يعيش غالبيتنا كما لو أن العالم ثابت، فنتقبّل الظروف باعتبارها “وضعًا طبيعيًا“. ونفترض استحالة تعطّل الصناعات؛ مؤمنين أن الأنظمة محصّنة ضد التغيير، والعقبات راسخة رسوخ الجبال.
هذه الذهنية ليست فاسدة فحسب، بل تشكّل أكبر عائق أمام بناء الحياة التي تتمناها وإحداث التأثير المنشود.
نجح مارك أندريسن “Mark Andreessen”، مؤسس شركة نتسكيب “Netscape” ورجل الأعمال المغامر الأسطوري في وادي السيليكون، في تجسيد هذه الفكرة بدقّة:
العالم مكانٌ مرنٌ للغاية. إذا عرفت ما تريد، وسعيت نحوه بأقصى طاقةٍ واندفاعٍ وشغف، فسيُعيد العالم ترتيب نفسه من حولك أسرع وأسهل بكثير مما تظن.
هذه ليست إحدى مقولات التنمية الذاتية “الفارغة”، وإنما حقيقة أصيلة عن كيفية عمل الواقع. والتي بمجرد فهمها، يتغير كل شيء.
مجال تمويه الواقع .. حقيقة 🌁
حين أمر ستيف جوبز فريقه بإنجاز المستحيل خلال خمسة أسابيع عوض خمسة أشهر، قاوموا الأمر بضراوة؛ فمن منظورهم، لم يكن ممكنًا، ولا كان الجدول الزمني واقعيًا، علاوة عن كثرة القيود.
لم يتزحزح جوبز عن موقفه قائلًا: “لا تخافوا، يمكنكم فعلها”. وبطريقة ما، فعلوها!
دفع تكرار الموقف فريق آبل لصياغة مصطلح خاص “مجال تمويه الواقع Reality Distortion Field“، متندرين على أسلوب جوبز في إقناع الناس بإمكانية تحقيق المستحيل بقوة الإرادة.
لكن فاتهم أن "التمويه" لم يكن في ذهن جوبز، وإنما في أذهان الجميع!

أدرك جوبز -ببساطة- أن أغلب “المستحيلات” هي مجرد أشياء صعبة لم [يعاند] أحد بما يكفي لحلها حتى الآن. فما اعتبره فريقه تمويهًا للواقع كان -في جوهره- رفضًا لقبول القيود المُصطنعة!
العالم أكثر مرونة مما يظن معظم الناس. لا بفعل السحر، بل لأن العقبات التي نستشعرها -في معظمها- تركيبات مبنية من:
- افتراضات قديمة لم يتحداها أحد.
- قيود مُزيفة لا وجود لها إلا في المخيلة الجمعية.
- معتقدات محصورة فيما هو ممكن أو مسموح به.
وحين تقاوم هذه العقبات بقوة كافية، فغالبًا ما تتحلل أسهل مما تتوقع.
قرأت مؤخرًا: كيف تتعافى من التخلي عن حلمك؟
لا حاجة لتصريح 🛂
سواء أدركت أم لا، لطالما كان ثمّة (شيء) أردت بنائه أو إنشائه أو متابعته، ثم عدَلت عن الفكرة؛منتظرًا الضوء 🟢 من أحدهم.
ينتظر معظم الناس الإذن طوال حياتهم: إذن للبدء.. تصريح بالقيادة. الموافقة على تحدي الوضع الراهن وتغيير الواقع.
نفترض أن النجاح يتأتى من اتباع مسارات ثابتة وتحقيق أهداف محددة مسبقًا:
- احصل على شهادة.
- أنشئ سيرتك الذاتية.
- سدد رسومك.
- انتظر دورك.
🔨 كيف يُحطم الأشخاص الأذكياء نجاحهم .. بأنفسهم!؟
لكن لا يطلب -من يُعيدون تشكيل الصناعات- الإذن من أحد، إذ يتحركون بينما ينتظر الآخرون دورهم:
- لم تنتظر سارة بلاكلي “Sara Blakely” من صناعة الملابس الداخلية -التي يهيمن عليها الرجال- أن تُحدث ثورة في عالم “المشّدات shapewear”. ببساطة، قصّت أقدام جواربها الطويلة وصنعت [سبانكس Spanx].
