تشكّل الأيام بالنسبة ليّ وحدة متصلة، لذا لا يمكنني القول: (استيقظت في ساعة كذا)، أو (نمت في التوقيت الفلاني)، فحياتي تستمر حتى حين أخلد إلى النوم. أعلم أن الأمر واضح، ومع ذلك أودّ توضيحه أكثر: قبل أن أضع رأسي على الوسادة، أجلس بصحبة كوب شاي لأفكر في أحداث اليوم، هل أخطأت بحق أحد؟ هل أنجزت ما كنت أطمح لإنجازه؟
للأسف، غالبًا ما تكون الإجابات سلبية. لا أظنني قادرًا على رؤية الجانب المشرق منيّ.
الآن، أودّ وضع ملاحظات على بعض الجُمل أعلاه، لأعود للحديث عنها بعد قليل، فكيف أفعلها؟
عرفت! سألوّنها.
بعد محاولة طرد تلك الأفكار، أتوجه إلى السرير .. وهناك يُصيبني الأرق لنصف ساعة (تقل أو تزيد)، ثم أنام.
في عالم الأحلام، أشاهد ما أفكر به متجسدًا أمامي.
لحظة! لم تعد هذه النقطة تعنيني/تعنيكم.
كنت أرغب في تبيان كيف أن نهاري وليلي متصلان عبر الأفكار، لكن الأفكار تتلاحق في رأسي، لتصطدم بالفكرة السابقة.
سأبتعد عن السرد المنظم، وأتحدث عن لقطات متفرقة من يومي.
استيقظت في الساعة التاسعة تمامًا، نهضت بذهنٍ مشوش، ورغبة -معاكسة- في الانطلاق للحياة.
حياتي، والتي أحدثكم عنها هنا، تحدث خلف ألواحٍ زجاجية تُدعى الشاشات. إذًا، بعد نشري لتدوينة وانتهى مشروع شهر الكتابة بسلام!، توقعت هطول سيلٍ من التعليقات والإعجابات،
وصلت الرسالة
في زمنٍ ما، حين لم أكن حاضرًا، قررت الحكومة لدينا تنظيم عملية الحصول على قائمة من السلع الأساسية عبر ما يُسمى (البطاقة الذكية)، وتتضمن تلك القائمة: أنابيب الغاز والديزل ووقود التدفئة (المازوت) إضافةً إلى الخبز والسكر وأخيرًا الأرز.
حيث تضمن البطاقة أن يحصل حاملها على حاجاته الأساسية تلك، وبسعر معقول (مدعوم من الحكومة).
المشكلة الوحيدة التي نواجهها كمواطنين، هي: الازدحام (رغم أن هدف البطاقة كان القضاء على هذه الظاهرة أصلًا!)
يجب التنويه هنا إلى كون البطاقة مربوطة بنظام مؤتمت، بحيث يُتاح للمواطن الحصول على المادة وفق (دور/تسلسل) معين، بمعنى: لا يمكنني الحصول على أنبوبة غاز منزلي كلّما عنّ ليّ، وإنما يجب أن أنتظر وصول رسالة قصيرة SMS على رقم هاتفي المحمول تحمل بُشرى أحقيّة حصولي على أنبوبة غاز خلال 24 ساعة. وبمجرد الحصول عليها، يُعاد وضعي في آخر القائمة.
هل هذا ينطبق على جميع المواد؟
تقريبًا، عدا الخبز.. حيث يحصل صاحب البطاقة على قدرٍ محدد (ربطة= 7 أرغفة لكل شخصين) يوميًا.
نعود لموضوعنا، وصلت رسالة (الغاز المنزلي) بعد انتظار دام قرابة الشهرين، كنت نائمًا حين تلقيتها، فأيقظتني زوجتي. حملت الأنبوبة الفارغة وانطلقت إلى مركز التوزيع (الذي -لحُسن الحظ- يقع قريبًا من منزلي).
كان هناك طابور انتظار طويل لأشخاص وصلتهم رسالة مماثلة، فوقفت في آخره وأنا أحاول إلتقاط أحاديث الناس من حولي. الجميع يتحدث عن ضرورة التحليّ بالصبر.
