حين كان جالسًا قبالة شاطئ قرية صيد صغيرة، رأى رجل أعمال صيادًا يقترب من الشاطئ بحمله اليومي. أثارت جودة الأسماك إعجاب رجل الأعمال، فسأل الصياد عن المدة التي قضاها في البحر.
أجاب الصياد: “فترة قصيرة فحسب“. فسأله رجل الأعمال “ولما لا تبقى لفترة أطول وتصيد أسماكًا أكثر؟“
ولمّا كانت إجابة الصياد “لأن هذا كل ما أحتاجه“، ازداد فضول رجل الأعمال حيال كيفية قضاء الصيّاد وقته. والتي فصّلها الصياد على النحو التالي: “أنام حتى وقت متأخر، وألاعب أطفالي -بُعيد صحوي- ثم أخرج للصيد. و أقيّل (=أخذ قيلولة) مع زوجتي حين أعود، ثم انضم إلى رفاقي في المدينة -مساءً- لمعاقرة الخمر والعزف على الجيتار“.
صُدم رجل الأعمال، وقرر مساعدة الصيّاد في تنمية أعماله. لذا أسدى إليه نصيحة “إذا اشتريت قاربًا أكبر، فستتمكن من صيد أسماكِ أكثر، ومن ثمّ استثمار العائدات في فتح مصنع تعليب“
سأله الصياد “وبعدها؟” أجاب رجل الأعمال “تنتقل إلى المدينة، وتنشئ مركز توزيع Distribution center“.
التقط أنفاسه، وتابع وعيناه تلتمعان: “بعدها، يمكنك توسيع نطاق عملك على المستوى الدولي، وفي النهاية تطرح شركتك للاكتتاب العام. وعندما تحيّن الفرصة المناسبة، يمكنك بيع أسهمك لتصبح فاحش الثراء1“
سأل الصياد مبتسمًا “ثم ماذا سيحدث؟”. فأجابه رجل الأعمال ببساطة: “حسنًا، يمكنك بعد ذلك التقاعد، والانتقال إلى قرية صغيرة،حيث تنام لوقتٍ متأخر، وتلاعب أطفالك حتى موعد خروجك للصيد. وحين تعود، تأخذ قيلولة مع زوجتك، ومع حلول المساء تنضم لرفاقك في حانةٍ ما وتعزف لهم على الجيتار”
أحب هذه الأمثولة (؟). والمُقتبسة عن قصة قصيرة ألمانية نُشرت عام 1963ـ ومنذ ذلك الحين تُرجمت وشاركها الآلاف (كما فعلت صحيفة جسر هنا).
صادفتها -أول مرة- في منشور على فيسبوك. ولكن التعليق الأول تحت المنشور هو ما علق في ذهني منذ ذلك الحين. “لا نُبل في حياة السعي خلف المعيشة. حياته الشاعرية رائعة حتى يمرض، أو تتكاثر الطحالب القاتلة للأسماك، أو يُثقب قاربه. يحتاج إلى رأس مال استثماري احتياطي لمواجهة ما يُخفيه القدر”.
حينها، أشحت نظري عن الشاشة، فأنا أعرف هذا النوع من الأشخاص. هو ذاك الذي يرفع يده في الفصل لأنه “يختلف مع فرضية السؤال”.
في ذات الوقت، لا أنكر أن لديه وجهة نظر. يمثل التعارض بين الصياد وتعليق ذاك الشخص أحد أهم الأسئلة التي نواجهها: كيف نوازن بين المعيشة الكريمة والحياة الهادفة؟
عمّا ستتحدث التدوينة؟
ما الدور الذي يجب أن يلعبه العمل في حياتنا؟
قبل خوضنا في المسألة، ثمّة تحفظَين:
- لا يمكنني الإجابة عن السؤال عوضًا عنك. أنت من يحدد شكل علاقتك بالعمل. ورغم أن تحديد مهام وعدد ساعات العمل امتياز لا يتمتع به الجميع، لكننا -بالمقابل- قادرون على تكوين منظور حول دور العمل في الحياة. فما لم تؤطر عملك (=تحقق التوازن بين العمل والحياة الشخصية2)، سيتسرب بسهولة كالغاز إلى جميع أوقات فراغك.