- لم يطالب برايان تشيسكي “Brian Chesky” وجو جيبيا “Joe Gebbia” سلاسل الفنادق تحويل غرفها الاحتياطية إلى مساكن. إنما اكتفيا بوضع مراتب هوائية على أرضياتهم، وأنشآ [إير بي إن بي Airbnb].
ماذا ستفعل غدًا إن توقفت عن انتظار تصريح أحدهم بالاستمرار؟
ما الفكرة أو المشروع أو المسار المهني الذي ستسعى إليه فورًا؟
أخبرني في التعليقات 💬
أخطر أشكال خداع الذات: الاعتقاد بأنك بحاجة إلى موافقة أو إذن شخص آخر لتحقيق رؤيتك. صدقني، يمكننا تغيير الواقع والعالم، فقط بشرط الرغبة بالبدء في إعادة تشكيله دون دعوة ممهورة!

القوة الكامنة وراء المرونة
تحتوي مقولة (أندريسن) شرطًا حاسمًا يغفل عنه الكثيرون، فلا يدّعي استجابة العالم لأصحاب الأماني والآمال، بل يقول تحديدًا أنه يُعاد تشكيله لمن يسعون وراء ما يريدون “بأقصى طاقةٍ واندفاعٍ وشغف“.
يعاني الواقع نوعًا من العطالة، فيقاوم التغيير. لكنها -وأقصد المقاومة- ليست لا نهائية، بل بما يكفي لإزاحة غير الملتزمين. وبالمناسبة، آلية التصفية هذه ميزة لا عيبًا؛ إذ تضمن إعادة تشكيل العالم فقط حول المتكبّدين عناء تجاوز مقاومة الواقع الأولية.
أثناء بناء جان كوم “Jan Koum” واتساب، رفضته فيسبوك. لتستحوذ على شركته -بعد 5 سنوات فحسب- مقابل 19 مليار دولار. ولم يلعب الحظ دورًا في قصة (جان)، وإنما إصراره على تحقيق رؤيته.
يختبر العالم التزامك قبل أن يُذعن.. فيسألك:
- إلى أي مدى ترغب في كذا؟
- بما أنت مستعد للتضحية به؟
- إلى متى ستصمد عندما لا ترى نتائج فورية؟
تحدد إجاباتك ما إذا كان سيتغير الواقع من حولك أم سيبقى ثابتًا بعناد.
راجع مشاريعك الحالية. أين بذلت فيها جهدًا عابرًا وتوقعت نتائج ملموسة؟ وأين تراجعت عند أول بادرة مقاومة؟
يمنحك المسار الذي تسلكه الآن النتائج التي يستحقها مستوى طاقتك الحالي.
مفارقة المقاومة
إليكم أمرٌ -يخالف البديهة- حول انعطافات الواقع: ليست المقاومة دليلًا على سيرك في الاتجاه الخاطئ. بل غالبًا ما تكون تأكيدًا على أنك تُصرّ على شيءٍ يستحق التغيير.
تأمل ذلك قليلًا: لو لم يُحدث ما تحاوله فرقًا يُذكر، لما كلف العالم نفسه عناء المقاومة؛ فلا تُدافع الأنظمة عن نفسها إلا ضد التهديدات الحقيقية للوضع الراهن [حتى خارج السياسة 😉].
ربما كان الرفض الذي تواجهه أقوى دليلٍ على إوشاكك تحقيق شيء مهم.
لقد أذهلني هذا عندما درست بدايات تأسيس ريتشارد برانسون “Richard Branson” شركة فيرجن أتلانتيك. توقعت كل شركة طيران معروفة -ومعظم خبراء المجال- فشله. صُممت لوائح المجال لمنع الوافدين الجدد، بينما عملت شركات الطيران القائمة بنشاط لمنع دخوله!
لم يكن هذا سوء حظ، وإنما مظهرًا من مظاهر حماية النظام نفسه.
ولو فسر برانسون المقاومة كإشارة لسيره على الطريق الخطأ، لما تواجدت شركة فيرجن أتلانتيك على الإطلاق.
ما المقاومة التي تواجهها الآن والتي ربما أخطأت في تفسيرها على أنها إشارة للتراجع (عوض التقدم)؟
غالبًا ما لا تكون العقبات في طريقك تحذيرات، بل عوامل فاصلة تفصل بين الراغبين في التغيير والمطالبين به.
