في مرحلة ما، استسلمت أستاذة علم النفس واللغويات في جامعة ميشيغان، جولي بولاند “Julie Boland” لصمت محرِج.
ككثيرين منا، قضت أوقاتًا مديدة -وعلى مدار سنوات- في مكالمات (زوم Zoom)، حيث توجّب عليها التعامل مع تأخر الإنترنت وتخبّط الناس بين كتم صوت الميكروفون وإلغاء كتمه. ولاحظَت كيف نرتبك -فلا نعرف دور مَن- حيثما ظهرت مُهلة Pause أثناء الحديث.
لحُسن الحظ، تعرف (بولاند) لمَ تُسبب هذه (الوقفات) ارتباكًا:
لتعطيلها دفقات النداء والتجاوب “Call&Response” الذي يُظهره الناس -عادةً- بفطرتهم. إذ تجعلنا لحظة انكسار الإيقاع متأهبين، كما عندما يفقد أحدهم إيقاعًا في أداء كاريوكي Karaoke.

وُجد الصمت المُحرِج منذ الأزل
ولكن من نواحٍ عديدة، يصعب تجنبه اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ نحن نتفاعل مع كل من الغرباء والمعارف -الذين ربما جمعتنا معهم ذكريات حمقاء- بمعدل غير مسبوق قبل الهجرة الريفية الحضرية وتيسّر السفر.
وتشير أبحاث (بولاند) إلى توليد تقنيات الاتصال الحديثة -مثل “زوم”- محادثات متعسّرة. لتبدو مهاراتنا الاجتماعية ضامرة عقب تجاوزنا الجائحة.
صحيحٌ أن الصمت المُحرِج جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، لكننا نتمنى حقًا لو نتجاوزه.
ولذا، نجد عشرات الكتب 📕 والشروحات المصورة 📺 والتدوينات 📰 عن كيفية استمرار تدفق المحادثة دون انقطاع في الحفلات أو الاجتماعات أو في المواعيد الغرامية الأولى.
والآن، إذا عجزنا عن تجنّب هذه الوقفات، فربما نتعلم كيف نتعايش معها؛ وقد نجد أنها تمنحنا مساحة لنكون أوعى بما نقوله بعدها.

للخوف من تقطّعات المحادثة تاريخ طويل
اشتكى المسرحي البلجيكي موريس ماترلينك “Maurice Maeterlinck” في عام 1896 من أن “صمت الكثيرين … يُرهب أقوى الأرواح”. حتى أننا نجد صحيفة -في أواسط القرن المنصرم- تنتقد هدوء المصاعد المزدحمة، داعيةً إلى “ترفيه مناسب عبر نظام اتصال المصاعد الداخلي كإلقاء خطاب في كل رحلة”
لعقود، خشي الناس أن مشكلة الصمت المُحرِج تتجاوز -بطريقة ما- عدم الارتياح، بل تحمل مؤشرًا خطيرًا.
في عام 1978، زَعم كاتب في بالتيمور إيفنينغ صَن (Baltimore’s Evening Sun) أن توقفات الحديث أثناء العشاء تطول في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وهو نمط قد يمثل انهيارًا دائمًا للخطاب البشري. يقول:
“بعد ثلاثة ملايين سنة، بدأ رصيد البشرية مما يمكن الحديث عنه أثناء تناول الطعام ينفد!”
للإنصاف، بعض الاستياء من صمت منتصف المحادثة أمرٌ فطري. فعادة ما نُتقن مزامنة أوقات تفاعلنا مع أوقات الطرف الآخر؛ أثبت بعض الباحثين أن أدمغتنا تُحرر عصبونات الخلايا العصبية بمعدل متزامن مع كلام الشخص الآخر.
لكن أحيانًا نفقد ذاك التزامن، فإذا استمر فقدانه لفترة، فسنبدأ بالتوتر.
في إحدى الدراسات، حاولت باحثة قياس ما أسمته “مستوى الصمت الأقصى Standard maximum silence“، أي أطول فترة هدوء يمكن للشخص تحملها قبل تولّد الرغبة بقول شيء ما. بالنسبة لمعظم المشاركين، كانت ثانية واحدة فقط!
قد تنبع كراهية الصمت المُحرِج أيضًا من التفكير الزائد فيه، والتساؤل حول تدليله عن بعض الاستياء أو عدم اهتمام المستمع.
- توصلت دراسة إلى قدرة المحادثات السلسة، تلك الخالية من السكَتات وكلمات الحشو، على تعزيز تقدير الناس لذاتهم وشعورهم بالانتماء، مما يخلق شعورًا بالانسجام الجماعي.
- في حين تميل المحادثات المفككة، في ذات الوقت، إلى إشعار الناس بالرفض.

