في واحدة من اللقطات الأيقونية من فيلم Bridge Of Spies 2015، يسأل المحامي جيمس دونوفان (ويلعب دوره الممثل الرائع توم هانكس) موكله عمّا إن كان يشعر بالقلق. وسؤاله منطقي تمامًا، فموكله رودولف آيبل (ويلعب دوره الممثل مارك رايلانس) مُتهم بالتخابر مع دولة معادية، تهمة عقابها الوحيد: الإعدام!
منذ اللحظة الأولى للفيلم، نلاحظ هدوء (رودولف آيبل) الذي قد يصل لحدّ اللاكتراث، وحتى مع اقتحام الشرطة الفيدرالية لشقته، ومع وجود دليل إدانته على الطاولة أمامهم، كان ثباته الانفعالي مُذهلًا (حتى أنه أتلف دليل الإدانة، قصاصة دوّنت عليها شيفرة التخابر، دون أن يلفت انتباه أحد).
لذلك، لم يكن من الغريب أن يلتفت في قاعة المحكمة نحو محاميه ليسأله سؤالًا بسيطًا:
القلق السامّ
تأثرت للغاية بتلك اللقطة، وأعدّت مشاهدتها أكثر من مرة، حاولت تخيّل نفسي مكانه.. وأقشعر جسدي لذاك الخاطر، أشكّ في ألّا أُصاب بأزمة قلبية حينها.
نشأت في عائلة قلقة طوال الوقت، يضع أفرادها أسوء الاحتمالات في رأس قائمة أي تحديّ مهما كان بسيطًا: ماذا لو تأخرت عن الموعد الفلاني؟ ماذا لو اصطدمت بيّ حافلة وأنا أعبر الشارع -بصحبة حقيبة المال- فمُت من فوري؟
بل إنني لا زلت أذكر مقدار قلقي في أول يوم عمل [لتتعرف أكثر على مسيرتي المهنية، فضلًا استمع إلى لقائي في بودكاست التجربة]. يومها، وقفت على طرف الرصيف، واضعًا يديّ على قلبي، وتصدح في أذهني أغنية Soul of a Man – Steven Stern، حاولت جاهدًا أن أهدأ.. قلت: لن يحدث شيء، لن يتهمك أحد بالسرقة، لن تتعرض للتنمر من العملاء أو الزملاء.
كان يومًا صعبًا، لكنني تعلمت منه الكثير.
تعلمت -منه ومن مواقف تبعته- أن القلق لا يُفيد، وأن لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
أعلم أن حديثي بدأ يُثير الملل داخلك، فأنت، عزيزي القارئ، تعلم تمامًا خطورة القلق على صحتك النفسية، لكنك تعجز-مثلي- عن تمالك أعصابك عند الشدائد. فأنا أحاول مساعدتك هنا.
كيف تغيّرت علاقتي مع القلق؟
كما ذكرت لك، كان القلق صديقي في شتى المواقف (حتى البسيطة منها، مثل استخراج ورقة من دائرة حكومية)، وتطلب منيّ الخروج بدرسٍ حياتيّ مفيد الكثير من لحظات القلق غير المُجدي.
لا أذكر مرة أصابني الأرق فيها بسبب القلق، إلا وجاء اليوم التالي بتسهيلاتٍ من رب العالمين. فأستيقظ في اليوم التالي، وأمرّ بالموقف الذي أثار قلقي، لأجده أسهل مما تصورت.
حدث ذلك دائمًا، وسيحدث للأبد.
لا أعلم لما نشعر بالقلق، لكنني أُرجّح أن السبب يعود لاعتدادنا بأنفسنا، فظنّ أننا المسيرون لشؤون حياتنا، ولمّا كانت خبراتنا قليلة في الحياة (على عكس تحديات الأخيرة)، نضع احتمالية الفشل في الصدارة.
تعلمت أن القلق لا يُفيد حين رأيت المئات يقفون في الطوابير، يحملون أوراقهم الثبوتية، وينتظرون أن يحين دورهم. أغلب هؤلاء كان يتأفف، لكن ثلّة صغيرة كانت تلهو وتضحك، وكنت اتسائل: كيف يثحافظون على رباطة جأشهم. والإجابة ببساطة: وهل سيُفيد القلق؟ هل سيُساعدني على تجاوز الأمر أم سيُعقده.
اعتدادنا بأنفسنا يظهر ثانيةً حين نظن أنفسنا مركز الكون، كما دأبت طوال حياتي على الاعتقاد، وأن أنظار الآخرين مسلطة على أخطائنا وعيوبنا، فنخشى خوض التجارب الجديدة، ونرتعد من فكرة الوقوف أمام جمهور.
رغم أن لا أحد يهتمّ، وإن أهتمّ أحدهم فلن يُشهّر بنا، وإن شهّر بنا.. فأين المشكلة؟ جميعنا بشر نخطئ ونصيب، ومن الطبيعي للغاية أن تكثر عثراتنا في الخطوات الأولى: أول لقاء تلفزيوني – أول مقابلة عمل – أول مرة تبتسم فتاة في وجوهنا!
أؤكد لك أن القلق لا يُفيد، لأنني أهل خبرة في اللامبالاة. سجّلت قبل أيام حلقة بودكاست مع فرزت، وقبلها حلقات مع يونس، وأظهرت وجهي في مشاركتي ضمن قهوة رقيم. وفي كل مرة، كن أسأل نفسي سؤالًا واحدًا: ماذا لو فشلت؟
وكانت الإجابة: فليكن.. فتلك ليست نهاية العالم على أي حال!
وهكذا، مرة بعد مرة، كنت أخوض التجارب الجديدة، متسلحًا بـ “هل القلق سيُفيد؟ بالطبع لا!”
نعم، سقطت أكثر من مرة، وأُحرجت لمرّات.. بدوت كالأحمق، وكعديم الخبرة، وكمراهق تُغضبه أبسط تفاصيل الحياة الواقعية. ومع ذلك، نهضت من جديد.. وتجاهلت الموقف أو نسيته.. وانتصرت في مراتٍ مقبلة.
هذه التدوينة هي جزء من مبادرة الزميل الغالي عامر حريري /علمتنا الحياة/ وسبقني إلى المشاركة فيها:
- يونس بن عمارة بتدوينته: جُملة الكدمات التي تلقيتها من مُعلّمة جودو اسمها الحياة والتي تُلقّب أحيانًا بالدنيا
- محمود عبد ربه بتدوينته: يحتاج الإنسان الوقوع 10,000 مرّة لتحقيق أول خطوة له في الحياة
ها هو ذا درس هام جداً من دروس الحياة .. أشكرك على المشاركة في المبادرة صديقي
العفو 3>
تجربة حياتية عميقة .. كلنا نمر بها لكنك ابدعت وتميزت في التعبير عنها وحلحلتها.. شكرا لك
بل شكرًا لك لمرورك من هنا وتركك هذا التعليق اللطيف🥰