هذه التدوينة برعاية الإنسان اللطيف الذي دعمني بكلماته وماله
مع ظهور الفهرست، تكونت لديّ عادة جديدة: تصفح سريع لجميع التدوينات الجديدة، ثم صياغة أفكار متوافقة مع تدوينة أنشرها. في البداية، كان الأمر مشتِتًا، فكل مدّون يكتب حول فكرة مختلفة عن الآخرين بحيث يصعب جمعهم في تدوينة متناسقة.
لكن في الفترة الأخيرة، بدأ الجميع -وعلى نحوٍ غريب- التدوين حول الموضوع الذي يشغلني، وحملت تدوينات (28-5-2020) فكرة واحدة: لماذا ندّون؟
تحدثت عن هذا الموضوع أكثر من مرة، وإن كانت تدوينة وفجأة سألت نفسي: لماذا أكتب إذًا؟ أولها، فأنا لا أعرف لها آخرًا.
اليوم سأشارك معكم قائمة “لماذا ندّون؟” من قائمة الأصدقاء وأفكاري حولها.
فعل الكتابة الذاتية هو المِنحت الذي يعمل ببطء شديد لكن بدأبٍ عالٍ على صنع شيءٍ ما من الخامة التي هي نحن.
اتسائل إن كانت عبارة المدون طريف تنطبق عليّ، بعبارة أخرى: ما الذي قدّمته الكتابة ليّ؟
لا زلت مغشيًّا عليّ في معمعمة تسليم الشقة، أصحو على اتصالٍ من أحدهم يضرب موعدًا لاستلام قطعة أثاث (ثم يُخلفه)، وأنام على هواجس من جدوى ذلك كله: من أين جاء مبدأ المساومة؟ ولماذا نغضب عندما يُساومنا أحدهم على سعر مقتنياتنا الشخصية إن كنا في النهاية سنموت لنترك كل شيء؟ لماذا يسرق البعض مستخدمين سيف الحياء؟
تمضي أيامي وفق ذات المنوال، وأبحث عن سلوى، فلا أجدها في الكتابة. وفي ذات السياق، حصل نزاع بيننا وبين صاحبة الشقة وكانت النتيجة أن حصلت هي على ما تريده، وهو ما دفعني لاتسائل: ما الفائدة المرجوة من العُزلة والكتابة، طالما لا أستطيع أخذ حقي ممن يستلبه؟ ما قيمة (حياتي ككاتب) إن كنت أفقد مقابلها (حياتي كإنسان من لحمٍ ودم وأعصاب)؟
يسألني فنيّ التكييف عن طبيعة عملي، فأُجيبه: محاسب.
لا أجرؤ على قول: صانع محتوى – مترجم – مدون .. أو أيٍّ من هذه الالقاب لسببين: 1] شكّي في قدرته على فهم معنى مدوّن، ولا طاقة ليّ بشرحه لشخصٍ غير مهتم 2] شكيّ بنفسي كمدّون أصلًا. يقول طريف:
لكتابة في مدونة شخصيّة لا تصقل أفكار صاحبها فحسب، بل أسلوبه، لغته، وتزيد تمكّنه من بناء العبارات والكتابة بقوالب مُحدّدة. مُجرّد ممارسة المهارة بحد ذاته وقتًا طويلًا، كفيلٌ بتحسينها إلى مستويات احترافية.
وهو بالضبط موضع شكيّ، فلا أشعر أن التدوين يصقل لغتي وأسلوبي، بل أجزم أن من يقرأ تدويناتي الآن سيظنها امتدادًا لما كتبته قبل 12 عامًا!
كيف تصنع دخلًا سلبيًا لكن لروحك
من البديهي بعد استمتاعي بالجزء الأول من الحديث عن مفهوم الكفاية أن أكون متعطشًا للمزيد، والذي -لحُسن الحظ- لم يتأخر يونس بن عمارة عن مشاركتنا إياه.
اتبعت حياتي نهجا يسهل توقعه، فأنا أبدأ في القيام بِنشاط ما لكن سرعان ما ينتهي بي المطاف إما بإدراك أنني لست مؤهلا “فطريا” للقيام به أو أنني لن أصل إلى المستوى الذي أردته، فأَستسلم. اشتملت حياتي أيضا على الكثير من جلسات العلاجِ النفسي.
