يستغل المقربون الفترة العصيبة التي أمرّ بها محاولين إقناعي بالعدول عن (جنوني). ولا أُخفيك -عزيزي القارئ- تأثري بعض الشيء، إذ يزيدني كلامهم تمسكًا بما أفعله.
للأمانة، لم يكن ذاك حالي دائمًا.
فلطالما آلمني وصفي بـ”المجنون” أو “الواهم”؛ وشعرت أن هناك خطبًا ما، وبعدم انتمائي لهذا المجتمع، وحتمية تأقلمي معه.
هكذا حتى بدأت أختلط مع أشخاص ذوي أداء عالٍ، ولاحظت نمطًا معينًا.
أفضل مجاملة تلقيتها على الإطلاق: “أنت واهم”
عندما سألتُ أصحاب الأداء المتميز في دائرتي المقربة إن كان الناس يصفونهم بالجنون، أجابوا جميعًا: “نعم، طوال الوقت”. ما غيّر طريقة عملي.
عندما أخبرت والدي أنني سأتخلى عن مسيرتي المهنية في مجال البنوك، والتي أتاحت لي العمل مع شخصيات بارزة و”نافذة” في وطنٍ منهار.. ظنّ أنني فقدت عقلي. وسخر -حفظه الله- من فكرة (العمل الحر) جملةً وتفصيلًا.
إذًا، ربما أنا مجنون لأنني لم أسعى للكسب عبر الكتابة فحسب، بل لأنني -أيضًا- اخترت عدم عيش أسلوب حياة باذخ مليء بالتفاخر على شبكات التواصل، واقتناص الفرص، واللعب على وتر “نقاط ألم العميل”!
شعرتُ وكأنني منبوذ. وما زلتُ كذلك.
“وأولئك الذين نراهم يرقصون يظنهم مَن يعجزون عن سماع الموسيقى مجانين” – منسوبة لـفريدريك نيتشه

يُغيّر المجانين العالم
وُصفت وانجاري ماثاي “Wangari Maathai” بالمعتوهة!
نشأت في المرتفعات الكينية، وعشقت الطبيعة. وخلال نشأتها في سبعينيات القرن الماضي، رأت ما غفل الآخرون عنه: جفاف الأنهار، وتآكل التربة، وموت المحاصيل دون سبب، وعدم توفر الحطب (ما يُعرف اليوم بالتصحّر Deforestation).
لحل هذه المشكلة، أطلقت في عام ١٩٧٧ حركة نسائية لاستزراع الأشجار. علّمت النساء الزراعة مقابل أجر، واستعادت العديد من المجتمعات المستغلة السيطرة على مواردها الطبيعية.
جمعت الحركة بين حماية البيئة وتمكين المرأة. وحملت شعار:
“ازرعي شجرة. واستعيدي قوتك”
في نهاية المطاف، اتسع نطاق الحركة لدرجة هددت أصحاب السلطة؛ فأصبحت عدوة الشعب الأولى. سجنتها الحكومة عدة مرات، وسلّطت الشرطة لضربها، كما صوّرتها وسائل الإعلام على أنها شريرة.
خرجت الأمور عن السيطرة حتى أن الرئيس وصفها بـ “المرأة المجنونة“.
بحلول أوائل الألفية، كانت حركتها الصغيرة قد زرعت 30 مليون شجرة. لتغدو، في عام 2004، من وسم “المجنونة” إلى فوزها بجائزة نوبل للسلام. توفيت عام 2011. مخلّفة وراءها نموذجًا يُحتذى به في حماية البيئة بقيادة المجتمع المحلي.
لم تحتَج لأسلحة، ولا -حتى- لأن تصبح سياسية. بل حققت مُرادها بهوسها المُستمر وجرأتها بأن تُوصف بالجنون كل يوم.
أحد أعظم المجاملات التي قد تتلقاها مُطلقًا “أنت مجنون”؛ فهذا يعني أنك تفعل شيئًا مختلفًا، وأن هدفك ضخم لدرجة أنه يُخيف الآخرين. ويعني رفضك الحياة العادية وقرارًا بأن تكون على طبيعتك.
أنت أفضل من الغالبية
عليك الإيمان بذلك. لا من منطلق الغرور ورؤية الجميع من “العوام”، بل لأن منجزات الأشخاص العاديون غالبًا ما تكون متواضعة.
الإيمان بقدرتك على تحقيق نتائج تفوق المتوسط قوة خارقة. عليك الاعتقاد بأن كتابتك أو عملك أو منتجك أفضل من أي شيء آخر؛ وإلا كان ما تنتجه رديئًا، وقد يصل لتماهيك مع الوضع الراهن الذي يُبقي معظم الناس أسرى حياة يأس صامت.

ما عكس أن تُرى مجنونًا؟ أن تكون عاديًا.
أن تكون عاديًا في عام 2025 يعني ذهابك إلى مكتب، ومراكمة الديون، ومشاهدة الأخبار والتفاعل معها طوال اليوم، وتقديس السياسة كعلاج لكل مشاكل حياتك.