- الدور الذي يلعبه العمل في حياتنا ليس ثابتًا، ولا يجب أن يكون كذلك. نكتشف- عبر صراعنا مع بيئة العمل- ما نهتم لأجله فعلًا، وإلى أي حدّ قد تتعارض وظائفنا مع قيمنا3 أو علاقاتنا أو ما نعتز به. ستمرّ أوقات نمنح فيها الأولوية للعمل وأخرى للحياة الشخصية. لذا، تجدني متخوفًا من أي نصيحة عمومية وحذرًا حيال تمجيد “التوازن بين العمل والحياة”، كما لو أن هناك حالة “أسطورية “خرافية” يجب أن نتطلع إليها جميعًا!
ذاك ما دعاني لقضاء السنوات الثلاث الماضية في تأليف كتاب عن كيف سيطر العمل على حياتنا وكيف نستعيد حياتنا من براثنه.
لماذا ألّفت كتابًا عن علاقتنا “المَرضيّة/المُرضية” بالعمل؟
بدأت وفي ذهني تبنيّ فلسفة الصياد، دعمًا لحياة أبسط وأقل تركيزًا على العمل. إذ لاحظت كيف أصبح العمل محوريًا في حياتي وحياة زملائي وثقافة بلدنا. وبدا اختلال توازننا ظاهرًا للعيان؛ كنا نقدّس الرؤساء التنفيذيين المشاهير، وتحتلّ ملصقات “اعمل بما تحب” جدران مساحات العمل المشتركة لدينا. يمكن القول أننا تعاملنا مع الوظائف كما لو كانت هويات دينية! ونتيجةً لذلك، على حد تعبير الطبيبة النفسانية إستر بيريل Esther Perel:
على العموم، تحوّل حماسي المجنون، على مدار فترة إعداد التقارير والتأليف، إلى شعور أكثر اعتدالًا. (جدير بالذكر أنني بدأت التأليف قبل الجائحة، وقبل موجة التسريح والاستقالات، وقبل كل الحركات المناهضة للعمل بعد ذلك؛ الاستقالة الصامتة Quiet Quitting مثلًا)
من سمات الاستقالة الصامتة (Quiet Quitting)
— نظام العمل السعودي (@abcd13200) October 21, 2022
1.موظف لا يتجاوز المهام المطلوبة.
2. عدم التجاوب خارج العمل نهائيًا.
3. الوصول للعمل متأخراً أو المغادرة مبكراً
4. عدم المساهمة مع الفريق.
لا تعني الاستقالة الصامتة ترك الموظف عمله، بل القيام بالمهام بالحد الأدنى ووضع حدود واضحة للأداء
ما زلت أرى ضرورة أن يتمحور عملنا حول حياتنا لا العكس. لكن -في الوقت نفسه- لن تفيدنا وجهة النظر القائلة “العمل شرّ مستطير“.
بديهي أننا (نعمل) أكثر مما نفعل أي شيء آخر؛ أكثر مما نأكل، أو نرى عائلاتنا/أصدقائنا. إذًا، لا بدّ من قضاء تلك الساعات بحكمة. فهل سيؤدي تأطير العمل باعتباره (شرًا لا بد منه) إلى الإنجاز؟ ليس بالضرورة! لهذا، فجزء من نقدي لمناهضة العمل والرأسمالية مصدره عدم وجود بدائل عملية كثيرة؛ لا نزال جميعًا مُلزمين بدفع الإيجار!
بالتأكيد، تُظهر تطبيقات الدخل الأساسي الشامل “UBI” والبلدان ذات شبكات الأمان الاجتماعي قوية كيف يمكن تقليل عواقب عدم العمل لحدٍ كبير. لكن جميعنا يعلم أن أغلبنا سيظل يعمل جُلّ حياته!
إذًا، لا يهمّ ما إذا كنت مؤيدًا أو معارضًا للعمل، ففي النهاية أنت تريد ملاءمة العمل مع رؤيتك للحياة الهادفة.
