بعد أن ذكرنا في التدوينة السابقة الأفكار الثلاث الخاطئة عن ماهيّة التعليم، والتي ما زلنا نحتفظ بها حتى الآن، سنتحدث اليوم عنها ونورد الطرق التي يمكننا من خلالها تصحيح مسارنا التعليمي عبر التعلم الذاتي ، وبالتالي الإرتقاء بحياتنا نحو الأفضل
1- التخصصات هي الطريقة المثلى لتصنيف المعرفة
بعتمد نظامنا التعليمي على نموذج بجزأ المعرفة إلى مواضيع مختلفة ( الرياضيات-التاريخ-العلوم… إلخ …). وهكذا -وبداية من مرحلة ما قبل الدراسة “رياض الأطفال”- يتم زرع الفكرة في أذهاننا: العلم منفصل، ومن الأفضل أن نتعلم هذه المواد/المواضيع بشكل “مجزأة”.
ومع استمرارنا في التعليم، يستمر مسلسل “التجزئة” لهذه المواد إلى مجالات أصغر: فينقسم الاقتصاد، على سبيل المثال، إلى الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي. ويطلق على هذا النموذج في اختصار الحقول وتدريسها بشكل منفصل: التبسيط والاختزالية!
التعلم السلبي:
هل سبق لك أن تعثرت أثناء محاولة تعلّم لغة ثانية (تختلف في قواعدها أو ترتيب الكلمات… وغيره)؟
هذا واحد من نتائج التعلم السلبي: وهو اعتياد عقلك على نمط معين من المعلومات -مرتبط بمجال تخصصك الدراسي- بحيث تزداد صعوبة اكتساب معلومات تنتمي لتخصص آخر.
وينتج التعلم السلبي -بشكله الرئيسي- من نموذج “الاختزالية” الذي يجعل العلاقة بين التخصصات ضبابية أكثر.
ومن مساوئ الاختزالية أيضًا: صعوبة فهم الأشخاص خارج مجال معين ﻷي معلومة تنتمي لذاك المجال.
دعنا نتأمل طبيبان جراحان يتناقشان في الطريقة المثلى لإجراء عملية جراحية. ستجد أن الحوار سلس للغاية، أليس كذلك؟ دع أحدهما يتحدث مع “مصمم إعلانات” عن آخر التطورات في علم جراحة الدماغ… سيكون الأمر أشبه بحوار الصُمّ (الطرشان)!
فمجالاتهما مختلفة، ولكل مجال لغته وثقافته الخاصة.
يشرح عالم الأحياء (جيمس زول -James Zull) في كتابه “The Art of the Changing Brain” سبب اعتياد أدمغتنا على التعلم السلبي:
نفتقد في أجسادنا إلى الشبكات العصبية التي تربط موضوعًا بآخر، بل يتم بناءها بشكلٍ مستقل لمواضيع مستقلة، خاصةً إن كنّا درسنا في مدارس تقليدية حيث يتم تجزئة المواد الدراسية، هذا يحرمنا من رؤية الجذور المشتركة لكل المعارف. وبالتالي لا يمكننا ربطها سويّةً.
من المهم تعليم المشكلة لا الأدوات
لنفترض أنك تحاول تعليم أحدهم كيف تعمل المحركات، المنهج التقليدي في التعليم سيخبرك أن تبدأ بدورة عن المفكات ومفاتيح الربط! وهي طريقة صعبة للغاية وغير عملية.
الطريقة الصحيحة تبدأ بإحضارك للمحرك، ووضعه أمام المتدّرب ثم تخبره بأنك ستقوم بتفكيك المحرك، وكي تفككه ستحتاج إلى “مفكّ-screwdriver” طبعاً!، أنهينا عملية الفكّ ونحتاج لإعادة ربط البراغي، إذًا سيلزمنا “مفكّ ربط-wrench”. الآن يمكن للمتدّرب أن يستوعب ما تريد شرحه بدقّة!
2- معظم عملية التعلم تحدث في المدرسة/الجامعة
هناك نوعٌ وحيدٌ من التعليم الحقيقي، هو التعلم الذاتي
Mark Twain – مارك توين
واحد من أكبر المشاكل الأساسية في التعليم هو: خلطنا لمفهوم المدرسة مع مفهوم التعلم.
فالمدرسة هي “واحد من السياقات” لعملية التعلم، لكن -وكما هو معلوم- فنحن نتعلم في جميع نواحي حياتنا خارج أسوار المدرسة: في المنزل – في الملعب – أثناء السفر – من الكتب التي نقرأها والهوايات التي نمارسها، والأهمّ: من مكاتبنا وشركاتنا ومصانعنا … … إلخ ..
ورغم ذلك، ما زلنا نعتبر أن التعليم الرسمي في المدارس والجامعات هو التعليم “الحقيقي”
لكن ما مدى تطابق ما نتعلمه نظريًّا مع ما يحدث عندما نخرج إلى أرض الواقع؟
واحدة من القصص الطريفة -والمخيفة إن دققنا النظر فيها- هي حكاية ضابط شرطة مستجدّ، قام بتجريد مجرم من مسدّسه، ليعيده إليه! لما؟ ﻷن هذا ما أعتاد على فعله مرارًا وتكرارًا أثناء التدريب في كُلية الشرطة! لقد حدث ذلك غريزيًًا إن صح التعبير..