ربما لا يكون الاقتباس السابق أفضل رسول لرسالة التدوينة، لكنني اخترته لسببين:
1 – تعبيره الدقيق عن الصورة الذهنية التي أشاركها مع كاتب المقال الأصلي ثوم وونغ. المشكلة أن النشاط الذي نتحدث عنه هنا هو “الكتابة”، إن لم تفهم قصدي (وأشك في ذلك لأنك قارئ ذكي) فتخيّل حياة نجّار استيقظ فوجد نفسه وقد نسي كيف يدقّ مسمارًا في قطعة خشب!
الكتابة مصدر دخلي الوحيد، لذا فشعوري بفقدان أدواتي ككاتب يعني أنني في ورطة. أرجوك، لا تنظر للأمر وكأنه شكوى أو محاولة استعطاف، فأنا لا أبحث عن المجد هنا (ولست متسولًا بالتأكيد!)، كل ما في الأمر أنني أوثّق لمرحلة حرجة من حياتي لغاية سأتحدث عنها بعد قليل.
2- “اشتملت حياتي أيضا على الكثير من جلسات العلاجِ النفسي” تبدو هذه الجملة كما لو كانت دخيلةً على النص، هي ليست كذلك وإنما -في الواقع- دخلت قلبي دون استئذان!
بين جولات صراعي مع مشاعري السلبية حيال ما يحدث، أتخذت قرارًا مُريحًا: سأعيش يومًا بيوم.
في الفيلم الأرجنتيني (السر في عيونهم – The Secret in Their Eyes)، ذكرت إحدى الشخصيات عبارة أضاءت داخلي كلحظة استنارة: [فكّر ماذا لو فعلت كذا بدلًا من كذا، وسيكون لديك أكثر من ماضٍ، لكن لن تمتلك أي مستقبل]، سأحاول ربط الفكرتين لتفهمني أكثر:
ذكرت ذات مرة حادثة مرّ عليها 10 أعوام تقريبًا (ثلّة من الشباب تستوقفني في الشارع، ويسطون على ما أملك)، وقتها حاول والدي صرف نظري عن فكرة التقدم بشكوى للشرطة (بحجّة: لا نريد دخول أقسام الشرطة)، واعتبرت ذلك جُبنًا وعارًا.
الآن، يتكرر الأمر ذاته تقريبًا: صاحبة الشقة تأخذ ما تريده وتأكل حقنا المتمثل في مبلغ التأمين “عند توقيع عقد الأجار، يُدفع مبلغ من المال يُعادل أُجرة شهر لمالك العقار، وتُخصم منه تكلفة أي تصليحات أو أضرار عند تسليم العقار”، ووالدي -للمرة العاشرة ربما- يُقرر أن يتخلى عن حقنا درءًا للمشاكل.
ربما كان هذا أبرز أسباب أرقي ليلًا: أريد الاقتصاص منها بأي شكل. يكفي أن تسيطر هذه الفكرة على شابٍ مثلي، حتى يسقط في بحر أحلام اليقظة: ماذا لو أمتلكنا (معارف) تُرغمها على دفع قيمة التأمين بالقوة.. ماذا لو رفضنا الخروج من المنزل فأستعانت هي بالشرطة ودخلت الرشاوى طرفًا في النزاع؟ ماذا لو كان والدي شخصًا أكثر جرأة، فترك ليّ مسألة تسوية النزاع بغض النظر عن العواقب؟
تدور هذه الأفكار في رأسي طيلة الليل وأفكر في حجم الانتصار الذي سأحققه لو طبّقت أحدها، لكنني أتقلّب -بسبب عجزي عن ذلك- على سريرٍ من شوك، أحاول دفعها بفكرة: لن نُطيل المكوث في هذا البلد، لذا فلا جدوى من أي نزاع، فتهدئ زوبعة أفكاري لثوانٍ قبل أن أشعر بغصّة منشؤها أننا خرجنا من بلدنا خوفًا من الموت، وها نحن ذا خائفون من النزاعات.. وكأن الخوف يأبى إلا أن يُرافقنا! فيعود عقلي لِفرد أوراقه المقيتة.
