في الربيع الماضي، انضممت لحصة تدريبات من نوع فريد، وباعتباري شخصًا يكره القفز، وكلًا من تمارين الضغط والبيربي، استمتعت بحصة التدريبات الفريدة تلك أيّما استمتاع، لفترة وجيزة على الأقل.
ولكن بعد بضعة أشهر، بدت هوايتي الجديدة أشبه بمشاهدة ذات الحلقة التلفزيونية مرارًا وتكرارًا. ولأن تمارين الحصة باتت مألوفةً تمامًا، انقلب استمتاعي بها إلى (ملل)، الشعور الذي نمرّ به جميعًا.
تُشير دراسة أُجريت عام 2016 إلى أن 63% منّا يصيبهم الملل لمرة -على الأقل- خلال 10 أيام. ورغم أن (الملل) ليس بمرضٍ قاتل! إلا أن الأشخاص الذين يُعانون من الملل بشكلٍ دائم أكثر عرضة للاكتئاب والقلق وتعاطي المخدرات.
ورغم أننا جميعًا نشعر بالملل من وقتٍ لآخر، إلا أننا نخجل من التعبير عنه، حيث يُنظر إلى أن (الأشخاص المملون فحسب هم من يشعرون بالملل)، وفقًا لما ذكرته ماري مان، الباحثة ومؤلفة كتاب (Yawn: Adventures in Boredom).
لكن الملل ليس عيبًا في الشخصية، بل حالة ناجمة عن ظاهرة سلوكية تُدعى (تكيّف اللذّة – Hedonic adaptation)، وتعني ميلنا نحو اعتياد الاشياء بمرور الوقت. هذا ما يفسرّ لماذا تفقد الأنشطة والعلاقات التي كنا نستمع بها في الماضي بريقها.
“يعتاد البشر -بسرعة كبيرة- التغييرات الإيجابية والسلبية في حياتهم”
تؤكد سونيا ليوبوميرسكي، أستاذة علم النفس بجامعة كاليفورنيا، النتيجة السابقة بقولها:
في بعض الأحيان، يكون هذا الأمر جيدًا، فعلى سبيل المثال: عندما يتعلق الأمر بالشدائد -كفقدان أحد أحبائنا أو الطلاق أو التسريح من العمل- نجد أنفسنا نتكيف بشكلٍ جيد إلى حدٍ ما.
ولكن يمكن لهذه “المرونة” العاطفية أن تكون مدمّرة في استجابتنا لأحداث الحياة الإيجابية: هل تذكر آخر مرة حصلت فيها على علاوة، أو اشتريت سيارة جديدة، أو وقعت في الحب؟ في البداية، تخلق هذه التجارب إحساسًا عارمًا بالسعادة، لكن سرعان ما تصبح جزءًا من الروتين. وبذا نجد أنفسنا نتهيئ للشيء التالي الذي سيثير اهتمامنا مرة أخرى. وهذا ما يُطلق عليه اسم (تكيّف اللذّة – Hedonic adaptation).
على الرغم من خيبة أملنا كلما أفسد الملل متعتنا في الحياة، إلا أن لتكيّف اللذة هدفًا تطوريًا (Evolutionary purpose).
تقول الباحثة ليوبوميرسكي:
إن لم تضعف ردود أفعالنا العاطفية بمرور الوقت، فلن نعيّ التغييرات الجديدة التي ربما تتضمن مكافأةً أو تهديدًا
بعبارة أخرى، يمكن لوقوعنا أسرى للحب أو لخسارة كبيرة أن يجعلنا أكثر انشغالًا، وأقل حماسًا.
الخبر السار هو أنه يمكن لفهم العلاقة بين تكيّف اللذة والملل أن يُساعدنا على تخطي شعور أننا “عالقون”.
ألقت دراسة حديثة (2018) نشرتها صحيفة (The Personality and Social Psychology Bulletin) الضوء على الظاهرة بشكلٍ أكبر، وفقًا للباحثين، يمكن لإيجاد طرق -غير تقليدية- للتفاعل مع مكان/شخص/شيء مألوف أن يكسر (تكيف اللذّة)، مُعيدًا بذلك التجدد لتجاربنا الحياتية.
يمكن لتطبيق هذه الحكمة أن يكون وسيلة مفيدة لكسب قدر أكبر من المتعة من
أنشطتنا اليومية.
