ستسمع خبراء رفع الأداء ينصحونك “ركّز. وحاول التخلّص من المُشتتات. التزم بشيء واحد وستغدو عظيمًا فيه“. نصيحة ممتازة بلا شكّ؛ فكلما درست الأشخاص الناجحين من جميع مناحي الحياة -الفنانين والرياضيين ورجال الأعمال والعلماء- زاد إيماني بحتمية التركيز لمن أراد النجاح.
ومع ذلك، ثمّة مشكلة في النصيحة!
إذ كيف تعرف، من بين الخيارات الكثيرة التي أمامك، أين يجب أن تضع تركيزك؟ كيف تحدد أين توجه طاقتك واهتمامك؟ كيف تجد الشيء الوحيد الذي يجب أن تلتزم بفعله؟
هذا مع افتراضي أنك قرأت تدويناتي:
- كيف ننقذ فترة الانتباه “Attention Span” من وحش المُشتتات؟ 🧟
- كيف أحدد المشروع الناجح 🌃 (من بين ملايين الأفكار في رأسي)؟
- مُشتت بين مشاريعك الكثيرة وأفكارك اللامعة؟ أنا كذلك 😅
- ماذا يسرق هاتفك الذكي منك.. عدا إنتاجيتك طبعًا؟
على العموم، لا أدّعي أنني أمتلك كل الإجابات، ولكن اسمح لي بمشاركتك ما تعلمته من تدوينة جيمس كلير الشهير.
“حتى تجري الرياح بما تشتهيه سُفننا …”
كمعظم رواد الأعمال، كافحت خلال عام مشروعي الأول.
أطلقت منتجي الأول دون معرفة لمن سأبيعه (للعلم: لم يشتره أحد!) تواصلت مع أشخاص مهمين، ورفعت توقعاتي، بل وارتكبت أخطاء غبية، وأفسدت فرصة بناء علاقات جيدة مع أشخاص أحترمهم. حاولت تعليم نفسي كيفية البرمجة، ونتيجة عزمي إجراء تغيير واحد على موقعي الالكتروني، حذفت كل ما كتبت خلال الأشهر الثلاثة الماضية!
ببساطة، لم أكن أفقه ما أفعله.
خلال عامي الزاخر بالأخطاء تلقيت نصيحة جيدة: “جرّب حتى يتأتي شيء ما بسهولة”. وقد أخذت بالنصيحة فاختبرت 4-5 أفكار على مدار الـ 18 شهرًا التالية. منحت كل منها فرصة شهرين أو ثلاث، حيث مزجتها ببعض العمل المستقل بغية الاستمرار في تدبّر أموري ودفع فواتيري، وكررت العملية.
وفي نهاية المطاف، وجدت “شيئًا سلسًا” وتمكنت من التركيز على بناء مشروع واحد عوض محاولة العثور على فكرة.
هذا أول ما اكتشفته عن معرفة عمّا أركز. إن أردت إتقان أساسيات عمل ما وفهمها بعمق، فعليك -للمفارقة- البدء بتجربة العديد من الأشياء المختلفة، حتى تصل للسهل الممتنع وتنجح فيه. إذ من الأسهل دائمًا التركيز على شيء ناجع عوض المعاناة مع فكرة سيئة.
قرّر ما يجب التركيز عليه
بافتراض أنك مستعد لتجربة واختبار بعض الأشياء، يغدو السؤال التالي:
“كيف أعرف الأشياء اليسيرة بالنسبة ليّ؟“
وأفضل إجابة يمكنني تقديمها هي منح الانتباه. ما يعني -عادةً- قياس شيء ما.
- فإذا كنت رائد أعمال، فضع تركيزك على قياس مجهوداتك التسويقية.
- إذا كنت تحاول الاستمتاع بجسد متناسق، فراقب تدريباتك.
- إن رغبت بتعلم آلة موسيقية، فأهتم بجلساتك التدريبية.
رغم ذلك، حتى مع قياس الأشياء، ستصل نقطة تستوجب قرارًا فيما تركز عليه.
في رأيي، تشكّل لحظة اتخاذ القرار هذه منعطفًا محوريًا في ريادة الأعمال. الاستمرار في اختبار أشياء جديدة أم التركيز على استراتيجية معينة؟ هل نحاول الابتكار أم نلتزم بفعل شيء ما بإتقان؟
يودّ الجميع معرفة الوقت المناسب للتركيز على شيء محدد، ولكننا في الغالب نكتفي بالرغبة دون فعل. وهذا ما يجعل النجاح صعبًا.
لا تشبه ريادة الأعمال صناعة الكعك: لا توجد وصفة أو دليل إرشادي.
في هذه المرحلة، أفضل خيار لك هو أن تقرر. لا يمكنك تجربة كل شيء. في مرحلة ما، لا تحتاج إلى مزيد من المعلومات، كل ما عليك فعله هو الاختيار.
عبء العمل
وصلنا الآن المرحلة التي يصبح فيها اكتشاف ما يجب التركيز عليه ممكنًا.
فها قد جربت أفكار كفاية لاكتشاف خيار أو اثنين يقدمان نتائج جيدة. وتغلبت على عقدة رغبتك باكتساب معرفة أكبر وخوفك من الالتزام بشيء ما، والآن؟ اخترت مجالك، وحان وقت العمل. فهل أنت جاهز؟
مرحبا بكم في المطحنة!
لقد حان الوقت لتحمّل عبء العمل. لا لمرة أو مرتين فحسب. ولا بحسب المزاح، أو فقط عندما يكون الأمر سهلًا. وإنما عبر بذل جهد ثابت ومتكرر. عليك أن تقع في حب الملل.
وبفضل هذا العدد الهائل من التكرارات، ستفهم أساسيات مهمتك. ربما كنت تعرف شكل العظمة قبل هذه النقطة، لكنك لن تفهم كيفية تحقيق العظمة حتى تتبنى المهمة بكل جوارحك. وعلى حد تعبير كاتب السيناريو إيرا جلاس Ira Glass::
“أن يتحسّن ذوقك بما يكفي لتصل حدّ معرفة أن ما تصنعه سيشكّل خيبة الأمل -نوعًا ما- بالنسبة لك”
وكنا قد تحدثنا عن سدّ الفجوة بين ما تعتبره جيدًا وما يمكنك إنتاجه بنفسك في تدوينة سابقة.
وهذا ينطبق على العديد من مجالات الحياة:
- تريد أن تصبح طباخًا عظيمًا؟ كم عدد الوجبات السيئة التي تعتقد أنك بحاجة إلى إعدادها قبل أن تتمكن من إعداد “عشاء بسيط ولكن لذيذ” متى شئت؟ أود تخمين: مئات الوجبات على الأقل. لا أعرف أشخاص كثر يجيدون الطهي بعد إعداد وجبتهم العاشرة مثلًا!
- هل تريد أن تؤلّف كتابًا مذهلًا؟ سيكون عليك أن تكتب وتكتب وتكتب المزيد. تحتاج إلى كتابة مئات آلاف -وربما ملايين- الكلمات للعثور على صوتك. ثم تحتاج إلى تعديل هذه النصوص واختصارها إلى أقوى صيغة ممكنة.
إن إتقان الأساسيات غالبًا ما يكون أصعب وأطول رحلة على الإطلاق.