في دراسة أجريت عام 2013، استمع المشاركون إلى تسجيلات شخص يطلب مساعدة من صديقه في مهمة صغيرة.
🟢 وجد الباحثون أن ردّ الصديق في غضون 500 مللي ثانية -من منظور عينة البحث- دليلٌ على استعداده للمساعدة. 🤝
🔴 المفاجأة كانت عند تأخره (+200 مللي ثانية إضافية) : سيُرى أن موافقته جاءت .. على مضض؛ حتى إن لم يصرّح. 🙄
لا تتدفق معظم المحادثات بسلاسة!
تلغي الدردشة المرئية، بحسب دراسة حديثة أجرتها (بولاند)، إيقاعات المحادثة لدينا؛ مما يشوّش رؤيتنا لأدوار التحدث ويؤدي إلى توقفات متكررة وممتدة. ومع شيوع الاتصال عبر الفيديو في العمل والحياة الاجتماعية، فالأرجح أن نواجه المزيد من لحظات الصمت المُحرِج هذه أكثر فأكثر.
لا يوجد سَكتة محرجة بطبيعتها. إذ نستشفّ الإحراج من الموقف، وعادةً ما يعتمد على السياق. فقد يكون الصمت أثناء تأمل غروب الشمس أخف وطأة مما لو كنّا على مائدة عشاء، في حين أن سَكتة مع صديق جديد أكثر “تعذيبًا” منها مع صديق قديم.
على الجانب الآخر، لا يُشترط بالمحادثات الخالية من السَكتات أن تكون أفضل؛ تتطلب بعض الحوارات وقتًا للتفكير والاستيعاب. وإن تملكك الخوف من كسر رتم الحديث، فقد يضيع منك معناه بالكليّة!
تضرب بولاند مثالًا، فتقول:
منذ سنوات، عملت مع شخص طالت سَكتاته بشكل غير عادي قبل الإجابة على أي سؤال. وفي البداية، ظننته لا يعرف ماذا يقول.
لكنني لاحظت كيف منحني -كل مرة- إجابة شديدة الوضوح وسهلة الفهم.
كان الأمر محرجًا في البداية، لكن الحَرج زال في النهاية.
تتساءل بولاند عما إذا كان يحبذّ بنا أخذ وقتنا قبل الإجابة؛ ربما يقيّم الطرف الآخر الحجج بعقلانية أكبر، عوض الاكتفاء بالموافقة أو الاختلاف بتلقائية. وقد يطرح -في المواعيد العاطفية- أسئلة تُضيء جوانب أخرى من شخصية المحبوب، بدلاً من الارتكان للاسئلة البديهية!

في سياقات معينة، باتت فوائد الصمت واضحة بالفعل
بدأت المنشورات الطبية تنصح الأطباء بالتوقف أثناء الاستشارات، حتى تتسنى لدى المرضى فرصة تجميع ومشاركة أفكارهم. وجد خبراء الأعمال أيضًا أن الصمت في الاجتماعات يمنحنا فرصة للتفكير ومشاركة الأفكار الجديدة، مما يؤدي لظهور وجهات نظر متنوعة.
حتى لو كان من الصعب أن نحبّ لحظات الصمت المُحرِج تلك، فربما بمقدورنا تدريب أنفسنا على الجلوس مع بعض الانزعاج؛ نظرًا لأن الحياة العصرية مليئة بالصمت المُحرِج، فقد نحتاج إلى ذلك.
وعلى أي حال ، لم يكن التفاعل الاجتماعي سهلاً على الإطلاق: فنحن كائنات منفصلة ومعقدة، غير قادرين على قراءة أفكار بعضنا البعض أو ترجمة أفكارنا بشكل مثالي إلى كلمات. وهذا -تحديدًا- ما يجعل إيجاد طرائق للوصول إلى شخص ما.. أكثر إثارة، فلا بأس ببعض الثِقل ثمنًا لتلك الإثارة.