“يعجز المراهقون الأمريكيون عن التركيز لأكثر من 65 ثانية قبل تشتتهم. أما الموظفون فلا يُطيقونه سوى لـ 3 دقائق”.
يقتنص يوهان هاري Johann Hari انتباهنا بهذه العبارات في مطلع كتابه تركيزنا المسلوب: لماذا صرنا نعاني مشكلة قلة الانتباه؟، ومن الجدير بالذكر كونه عانى ذات المشكلة لسنوات، إذ يتنقّل بين الأجهزة وألسنة التبويب، جاهدًا تأدية مهام متعددة.
في النهاية، سأم الأمر وقرر إيجاد الحل؛ لذا أجرى مقابلات مع كبار خبراء العالم في مجال الانتباه البشري “Human attention” ليُصدم ببطلان كل معرفتنا “المُفترضة” عن الانتباه.
حين تصفحت الكتاب في إحدى المكتبات الوطنية، وقعت عيني على مراجعة كتبتها مؤلفة [الهدوء: قوة الانطوائيين في عالمٍ لا يتوقف عن الكلام]، سوزان كين Susan Cain:
وقد فعلت!
في المقدمة، يروي هاري قصتين عن بعض حماقات البشر. كما عندما ذهب لرؤية الموناليزا.
إذ وقف في طوابير طويلة يراقب سابقيه، كان أحدهم يخطو نحو الأمام حتى يصل قبالة اللوحة، فيُدير ظهره لها.. ويلتقط صورة ذاتية “سيلفي”. ثم يبتعد! ضحكت قليلًا حين قرأت ذلك؛ ربما لكونه موضوع يُلامسنا جميعنا.
جعلتني فكرة التصوير -بُغية النشر على شبكات التواصل- أهزّ رأسي دهشةً من عالمنا اليوم.
تحمل القصة الثانية سخريةً أكبر، إذ تسرد عبثية الموقف الذي صادفه هاري في جرايسلاند (=قصر المغني الأمريكي إلفيس بريسلي). فعندما وصل إلى هناك، وعوض المرشدين السياحيين، سلّمه المسؤول جهاز آيباد. ورغم طرافة القصة، لكنها تُبرز وجهة نظر مُلفتة حول السلوك المتأصل وانتفاء الاهتمام الحقيقي.
يُفتتح الفصل الأول باستعداد هاري للانعزال في كوخ صغير لثلاثة أشهر دون هاتفه. ذاك ما يردده الجميع: تلتهم هواتفنا عقولنا، صحيح؟ لذا قرر قضاء بعض الوقت دون هاتف أو إنترنت، والاكتفاء بالقراءة والكتابة.
أقرأ هذا وأهز رأسي قائلةً: لا ذنب لهاتفك يا صديقي!
لأنني كنت من مُناهضات الهواتف الذكية..
لم أُرده لسنوات. امتلكت هاتفًا “غبيًا” في البدايات، ولم أمنح الرقم لأي شخص قط. حملته -فقط- لاتصل برقم الطوارئ حين أحتاجه. ولم يكن يحتوي تطبيقًا للرسائل النصية، ولا وصولًا للإنترنت.
ولم أحصل على هاتف ذكي حتى أجبرني برنامج المصادقة الثنائية في سترايب Stripe على حمل واحد. ربما كان ذلك في عام 2018 تقريبًا؛ لذا كنت متيقنةً من براءة الهواتف. فحتى قبل امتلاكي هاتفًا ذكيًا، كنت أعاني صعوبة في التركيز.
لقد عايشت ذلك وكرهته، فوجدت نفسي أتساءل عن السبب.
المؤامرة خلف تركيزنا المسلوب
يستحق الفصل السادس والسابع وحدهما كامل ثمن الكتاب. استشطت غضبًا عند قراءتهما حدّ اضطراري إلى رمي الكتاب! ثم ظللت أعاود الرجوع إليه، والقراءة، والغضب، وهكذا دواليك..
يروي الكاتب -في الفصل السابع- قصة الخوف من مركبات الكلورو فلورو كربون “CFCs” أثناء السبعينيات، والتي أتذكرها جيدًا. كنت طفلة وكانت أختي الكبرى تصطحبني إلى المكتبة. وما إن ننزل من الحافلة حتى نرى رجلاً يرتدي لوح مشطّر “Sandwich board” يتنبئ بنهاية العالم. كان يصرخ في وجهننا عن مثبّت الشعر، لتمسك أختي بيدي ونهرب.
