تعدّ صورة الإفطار النص المصدر “أور-تيكست Ur-text“ للإنترنت النرجسي، وينتمي إلى فئة ”المحتوى الذي لا يُعنى به أحد بالضرورة ولكن يُدفع ناشره بالحاجة أو حتى المسؤولية عن تعميمه ليراه الجميع!”.
لطالما اعتدنا نشر صورة إفطارنا خلال سنوات تويتر وإنستغرام الأولى، حينها بدا الأمر خلّاقًا: فجأة، يمكنك مشاركة أكثر لحظات حياتك رتابةً مع حشد من الغرباء الذين قد يكونون متحمسين لرؤيتها. وبطريقة ما، مثّلت صورة الإفطار الحلم الطوباوي لشبكات التواصل:
يمكن لمليارات الأشخاص العاديين قذف أجزاء من حياتهم على الإنترنت مع بعض الوساطة – وجباتهم وحيواناتهم الأليفة وخواطرهم- وسيتحول ذاك المزيج إلى شيء يتعدى كونه جذابًا ليغدو ضروريًا!
كان النشر والتفاعل مع منشورات الآخرين بمثابة مساهمة في مشروع ضخم يثمّن الهواية والابتذال ونظام الجدارة المبني على المحتوى: بمقدور أي شخص -وأي شيء- أن يصبح محض اهتمام، ويغدو حديث الجميع حتى، بشرط نشره بالطريقة الصحيحة.
هل يجعلنا الاقتداء بالناجحين -خطوة بخطوة- ناجحين بدورنا؟
مؤخرًا، وجدتُ نفسي أفتقد صور الإفطار وأشباهها على الإنترنت
تبدو أعداد مَن يُشاركون لحظات حياتية عشوائية في تناقص.
في الواقع، لم يعد هذا منطقيًا، ويصعب تصديق أنه كان كذلك. ماذا نرى على منصات التواصل الاجتماعي الآن، بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على ظهورها؟
بحرٌ من المؤثرين وصنّاع المحتوى يطمحون بدرجات متفاوتة إلى “تلميع” باهظ التكلفة، وعناوين رئيسية تُعلن عن أحدث أهوال الحروب الدولية، علاوة عن صور ومقاطع فيديو ونصوص مُولّدة بالذكاء الاصطناعي، ولا ننسى ومحاولات استفزازية مُفرطة ومحاولة جذب الانتباه تلعب على مخاوف المستخدمين العميقة، وبموافقة المنصات نفسها.
لم يعد لليوميات مساحة ضمن هذا المشهد. وبالتالي، قلّ عدد من ينشرونها. فمؤخرًا، لاحظت نشر صديقتي، بعض صور “السيلفي” المُبهجة على إنستغرام في إحدى الصباحات، لتحذفها لاحقًا؛ وأوضحت:
“أحيانًا، مع كل ما يحدث في العالم، يتملكني القلق من ظهوري بمظهر عديمة الإحساس بنشر مثل هذه الصور. ويغزوني عدم الارتياح”.
هناك عامل جيّلي “Generational” في هذا التغيير الجذري: بلغ جيل الألفية -الذي نشأ على شبكات التواصل – مرحلة يسعى خلالها إلى خصوصية أكبر في حياته؛ بمجرد أن تستقر مع شريك وأطفال، يقلّ حافز إبراز شخصيتك عبر الإنترنت.
تقول إيما هولس Emma Hulse، وهي محامية في ثلاثينياتها:
“أعتقد أن الناس أكثر تشككًا في الإفصاح المفرط، وربما يكون في ذلك تصحيح مفيد وصحيّ لما كنا نشاركه جميعًا قبل عقد من الزمان”
غدا جميع أفراد جيلي الآن نوعًا من المتلصصين!
ولكن، خلال محادثات مع العشرات حول عاداتهم الحالية في النشر، أخبرني العديد من جيل زِد والأصغر سنًا عن ضجرهم من وضع حياتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. تقول كانيكا مهرا Kanika Mehra، وهي ابنة الأربع وعشرين عامًا: “أرى في جميع أفراد جيلي اليوم نزعة نحو .. التلصص”، لذا لا زالت تتصفح شبكات التواصل إنما دون نشر أي منشورات. وأضافت: “لا يريد الناس أن يُلاحظوا، وإذا نشروا تملّكهم نوع من الشعور بالضعف”.
قال بيخاريفيتش Bećarević، البالغ من العمر 17 عامًا، أنه -وأصدقاءه- لم يختبروا عصر (عفوية) وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وجدوا أنفسهم عالقين في مقارنة نصائح ترتيب الصور الدوارة “كاروسيل carrousel” على إنستغرام.
(وصفته للترتيب المثالي: "صورة فردية، وصورة جماعية مع الأصدقاء لإثبات أن لديك حياة اجتماعية، ثم صورة مثل الطبيعة الخلابة أو الطعام، أو الأفضل، صورة لهواية فريدة من نوعها").