التكلفة الخفية للإيمان بالواقع الجامد
لا يدرك معظم الناس -أبدًا- مدى قابلية تغيير الواقع؛ لتأصيلهم رؤية ثابتة نحوه. نموذج عقلي يخلق نبوءة تحقق ذاتها:
- تعتقد أن التغيير عسير.
- يحدّ هذا الاعتقاد من جهدك وتوقعاتك.
- يؤدي تقليل الجهد لنتائج هزيلة.
- فتؤكد النتائج البسيطة اعتقادك الأصلي.
- وتعزز الدورة نفسها بنفسها.
أتعلم أبهظ ثمن تدفعه لقاء رؤية العالم ثابتًا؟ لا، ليس الفرص التي تفوتها، بل الشخص الذي لم تصبحه أبدًا!

عندما يغدو التغيير الجذري شبه مستحيل في نظرك، تتخلى تلقائيًا عن طموحاتك:
- “كن واقعيًا”.
- “ضعّ أهدافًا قابلة للتحقيق”.
- “ركّز على التحسينات الصغيرة عوض الرؤية الكبيرة”
- 👆
- يضمن لك هذا النهج ألّا تكتشف أبدًا ما الممكن بالفعل.
لا أريد منك العيش في الوهم، وإنما امتلاكك جرأة مدروسة، تختبر من خلالها فرضيات “ما يمكن تغييره” عوض قبولها حقائقًا ثابتة.
صيغة إعادة تشكيل العالم
إذا حمل العالم قابلية للتغيير حقًا، فهل نجد تركيبة تجعله يتوافق مع رؤيتك؟ بالطبع. بعد دراسة الذين نجحوا في تغيير الواقع، لاحظت وصفة:
1. الوضوح المطلق
تُنتج النوايا الفضفاضة نتائج مُبهمة؛ العالم لا يستسلم للتفكير الغامض. بمقدور مَن ينجح في تغيير الواقع تحديد ما يريده بوضوح. لا من حيث النتيجة فحسب، بل المنطق والقيم والثوابت.
يُركّز هذا الوضوح طاقته. فعوض توزيع جهوده على أهداف متعددة، يُركّز على نقاط مُحدّدة ذات الأهمية.
للمهتمين: التوجّه هو المقصد 🏹 (نحو علاقة صحيّة بأهدافنا)
2. قناعة راسخة
كما ذكرت آنفًا، يقاوم العالم كل من يحاول تغييره. فتُفرّق مقاومته المهتمين عَرضًا عن الملتزمين حقًا. لينجح الذين يحافظون على قناعاتهم -رغم النكسات والتشكك والتقدم البطيء- في تغيير الواقع وإعادة رسمه.
هذا ليس عنادًا أعمى، بل إيمانًا مبنيًّا على بصيرة أو رؤيةٌ لا يدركها الآخرون (بفضل تعمقك في تحليل المشكلة).
3. الاجتهاد الزائد
ترتبط درجة انحناء الواقع -ارتباطًا مباشرًا- بكمية القوة المُطبّقة. فأولئك الذين يُعيدون تشكيل عالمهم لا يجتهدون فحسب، بل يعملون بكثافة تُزعج الآخرين. ويتحركون بوتيرة ونطاق يبدوان مبالغًا فيهما للمراقبين من الخارج.
ولا يعني ذلك وصولك مرحلة الاستنزاف Burnout أو التبشير بثقافة العمل المفرط Hustle culture، بل يعني بذل جهدك عمّا يهم حقًا، عوض تشتيت نفسك بين مئات المهام الصغيرة.
4. التموضع الاستراتيجي
لا ينحني الواقع بـتساوٍ في جميع الاتجاهات؛ لاحتوائه نقاط ضعف، بحيث يمكن لقوة أقل إحداث تغيير أكبر.
ينجح القادرون على إعادة تشكيل عالمهم في تنمية حدسهم بهذه الفرص. فيمضون قُدمًا نحو مواكبة التوجّهات الجديدة والاحتياجات غير الملباة، وتعزيز مهاراتهم الفريدة. ما يُتيح لهم إحداث تأثير يتجاوز بكثير جهدهم المباشر.
5. الطاقة المعدية
يعجز أي أحد عن تغيير الواقع بمفرده تمامًا. فحتى لأكثرنا تصميمًا حدود يقف عندها. لذا، يُلهم [مُغيّرو الواقع] الآخرين للانضمام إليهم. فغالبًا ما يجذب وضوحهم -وقناعتهم وعملهم- الحلفاء والموارد والفرص. لتتحول قواهم الشخصية إلى قوة دفع للفريق.
