و”قفص” الخبير التي يحدّ من قدرتك على التعلم. و”قفص” الناجح التي يجنّبك المخاطرة والمغامرة.
قفص الهوية المهنية الذي يمنعك من أن تكون إنسانًا.
إليك كيف تحطم ذاك القفص، وتكسر التعويذة الذي حرمتك سنوات من عالم الإمكانيات:
🧿 انتبه كلما قلت “لا أستطيع فعل ذلك لأنني…” وأكمل الجملة بصدق.
🧿 ركّز في تجنّبك الفرص؛ لأنها لا تلائم علامتك الشخصية الحالية.
🧿 انتبه عندما تدافع عن نسخة من نفسك “عفى الزمن عليها”.
وتذكر: أنت لست إنجازاتك. ولا سمعتك. ولا حتى هويتك. بل أنت الوعي الذي يستطيع ملاحظة كل هذه الأشياء. وهذا الوعي حر في اختيار أن يكون مختلفًا.
أنت من حقق النجاح. وأنت من بنى السمعة. وأنت من اختار الهوية. وأنت من يستطيع الاختيار مجددًا؛ فالسجن الذي بنيته من إنجازاتك حقيقي. وكذلك حريتك في الخروج منه.
لنتحدث في موضوعٍ آخر: كيف تتحرر من سجن [تطوير الذات]؟!