وتابع قائلًا:
“حتى حسابات أصدقائي مُصممة ليظهروا أحرارًا، عوض كونهم أحرارًا بالفعل”.
مع تطور شبكات التواصل الاجتماعي، ارتفع معها سقف توقعات النشر المتكرر.

استُبدلت التغريدات السريعة بصور إنستغرام المُعدّة بعناية، والتي استُبدلت -بدورها- بمقاطع تيك توك، التي تطمح للوصول إلى الإنتاج التلفزيوني.
يستطيع المؤثرون وحسابات العلامات التجارية التكيف مع المعايير الأعلى، بالاستثمار في الفلاشات الحلَقية “Ring lights” وحوامل الهواتف، بينما يُعاني البقية مع تطبيقات كاميرات هواتفهم البدائية.
كان مان بارتليت Man Bartlett، الموسيقي والفنان الإلكتروني، رائدًا فيما أسماه ” البث الحياتي Lifecasting” أوائل الألفية. في إحدى أداءاته الفنية عام ٢٠١١، أمضى أربعًا وعشرين ساعة في محطة حافلات هيئة الموانئ، يُغرّد مباشرةً عمّن التقى بهم، ويحثّ جمهوره الإلكتروني على مشاركة قصص رحلاتهم. لكن ضغط نشر محتوى مُفصّل وتنمية علاقات اجتماعية مُفرطة أصبح “سامًا ومُقززًا”، كما أخبرني. يقول:
“بمرور الوقت، وتزايد التحول نحو المحتوى المرئي، لم تعد الفيديوهات -ببساطة- الوسيلة التي سأُكرّس وقتي وطاقتي فيها شخصيًا”
اليوم، يقتصر نتاجه على منشورات موجزة حول مشاريعه الموسيقية على منصة بلوسكاي الناشئة.
مع اشتداد تشتت وتعقيد منظومة شبكات التواصل الاجتماعي خلال السنوات القليلة الماضية، ومع ظهور منصات جديدة ثم انحسارها، نشهد تراجعًا في عدد المستخدمين. وكما قال أحد الأشخاص: “لا أملك صبرًا كافيًا على مواصلة تعليم نفسي ديسكورد أو بلوسكاي أو أيًا كان”.
كفاحنا المستمر “ضد” التكنولوجيا
اليوم، يثبّط تصميم وسائل التواصل الاجتماعي النشر العفوي، مع اعتمادها مقاييسًا تُشعر المستخدمين “بالتقصير” نتيجة عدم حصولهم على اهتمام كافٍ، ومع خلاصات خوارزمية تُعطي الأولوية للحسابات الشهيرة التي تنشر باستمرار (لا عن لحظات روتينية، بل تحليلاتٍ وتحريضات وترويجًا ذاتيًا).
يقول بنتون ويليامز Benton Williams، طالب في جامعة جورجيا:
“لم نعد نرى منشورات أصدقائنا في الخلاصة، لذا لم تعد تُعتبر آخر المستجدات”.
لخّصت كيلي فليمنج Kele Fleming، وهي موسيقية مستقلة، إحباطها بقولها: “لم تعد الخوارزمية في صالحنا أبدًا”.
سابقًا، كانت خلاصاتنا تُظهر كنوزًا غير مُكتشفة من المحتوى؛ أما الآن، فلا تُكافأ إلا الحسابات البارزة. إذا لم يكن هناك ضمانٌ بأن يرى أصدقاؤنا ما ننشره، فما الدافع إذن للاستمرار فيه؟ وإن فعلنا، نُدرك دومًا ضرورة إرضاء الخوارزمية وإلا سنضيع في الزحام!

هل نتجه نحو النشر الصفري Posting Zero؟
تُستخدم عبارة (جوجل صفر Google Zero) لوصف إنترنت مستقبلي افتراضي يتوقف فيه بحث جوجل عن إرسال الزيارات إلى مواقع ويب خارجية؛ لأنه سيولّد الإجابات بنفسه عبر الذكاء الاصطناعي.
قد نتجه أيضًا نحو ما يُدعى النشر الصفري، وهي نقطة يمتنع عندها الأشخاص العاديون -الجماهير غير المهنية وغير المسلّعة وغير المُنتقاة- عن المشاركة لأنهم سئموا من الضوضاء والشقاق والظهور.
يعني النشر الصفري نهاية شبكات التواصل الاجتماعي كما صُوّرت ذات يوم، كسجل فعلي للعالم مبني بواسطة أي شخص اختبر أي شيء على الإطلاق.
لكن وجود الأشخاص العاديين هو ما منح شبكات التواصل قيمتها. وفي غيابهم، لن يتبقى سوى التسويق الجاف للشركات، والقاذورات التي يولدها الذكاء الاصطناعي، والقمامة من المحتالين المتعطشين الذين يحاولون تحقيق الدخل من جمهور متضائل من المتلصصين!