ولكنه كان مُحقًا! إذ أحدثت CFCs ثقبًا في طبقة الأوزون (التي تحمينا من أشعة الشمس). ومَن أنقذنا برأيك؟
الأشخاص العاديون الذين شكلوا جماعات حقوقية، ومارسوا الضغوط على الساسة حتى حظروا مركبات الكلورو فلورو كربون.
لكن لو حدث ذلك اليوم، على حد قوله، فسنحترق! ولو تعرضت طبقة الأوزون للتهديد اليوم، لغرق العلماء في بحر المقالات الفيروسية المتعصبة التي تزعم أن:
- الملياردير جورج سوروس George Soros المتسبب.
- طبقة الأوزون غير موجودة على الإطلاق
- الثقوب أحدثتها أشعة الليزر الفضائية .. اليهودية.
ولن يكون مُبالغًا!
توصلت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى تفوّق الأكاذيب الصريحة التي انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي -خلال انتخابات عام 2016- على جميع العناوين الرئيسية المشنورة على 19 موقعًا إخباريًا .. مجتمعة. والسبب؟ السعي خلف الربح.
يبدو أن التفاعل يتغذى على الغضب والانزعاج؛ والتفاعل ينعكس أرباحًا.
وخلال 2022، “اقترحت” إحدى منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لأليكس جونز “Alex Jones”، صاحب نظرية مؤامرة إطلاق النار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية، والتي ادعى فيها تزوير آباء الطلبة الحادثة، أكثر من خمسة عشر مليار مرة!
يرى الناس الاقتراح، فينقرون ويشاهدون ويغضبون.
المشكلة في تأجيج الغضب بغية التربّح..
يزيد الغضب من إفراز هرمونات التوتر في أجسامنا، فتتآكل قدرتنا على التركيز.
ويحدث هذا عبر مختلف شبكات التواصل الاجتماعي. والمشكلة أن التأثير يمتدّ حتى بعدما نسجل الخروج من التطبيقات أو نغلق لسان التبويب في المتصفح.
يكلفنا الغضب من أجل الربح قدرتنا على التركيز.
وهناك اثنا عشر سببًا آخرًا، فلا تنحيّ هاتفك جانبًا يا صديقي. يغطي كل فصل شيئًا منفصلاً يؤثر على تركيزنا. معظمها قرارات متعمدة اتخذها شخص ما لزيادة الربح.
دعني أحدثك عن يوهان هاري
- مؤلف لثلاثة من أكثر الكتب مبيعًا في صحيفة نيويورك تايمز. وقد اختارته منظمة العفو الدولية مرتين “الصحفي الوطني لهذا العام” وحظيت محاضراته في مؤتمر تيد بأكثر من 93 مليون مشاهدة.
- كتب لبعض أكبر الصحف والمجلات العالمية، بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز، ولوس أنجلوس تايمز، والغارديان، وذا سبيكتاتور، ولوموند ديبلوماتيك، وسيدني مورنينج هيرالد، وبوليتيكو وغيرها.
الآن دعني أخبرك بجانبه السيئ.
في عام 2011، أنشأ حسابًا وهميًا على ويكيبيديا، ودخل في خلافات مع البعض انتهت بحظره. اعترف بخطئه ووصف سلوكه بـ”الصبياني” واعتذر علنًا.
وفي عام 2011 أيضاً، اتُهم بالسرقة الأدبية لفشله في الاستشهاد بشكل صحيح ودقيق عندما أجرى مقابلات مع أشخاص. وأود أن أعتقد أنه تعلم هذا الدرس بالطريقة الصعبة، نظراً لأن أحدث كتاب له يحتوي على أربعين صفحة من الاستشهادات والشكر في النهاية.
نُشر كتاب (تركيزنا المسلوب) في يناير 2022 وحقق أعلى المبيعات في ثلاث قارات. وستتعلم الكثير منه، وستجد كيف قُدّمت البيانات التي يضمّها (والمُستندة إلى أبحاث عميقة) بأسلوب سهل القراءة وممزوج بالقصص والحكايات الشخصية. وهذا يعني أنه سيلفت انتباهك رغم كل الصعوبات.
خلاصة القول
ربما بمقدوري الجزم، بعد إنهائي كامل الكتاب، بأننا نستطيع التوقف عن إلقاء اللوم على هواتفنا. فهي بريئة من تركيزنا المسلوب، الأمر يتعلق بأكثر من ذلك بكثير.