تناول الطعام بطرق فريدة
وجدت الدراسة السابقة أن تناول الطعام بطرق غير تقليدية يمنح تجربة الأكل والشرب معنى فريدًا، هذا لا ينطبق فقط على اولئك الذين سئموا تناول ذات الوجبة كل يوم، بل يشمل العديد من المواقف حيث يسرق الملل المتعة من أنشطة الحياة. يقول روبرت سميث، أحد واضعي نتائج الدراسة وأستاذ التسويق بجامعة ولاية أوهايو: “يمكن لإيجاد طرق جديدة للتفاعل مع الأشياء المألوفة أن يوقف التكيف لأنه يدفع الدماغ ليولي المزيد من الاهتمام للتجربة الجديدة”.
جدد بيئة العمل
قد يتسبب إمضاء الكثير من الوقت في نفس البيئة، كما اعتدنا جميعًا، في زيادة الملل. إذا كنت تعمل من المنزل، جرّب مكانًا جديدًا، مثل المقهى أو المكتبة، إذا كنت تعمل ضمن مكتب، فحاول إعادة تصميم مكتبك أو منطقة عملك.
تقول الباحثة ليوبوميرسكي.
“يُكسر تكيّف اللذة عندما تصبح الأمور ديناميكية ومتجددة”
لا يُشترط أن تكون التغييرات كبيرة حتى يكون لها تأثير. وفقًا لما قالته راشيل لووك، خبيرة التدريب المهني والقيادة في كلية روبرت إتش سميث لإدارة الأعمال بجامعة ماريلاند: يمكن لتزيين المكتب ببعض الأزهار النضرة، أو إنجاز مشروع بطريقة جديدة أن يُحدث فرقًا،
رفّه عن نفسك ضمن المنزل
لا يُفسد الملل المتعة فحسب، لكن يمكنه أن يُفسد علاقاتنا مع الشريك.
تقول فينوس نيكولينو، خبيرة العلاقات ومضيفة معسكر “Boot Boot Camp: Reality Stars”:
“الملل هي مشكلة مشتركة يمكن أن تؤدي إلى تكيّف مع اللذة غير متوازن بين الشريكين، عندما يتوقف الأزواج عن اغتنام الفرصة للنمو معًا، سينمو الضجر عوضًا عنهما. لكن هذا لا يعني أن العلاقة محكوم عليها بالفشل، بل ربما تكون تلك فرصة لمواجهة تحدٍ جديد، وبالتالي جعل العلاقة أكثر إثارة”.
اطرح سؤالًا
بدلاً من طرح أسئلة تقلديية مثل، “كيف كان يومك؟” أو “هل حظيت بعطلة نهاية أسبوع جيدة؟” حاول التعرف على زميل في العمل أو صديق أو شريك من خلال طرح سؤال شخصي أكثر.
على سبيل المثال: “ما الذي تتطلع إليه اليوم؟” أو “هل هناك ما يمكنني مساعدتك به ضمن هذا الأسبوع؟” إذا كنت تريد حقًا جذب انتباه شخص ما، فجرب شيئًا غريبًا مثل “ما هي الأغنية التي تصف مزاجك اليوم؟”
تُشير الدراسات إلى أن اكتشاف معلومات جديدة حول الأصدقاء وزملاء العمل يُنشّط المحادثات ويعزز الحميمية.
اضف بعض التنويع إلى انتقالاتك
إذا كنت تقود السيارة، اسلك طريقًا مختلفًا إلى المنزل أو استمع إلى محطة جديدة. وإذا كنت تمشي أو تستخدم وسائل النقل العا ، حييّ شخصًا غريبًا أو نحِ هاتفك الذكي جانبًا واعر انتباهك لتصرفات من حولك.
يقول الباحث توم تيماس، وهو محاضر في علم النفس الإيجابي بجامعة إيست لندن: “ربما يبدو الاكتفاء بملاحظة محيطنا مملاً (وقد يكون ذلك)، ولكن إن أوليت انتباهك حقًا لما حولك، فقد يصبح الأمر ممتعًا وعميقًا”.
أيًا كان ما تفعله لمواجهة الملل، حافظ على الأمور ممتعة عن طريق تغيير سلوكك، فهذا لا يعطّل تأثير “تكيّف اللذة” فحسب، بل يُضيف الكثير من السعادة لحياتنا.