تُحاصرك الحياة العادية في وضع النجاة، وتُعيدك لعصور ما قبل التاريخ، حيث يومك كله منصبّ على البحث عن قوت يومك، إن وجدته، فذاك (يومٌ جميل). وإلا، شعرت وكأنه جحيم على الأرض!
الطريقة الوحيدة للهروب من كونك طبيعيًا هي أن يُنظر إليك على أنك مجنون.
لا تبخس للجنون حقّه!
أن توصف بالمجنون فذاك المستوى الأول، أما أن يراك الناس (ممسوسًا)؟ فنحن نتحدث عن مستوى مختلف!
حذّر بالاجي سرينيفاسان Balaji Srinivasan، الرئيس التنفيذي السابق للتكنولوجيا في كوين بيس Coinbase، بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٧ من جائحةً مستقبليةً ستُعرّض العديد من الدول الغربية للخطر:
ستفشل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في إيقاف الوباء القادم. نحن على بُعد طفرة واحدة.
وفي عام ٢٠١٩ (قبل أشهر من ظهور كوفيد)، وصفه الناس بالممسوس لقوله إن شرق آسيا أقدر على التعامل مع جائحة قادمة من الغرب. وبحلول يناير ٢٠٢٠، كان ينصح الناس بشراء الكمامات، وتوقع فرض إغلاقات، والاستعداد لمشاكل سلاسل الإمداد.
وكان مُحقًا -بشكلٍ مُريب- بشأن فيروس ٢٠٢٠، بل أصاب في كل تفصيلة صغيرة.
كان عام واحد، كفيل بتحويله من (ممسوس) إلى (قديس)، وأصبح من أشدّ الشخصيات تأثيرًا في العالم.
يبدو المستقبل دائمًا جنونيًا للواقفين على أطلال الماضي
كثيرٌ من معارفي هكذا: ما زالوا يؤمنون بالشهادات الجامعية، والسيارات التي تعمل بالبنزين والتي يقودها البشر، ويودّون تأليف كتب ربما لن يقرأها أحد؛ على أمل أن تكتشفهم دار نشرٍ ما، وتكتب لهم شيكًا بقيمة مليون دولار!
نموذجهم الكامل للعالم عالق في الماضي.
ليسوا أغبياء، بل رفضين التغيير. يريدون أن يبقى العالم كما كان دائمًا.
يتغير العالم شئنا أم أبينا. وإن لم نتقبل المستقبل المجنون، سنتخلف عن الركب. كيف تعرف أن هذا قد يحدث لك؟ انظر إلى حسابك المصرفي.
- يعبّر حسابك المصرفي عن عدد الذين تساعدهم غير نفسك.
- كما يعكس الاختيارات التي قمت بها خلال السنوات الخمس الماضية.
- يجسّد حسابك البنكي عقليتك.
أتذكر أنني في أسوأ لحظات حياتي، كنت عالقًا في فرع أحد البنوك في يوم صيفي حار أتجادل مع الصرّاف حول قيمة بعض الرسوم، وكان ذاك القاع حرفيًا!
كان رصيدي المصرفي يعكس هويتي الحقيقية. كنت أنانيًا، ولم أساعد أحدًا سواي. لذا، كنت أتقاضى ما أستحقه (= الفتات).
احتضان المستقبل = عندما يتغير رصيدك المصرفي. كلما احتضنته أكثر، زاد رصيدك المصرفي بشكل مضاعف.
يصفه الناس بـ”الجنون المحض” حتى ينجح، ثم فجأة يطلقون عليه “رؤية”.
الرؤية رمز للجنون.
إنه يُشير إلى تغييرٍ في العالم يقوده قائدٌ (أنت). ولذلك، تبدأ كلُّ محاضرة للتطوير الشخصي دائمًا بصياغة رؤية. وتجري العملية نفسها عند بناء مشروعٍ تجاري. فبدون رؤية، أنت لا تملك شيئًا..
الحقيقة المُحزنة أن معظمنا يفتقر إلى رؤية واضحة لحياته، يستيقظ فجأةً ويترك العالم يُقرر عنه، ثم يتساءل عن سبب تعاسته!
إن الرؤية نفسها التي تصنعها والتي يدعوها الناس [جنونًا] هي ذاتها الرؤية التي تجعلهم يرونك ناجحًا فيما بعد.
مَخرج
لا أريد أبدًا أن أُوصف بالعادي. وأرجو أن تكون مثلي.
غرابتك ميزتك. وجنونك دافعك. رؤيتك هي بوصلتك. كراهيتك للوضع الراهن هي قوتك الخارقة.
حان الوقت للقيام بشيءٍ يُثير استغراب الناس. حان الوقت لتتجاوز حدود ما تفعله حاليًا حتى يبدو جنونًا. هذا المستوى من الاجتهاد هو ما يجعلك من أصحاب الأداء العالي في مجالك، أو حتى تنضم إلى أفضل 1%.
هل يصفك الناس بالجنون؟ قد يكون هذا أفضل دليل على أنك أخيرًا على الطريق الصحيح.
أخبرني في التعليقات: ما الشيء الأكثر جنونًا الذي قمت به في سعيك لتحقيق رؤية؟