من الطبيعي -في مثل هذه اللحظات- أن يُقارن الإنسان في عقله بين حاله الآن وحاله سابقًا، وأنا هنا لا أتحدث عمّا قبل الحرب، وإنما عن بلد المغترب والبلد الأم. فـ”هناك” يُضخ الغاز الطبيعي عبر مواسير إلى المنازل. ومن المنطقي أيضًا أن يتسائل المرء: ألهذا عُدت؟
أهدئ نفسي بأن المستقبل سيكون أجمل، فنحن نعيش في بلد حرب، “وحالنا أفضل بألف مرة مقارنةً ببلادٍ شهدت حروبًا مماثلة، صحيح؟”
حصلت على بُغيتي بعد انتظار دام 3 ساعات، كنت أفكر خلالها: ألم يكن الأجدى اقتصاديًا -ونفسيًا- أن أوفّر هذه الساعات الثلاث، فأشتري أنبوبة الغاز تلك من السوق السوداء، حتى لو عنى ذلك أن أدفع 10 أضعاف ثمنها؟
وأقول (اقتصاديًا) لأن قيمة ساعة عملي تُعادل تقريبًا المبلغ الذي عليّ دفعه لقاء أنبوبة الغاز السوداء تلك. أفكر في الأمر الآن وأتحسر، ثم أتذكر أنني أضيّع أصلًا أضعاف تلك الساعات الثلاث في التفكير السلبي!
من أين تأتي الأفكار السلبية؟
تطلبت منيّ الإجابة على هذا السؤال تفكيرًا مليًّا. ثم توصلت إلى أن جميع أفكاري السلبية مصدرها شيء واحد: عدم الحصول على التقدير.
فأنا أسهر الليل باحثًا عن أفكار تستحق التدوين والنشر، أدّونها بالفعل، ثم أخلد إلى النوم. وحين أصحو: لا أجد قراءات!
أٌشير في تدويناتي إلى مدونين كُثر، فلا يذكرني أحد.
أشارك في مسابقات أدبية، فلا أفوز بأيٍ منها.
المُخجل في الأمر، أن كل نقطة ذكرتها لتويّ، مذكورة ضمن تدوينة سابقة أو حديث مع صديق. الجميع قدّم حلولًا، لكنني لم ألتزم بأي منها. إذًا، ربما أستحق ما يحدث معي.
أو.. ماذا لو كنت لا أبذل الجهد الكافي؟ يبدو ذلك سببًا منطقيًا أيضًا، فمن خلال جمع حصيلة اليوم من التدوينات، يمكن القول أنها لا تتعدى الثلاث تدوينات على منصاتٍ مختلفة، وغالبًا ما أتكاسل عن تسويقها.
تصديقًا على قولي، لنأخذ مثلًا تدوينة ، ذكرت في بدايتها أنني لا أمانع الحصول على دعم مادي، ورغم أنها لا تتجاوز الألفيّ كلمة، فقد توقعت الحصول على استجابة.
لكن جديًّا، هل تستحق مقالة مُترجمة (هي حتى ليست من بنات أفكاري!) الدعم؟ ومن 2000 كلمة فحسب؟
أعتقد أن الإجابة واضحة يا طارق.
إذًا، لما كل هذا الصراخ؟
أظنني أطالب القراء بالنظر إلى عدد الساعات التي قضيتها ما بين ترجمة النصوص والصور، وتحميلهم ضريبة عيشي في بلد منكوب (رغم أن عليّ تحملها وحدي).
بات الأمر مفهومًا الآن.
نعود لأحداث اليوم. بعد عودتي من (النصر المظفر)، جلست أمام شاشة حاسوبي أقضي الوقت في تصفح المدونات على الفهرست ريثما يحين موعد الغداء. عدد التدوينات قليل، ماذا يفعل المدونون الآن يا تُرى؟
أسرح مع هذه الفكرة لنصف ساعة، وانتبه إلى أن الغداء جاهز.
أزدرده بسرعة، آملًا في تعويض الوقت الضائع، ثم أنهض لأعاود الجلوس أمام الشاشة.
عمّا أكتب اليوم؟ اتأمل جبل علامات التبويب المفتوحة في المتصفح، وأتنقل بينها بعشوائية: تدوينات تنتظر القراءة.. تدوينات تنتظر الترجمة.. أفكار مشاريع قادمة.. صفحة التحرير في زِد.. حسابات تويتر لمؤثرين.. مسودات فارغة لرسائل بريد إلكتروني لهؤلاء.. أتشتت. ثم انتبه إلى نفاد طاقة بطارية الجهاز (والكهرباء مقطوعة)، فأغلقه.
أجلس إلى أوراقي، لديّ عدة أفكار لقصص قصيرة، لكن عقلي يعجز عن استكمالها.
طوال هذه الفترة، تمتلئ منفضة السجائر، فأفُرغها بين الحين والآخر.
هوامش ملونة
حتى مع وجود كمّ رائع من المُعجبين بما أفعله، لا زلت أشعر أنني (محتال)، نعم ربما تكون متلازمة المحتال فعلًا.