ما رأي العلم حيال الموازنة بين المال ومعنى الحياة
ربما عجزت عن إخبارك كيف يجب أن تنظر للعمل، لكن يمكنني -على الأقل- مشاركتك بعض الأبحاث التي ساعدتني في تحديد مكانته ضمن حياتي. فيما يلي (3) مبادئ ربما تساعدك على تقييم علاقتك بما تفعله لكسب لقمة العيش:
1] العثور على حافز داخلك مُرضٍ أكثر من الحوافز الخارجية
في إحدى أشهر تجارب علم النفس على التحفيز؛ تناولت تأثير “التبرير المفرط Overjustification”، لاحظ الباحثون كيف يقضي أطفال في حضانة محلية أوقات فراغهم4. بعد حصر الذين اختاروا الرسم كنشاط وقت فراغهم، وزّعوا الفنانين الشباب ضمن مجموعاتٍ ثلاث:
- وعد الباحثون رسّامي المجموعة الأولى بجائزة “الرسّام الموهوب”؛ شهادة موسومة بنجمة ذهبية وشريط أحمر واسم الطالب.
- لم تُعرض تلك الجائزة على المجموعة الثانية، ولكن إذا رسم أحد طلابها من تلقاء نفسه، فإنه يُمنح الجائزة.
- وأخيرًا، لم تُعرض تلك الجائزة على أفراد المجموعة الثالثة، ولم تُمنح لأحدٍ منهم.
مرّ أسبوعين على التجربة، فعاد الباحثون إلى الفصل لمراقبة الطلاب مرة أخرى. رسم طلّاب المجموعتين الثانية والثالثة -بعد التجربة- بذات القدر الذي رسموه قبلها. في حين أمضى طلاب المجموعة الأولى -الذين توقعوا الحصول على جائزة بعد الرسم- وقتًا أقل في الرسم مما كانوا عليه قبل التجربة!
لم يكن وجود الجائزة سبب قلّة اهتمام الطلاب بالرسم وإنما (الأمل بالحصول عليها).
خلص الباحثون إلى أن الرضا الداخلي من نشاط ما قد ينخفض عندما يلوح الوعد بمكافأة خارجية في الأفق (أسفر تكرار التجربة منذ ذلك الحين عدة مرات مع مجموعات متباينة من أطفال وبالغين عن نتائج مماثلة).
انعكاسات هذه التجربة على الصعيد المهني واضحة ومباشرة: العمل في سبيل إقرار الآخرين أو إثارة إعجابهم، كمن يسعى خلف الراتب المرتفع أو المسمى الوظيفي الرائع أو نسخة البالغين من “جائزة … الموهوب”، هو طريق أقل استدامة من السعي خلف عمل تستمتع به. أثبتت التجربة شيئًا نعرفه ببديهيتنا: نادرًا ما يجلب العمل الهادف للمكافآت الخارجية وحدها إشباعًا دائمًا.
وكما يقول المثل الإنجليزي القديم،
2] سرّ الحياة الثريّة: تثميّن الوقت لا المال
في منتصف السبعينيات، كان العامل العادي -سواء أكان أمريكيًا أو ألمانيًا أو فرنسيًا- يعمل لذات عدد الساعات في السنة.
وفي حين انخفض متوسط ساعات العمل -في الدول النامية- بفضل التقدم التكنولوجي وتنظيم العمالة وزيادة الثروة، كان متوسط ساعات العمل في الولايات المتحدة الأمريكية ثابتًا! بل وبدأ بعض العمال الأمريكيين، وخاصة حملة الشهادات الجامعية، في العمل أكثر من أي وقت مضى.
ما حدث أنه: بدلاً من التخليّ عن الثروة لصالح وقت فراغ أكثر، كما كان متعارفًا عليه على مدار التاريخ، بدأت النُخب الأمريكية في مقايضة وقت فراغهم بمزيد من العمل.