والشيء بالشيء يُذكر: لماذا عليك إطلاق مجتمع مجاني كصانع محتوى؟
قرار يغير كل شيء
لطالما كان العالم قابلًا للتغيير بالنسبة للراغبين في اختبار مرونته: من الأخوين رايت اللذين أثبتا إمكانية الطيران، مرورًا بكاثرين جونسون “Katherine Johnson” التي ساعدت حساباتها الدقيقة في ضمان نجاح رحلتنا نحو القمر، وليس انتهاءً بغريتا ثونبرغ “Greta Thunberg“ التي حشدت الملايين في سبيل العمل المناخي.
لا يتميز من يُعيدون تشكيل الواقع عنك بشيء. إنما -ببساطة- اتخذوا قرارًا مختلفًا بشأن الممكن وما يستحق السعي إليه بأقصى طاقة.
وذاك القرار أمامك الآن.
👊 يمكنك اختيار النظر إلى العقبات بصفتها (ثابتة) أو (مرنة).
👊 يمكنك تقبّل الظروف أو تحديها.
👊 يمكنك اختيار العمل ضمن الأطر القائمة أو بناء أطر جديدة.
يحدد تصورك لمَا يقبل التغيير -بشكل مباشر- ما يمكنك تغييره.
ليست الثورة العظمى ثورة خارجية بل داخلية، تشكّلها اللحظة التي تدرك فيها أن قيود كثيرة موجودة فقط لأن الجميع اتفق على وجودها.
أين تطبّق هذا الفهم بأن العالم أكثر مرونة مما يبدو؟
ابدأ بالقيود التي خُدعت بكونها ثابتة:
- “السوق مزدحم للغاية بالنسبة للوافدين الجدد”
- “لا أملك خلفية أو علاقات”
- “هذه المشكلة معقدة للغاية ويستحيل حلّها بسرعة”
- “هذه الطريقة -الوحيدة- المُجدية في هذه الصناعة”
جميعها معتقدات تستحقّ التمحيص. لا رفضًا أعمى، بل فحصًا دقيقًا. هل هذا واقعٌ ثابتٌ حقًّا، أم مجرّد افتراضٍ جماعيّ لم يُشكّك فيه أحدٌ بما يكفي؟
ثم اسأل نفسك:
ما الذي سأسعى إليه إن آمنت صادقًا بملاحظة أندريسن بتشكّل العالم حول رؤيتي وطاقتي؟
قد تُخيفك الإجابة، وهذا طبيعي. بل لا بد أن يُشعرك أي شيء يستحق بذل كل جهدك لتحقيقه بالرهبة!
لكن تذكروا أن العالم أكثر مرونة مما يظنه معظم الناس. فالعوائق -التي تبدو صلبة- غالبًا ما تتلاشى عند تحدّيها بعزيمة كافية.
النظرية دون تطبيق مجرد لهو!
فإليك الخطوة التالية المباشرة:
حدِّد قيدًا واحدًا “ثابتًا” في عملك أو حياتك تقبلته دون تردد. واحد فحسب.
وغدًا، أدي عملًا محددًا يفترض مرونة هذا القيد. لا يُشترط أن يكون عملاقًا، بل تكفي خطوة ذات معنى، والتي لن يكون لها أي معنى لو كان القيد ثابتًا بالفعل: ربما يكون التواصل مع شخص “بعيد المنال”، أو تحديد موعد نهائي يبدو “مستحيلًا”. أو اقتراح حل قد يعتبره الآخرون “غير واقعي”.
لن يُغيّر هذا الفعلُ البسيطُ واقعَك بالكامل، ولكنه سيُشجّعُ أهمَّ عضلةٍ لديكَ 👈 قدرتكَ على اختبارِ الحدودِ التي يعتبرها الآخرونُ أمرًا مُسلَّمًا به، بدلًا من تقبُّلها.
وكما يذكرنا مارك أندريسن، سيعيد الواقع تشكيل نفسه حولك “أسرع وأسهل بكثير مما ظننت”.
ليظل السؤال: إذا كنت ستختبر هذه الحقيقة أم ستستمر في العيش كما لو أن العالم ثابت؟ الخيار لك، وهو ما يغيّر كل شيء.
التوقيع: سكوت – Scott