وبالمثل، غالبًا ما نتعلم مهارات معينة في المدرسة، ويكون تطبيقها في أرض الواقع معيقًا لعملنا.
على سبيل المثال، يُثني المدّرسون على الطلاب الذين يتبّعون القواعد والتوجيهات دون نقاش، لكن -في العالم الحقيقي- تشمل صفات القائد الناجح “المخاطرة والمبادرة”، باختصار فالتعليم الرسمي -في أغلب صوره- يصنع منّا أتباعًا لا قادة!
والآن، إليكم وجهة نظري الحالية حول التعليم الأساسي (النظامي):
-
كما ذكرت سابقًا، يمتلك معظم العلماء ورياديّ الأعمال الأكثر تأثيرًا ولهًا بالتعلم الذاتي، ففي المقابلة مع بيل غيتس (والتي ذكرناها في التدوينة السابقة)، يخبر “العالم بيل غيتس” محاوره عن مدى تعلقه بالعلم، حيث ما أن يُنهي عمله ليلًا حتى يعود إلى المنزل ويقرأ حتى موعد نومه.
ويطبّق (إيلون ماسك – Elon Musk) نظريته في التعليم بأن يوظف أذكى الناس في العالم بمقياس المهارات لا الدرجات الدراسية. -
غالبًا ما لا يُلهم التعليم الثانوي والجامعي الطلاب ليكونوا متعلمين ذاتيًا أو حتى يطورّ من حبهم للتعلم مدى الحياة. فالتعلم لمجرد الالتحاق بكلية من كليات القمّة يعزز الحافز الخارجي “الدرجات العالية” بينما يُعيق الحافز الداخلي “حُب المعرفة”.
هل هذه محاولة لتشويه المؤسسات التعليمية في أنظار الآخرين؟
بالطبع لا! فهناك العديد من المدرسيّن المُدهشين في النظام التعليمي الرسمي، وهو من أهمّ المساهمين في المجتمع (رغم حصولهم على أجور أدنى مما يستحقون)، ويمكن للمعلم الشغوف تغيير حياة طفلك.
كل ما أطالب به في هذه التدوينة هو/ تحفيز أنفسنا وأطفالنا على التعلم الذاتي.
3- يجب أن تختار مجالًا لدراستك ثم تتخصص فيه وحده
نحن في عصر يُفترض فيه أنّ “تضييق مجالات التعلم” -بعبارة أخرى: التخصص هو أمرٌ منطقي ومرغوب، وبهذا حُرمنا من (المعرفة الشاملة)
R. Buckminster Fuller – ريتشارد_بوكمينستر_فولر
في كتابه The Wealth Of Nations، يذكر عالم الاقتصاد الشهير “آدم سميث – Adam Smith” قصة مثيرة لمصنع للدبابيس -كمثال عن فعالية التخصص- في هذا المصنع، يستطيع 10 عمال فقط إنتاج 48000 دبوس يوميًا نتيجة لتقسيم العمل بينهم، حيث يتخصص كل شخص بجزء من عملية الإنتاج. ويُقدّر “سميث” أن إذا أدى كل شخص من هؤلاء عملية الإنتاج (من أول خطوة وحتى النهاية) فسيكون مجموع ما يُنتجونه -مجتمعين- هو 200 دبوس فقط. بعبارة أخرى، فقد سمح لهم “التخصص” رفع الإنتاج بما يعادل 240 ضعف!
كل ما سلف منطقي تمامًا، وﻷولئك العاملين في مجال التصنيع -حيث يتمّ قياس الإنتاجية بالكمّ- يبقى النموذج المذكور صحيحًا.
لكننا حاليًّا نعيش في حقبة ما يُسمى (اقتصاد المعرفة)، حيث تُقاس الإنتاجية بالنتاج الإبداعي. وواحدة من أفضل الطرق لتوليد الأفكار الإبداعية هي: تعلم وتكوين المهارات والمفاهيم التي تتفوق بها على باقي العاملين في مجالك.
بعبارة أخرى، ما يميزك عن غيرك هو أن شغفك بالعلم، وتطبيقك للمهارات الجديدة على تخصصك الأساسي.
هل وصلت إلى السرّ؟
التعلم الذاتي هو ما جعل القارئين النهمين لكل أشكال المعرفة نجومًا مضيئة في سماء عصرنا الحالي.
لذا، اتخذ قرارًا من الآن بالتوقف عن قضاء وقتك في التركيز على تفاصيل حقل معرفي معين (مجال تخصصك) واستثمر في التعليم مدى الحياة، اقضِ ما لا يقلّ عن 5 ساعات أسبوعيًا في استكشاف مجالات بعيدة عن محالك، و تطوير مهارات يجهلها أقرانك.
من أين أبدأ؟
تصفح مواقع بيع الكُتب كـ جملون، واستغل الفرصة الذهبية التي يوفرها لك في توصيل الكتب لباب منزلك/مكتبك مجانًا.
ما هو السرّ المشترك بين أغنى الأشخاص في العالم؟(2)