ربما تقودك زيادة ثروتك لتحصيل سعادة أكبر (إلى حد ما). ولكن أثبتت الأبحاث أنه، ومجرد تلبية احتياجاتنا الأساسية، تصبح الأولوية للوقت لا للثروة.
عندما تتأمل دور العمل في حياتك -خاصةً إذا كنت ميسورًا- فعليك أن تثق بكون تقدير (المزيد من وقت الفراغ) مقابل (المزيد من المال) سيؤدي إلى قرارات مهنية أكثر إرضاءً ورفاهية عامة أعلى.
3] الاكتفاء أكثر إرضاءً من التعظيم
تخيل أنك بصدد شراء سترة. ثم وجدت واحدة تناسبك تمامًا (وعلى كافة المقاييس). إذا كنت ما يسميه علماء الاجتماع “المعظِّم Maximizer: الشخص دائم السعي للنتيجة المثلى لأي جهد“، فقد تطلب من الموظف الاحتفاظ بالسترة ريثما تتأكد من عدم وجود سترة أفضل في المتاجر الأخرى. على الطرف الآخر، إذا كنت “اكتفائيًا” –يمزج الاكتفاء بين الرضا والقناعة– فالأرجح أن تحمل السترة وتمضي قدمًا في يومك.
يحدد الاكتفائيون معاييرهم، ويتوقفون عن البحث بمجرد أن يجدوا شيئًا يلبي الأخيرة. في حين أن المعظِّمين يريدون التأكد من أن كل قرار هو أفضل قرار يمكنهم اتخاذه. على حد تعبير عالمة النفس لوري جوتليب Lori Gottlieb،
في حين أن لكل نهج مزايا وعيوب، تُشير الأبحاث إلى ميل الاكتفائيين لأن يكونوا أكثر سعادة. حتى إذا استنفد المُعظِّم جميع الخيارات الأخرى وعاد إلى المتجر لشراء السترة الأصلية، ففي الغالب سيكون أقل رضا ممّن اشترى السترة مباشرةً.
على الصعيد المهني، يؤمن الكثيرون بأن هناك وظيفة أحلام واحدة ولا ينبغي لنا الاستقرار حتى نجدها؛ فنعدّل سيرنا الذاتية -ونقضي ساعاتٍ في البحث ضمن لينكدإن- آملين أن نُحقق ذواتنا ضمن (المنصب الحُلم). لكن ماذا لو كان نهج الاكتفائيين، حيث نحدد المهم ونعيّ أنه لدينا بالفعل، وصفة أفضل للسعادة؟
العمل الكافي – The Good Enough Job
هكذا عنّونت كتابي -عن علاقتنا “المَرضيّة/المُرضية” بالعمل كإشارة إلى أسلوب الاكتفائيين في البحث عن عمل. بالمقارنة مع الوظيفة المثالية أو التي تحلم بها، فإن “الجيد كفاية” هو مفهوم أكثر تسامحًا. فهو لا يشطح بمثاليات حول العمل ولا يرضى بأن يكون الأخير شاقًا حدّ التهكلة. وإنما هو دعوة لاختيار ما يعنيه الاكتفاء بالنسبة لك؛ ربما يكون وظيفة تدفع أجرًا معينًا، أو تبدأ في ساعة معينة، أو تمنحك الوقت والطاقة لفعل ما تحب عندما تتفرّغ.
مهما كان تعريفك لـ “العمل الكافي”، آمل أن تتعرف عليه عندما تجده. قد يعتقد الصياد أنك تعمل كثيرًا. ويراك “صاحب التعليق إيّاه” عديم المسؤولية. لكن رأيهم في العمل لا يهم بقدر رأيك أنت.
المصدر: How to Balance Meaning and Money
لم أرغب بمقاطعة استرسالك، لذا أجلّت مشاركتك بعض التدوينات التي ستُعجبك:
- رحلتي من الإفلاس إلى الثراء (مترجمة)
- جاستن روزنشتاين: هذا مفهومي عن التوازن بين الحياة والعمل
- ما القيم التي تستحق أن نحيا وفقها هذا العام؟
- لما يحتاج كل مستقل إلى هواية؟