لكل فكرة ماضيها، يضيع حاضري في استحضاره، فأفقد -شيئًا فشيئًا- مستقبلي الذي ينتظرني.
لتجنب ذلك، قررت أن أعيش يومًا بيوم، فلا الانتقام ينفعني، ولا اتباع نصيحة والدي والتخليّ عن حفنة مال التأمين سيضرني، لكن هل كان ذلك كفيلًا باعتدال ميزان حياتي؟ للأسف .. لا!
فأفكاري تلك وكما تذكر تدوينة يونس: تلك الحجج بدت معقولة فقط عندما حاولت إقناعها. أما إقناع نفسي فقد كان مسألة مختلفة.
لا شكّ أنك توقفت عن القراءة -ولو للحظات- ما إن سمعتني أصف تصرف والدي حيال السرقة الأولى “جُبنًا”، وربما تكون قد سألت نفسك: ما هذا العقوق؟
في الواقع، أنا أيضًا أطرح ذات السؤال على نفسي، أظن أن علاقتي متوترة بما فيه الكفاية مع والدي، هل تصدّق إن أخبرتك أنني فكرت في تأليف رواية حول الأب.. فقط لتنتقم إحدى شخصياتها من والدها؟!
أفلا يحتاج ذلك الخضوع لجلسات علاجٍ نفسي؟
مررت بفترة عدم الرغبة في الكتابة عن أخباري واحوالي أرغب بصنع هدف أو محور اتمشى معه في التدوين أرغب بتوضيح معالم مدونتي أرغب ببصمة أو سمة تُعرف بها مدونتي
قلت أن هدف تدوينات الفترة الأخيرة توثيق مرحلة حرجة من حياتي لغاية معينة، وقد جاء موضع كشفها الآن.
أشارك صاحبة الاقتباس السابق المدونة بشاير الرغبة في تجاوز يومياتي الشخصية والعودة إلى نمط التدوين المفيد، فوقت قراء المدونة أمانة ولا أظن أن أحدًا سيهتم بمعرفة مشاكلي الشخصية مع صاحبة الشقة مثلًا!
لكن ربما هناك من يهتم، وهنا أقتبس للمرة الثانية:
ستكون مدونتي بإذن الله لأبنائي أكتب لهم .. هل يمدي أن أعلمهم كل ما أرغب هل أستطيع توصيل كل ما لدي من حكم وتجارب وخبرات ونصائح وطرائف وقصص لهم هل أستطيع أن أسقيهم وأرويهم من عصارتي في الحياة أشعر أن هذا أقل واجب أرغب بإيصاله لهم لكن لن يستوعبوا كل شيء الان لصغر سنهم لذلك التوثيق والتدوين لهم هو الحل.
بعد 10 أعوام من الآن، سيكون أطفالي على أبواب مرحلة المراهقة، سيشعرون بثقل خطواتهم في عالم الكبار، وسيسألونني عمّا إن كان شعورهم بالتوهان والتشتت أمرًا طبيعيًا. ربما لا أكون موجودًا بينهم حينها (فالأعمار بيد الله سبحانه) وبذا يجدون الإجابات في تدويناتي، وإن أطال الله في عُمري فغالبًا لن يصدّقوا ما سأرويه لهم من ذكريات، لظنّهم بأنني أحاول الطبطبة عليهم ببعض الكذبات البيضاء، وحينها أُحيلهم إلى تدويناتي علّهم يصدّقون.
تجاوز عدد كلمات التدوينة 1200 كلمة، ورغم وجود الكثير مما أحدثكم/أحدثهم عنه، لكنني أخشى أن يُصيب السأم قلوبكم.
أخبروني في التعليقات إن كنتم تودّون لو أجعل للتدوينة جزءًا ثانيًا.
استمر بالكتابة يا طارق، فالكتابة ليست علاجًا لك وحدك، بل لنا، القراء، أيضًا
جاء تعليقك في الوقت المناسب تمامًا!😍