اتسائل الآن: هل أنا مهتم حقًا بالتعليقات والإعجابات؟ ما القيمة التي تُضيفها إليّ؟
أمعنت التفكير، وخرجت بالإجابة التالية: أعاني من قلّة ثقة بنفسي، اتفقنا؟ وأعيش في بلد تضيع فيه الساعات كما تضيع إبرة في كومة قشّ. لذا، حين أحارب كل ما سبق في سبيل كتابة تدوينة، فأنا أتوقع مقابلًا ما.
هل جمهور المدونة مُجبر على دفع ذلك المقابل؟ لا! قطعًا لا.
هلّا أعدت تعريف معنى (الجمهور) بالنسبة لك؟ هُم أشخاص يستمتعون بما أقدّمه.
تذكرت الآن حديث يونس عن مظلومية صنّاع المحتوى!
إذًا، هل ستتخلى عن المجال بما أنه لا يُدر ذهبًا؟ وماذا ستعمل حينها؟
لنناقش الوضع سويّة:
المهارة الوحيدة التي أمتلكها هي الكتابة، يمكنني تعلّم مهارة أخرى إنما ذاك موضوعٌ آخر.
المهارة الوحيدة التي يمكنني استغلالها في ظلّ ظروف بلدنا الحالية هي الكتابة.
المهارة الوحيدة التي يُراسلني الناس لأجلها هي الكتابة.
أستنتج مما سبق أنه لا يمكنني التخلي عن مجال الكتابة.
هناك موضوع آخر أودّ مناقشته معك: الدعم المادي.
هل أستحقه؟ الإجابة لا تحتاج لتفكير: لا.
إذًا، أنت تُطالب بما ليس من حقك؟ يبدو ذلك جليًّا.
طارق، ما هي مبادئك في الحياة؟
أتمنى لو باستطاعتي القول: أنا شخص بلا مبادئ. فهذا سيُسهل عليّ (مهمة الحياة)
(أنا شخص بلا مبادئ. فهذا سيُسهل عليّ (مهمة الحياة)) أأنتَ واثق من هذا؟ أقصد أني لا أظن أن هناك من يعيش بلا مبادئ، هناك فقط من يجهل أنه متمسك بها، أو لا يستطيع تحديدها بدقة مثلًا…
حسنًا، لستُ أزعم شيء مثل: أفهمك، أو أشعر بمثل ما تشعر؛ كل ما أستطيع أن أقوله بأن هذه الطريقة في التفكير من مثل: “ماذا يفعل المدونون الآن يا تُرى؟” أو “الجميع قدّم حلولًا، لكنني لم ألتزم بأي منها.” أو “اتأمل جبل علامات التبويب المفتوحة في المتصفح، وأتنقل بينها بعشوائية… تشتت. ثم انتبه إلى نفاد طاقة بطارية الجهاز” و غيرها من العبارات الدقيقة التي كتبتها.. أقول هي بالفعل موجودة في رؤوسنا، هناك مشكلة وحيدة فقط برأيي: نحنُ نبحث عن الكمال، بطريقة أو بأخرى، سرًا من أنفسنا و علانية لها، نحنُ لا نثق بأنفسنا لأننا لدينا حيثيات نريد أن نصل إليها، و نحنُ نعرف أن امكانياتنا لا تستطيع الوصول إليها، نحن ندور في حلقة مفرغة و نصيح كما دجاج “لا بأس إن تحملتُ هذا التشبيه وحدي، أستطيع تقبله بسخرية مسرورة”، و لكنها الحقيقة، ألا توافقني يا أستاذ؟
لو نظرتَ من منظار آخرين لتدويناتك اليومية، لوجدت أن أغلب حالاتك النفسية العالية هي بسبب اعترافك اليائس بأنك حقًا جيد، و لكنَّك تأبى التصديق، أو على الأقل الظروف المحيطة بك لا تعين على التصديق… لقد وقعت بالفعل: لا أظنني قادرًا على رؤية الجانب المشرق منيّ.
أعتذر لهذا التعليق، و لكن اعتبره لكل التدوينات السابقة، لم أكن أعرف كيف أصيغ هذا، و حتى الآن لستُ راضية عن هذه الصيغة و لكنها يجب أن تصل إليك؛ لماذا كل هذا التتبع لأخطائنا في حين أننا (و بكل صراحة) لا نفعل شيئًا لإصلاحها “لم ألتزم بأي منها.”؟ لماذا ننصِّب أنفسنا ضحايا لأنفسنا و نحنُ أصلًا غير محددين لجريمتنا “ربما أستحق ما يحدث معي.”؟
نحتاج كيس بَرَد نسكبه على دواخلنا الهائجة المائجة، ما بدمائنا شطَّة و ليس دم؛ تحياتي.