ذاك سؤال يطرحه الجميع، فالكارثة واضحة: فترة الانتباه -في العالم أجمع- تتناقص حقًا!
ففي عام 2004، كنّا نقضي -وسطيًا- 150 ثانية ضمن إحدى ألسنة التبويب قبل الانتقال إلى أخرى. انخفض المعدّل -في عام 2012- إلى 75 ثانية. في حين تُظهر الدراسات بين 2016 و 2021 أن المعدّل يتراوح بين 44 إلى 50 ثانية فحسب.
وتذكرّ: هذا متوسط average، أي أنّ فترة الانتباه لدى بعضنا أقصر من ذلك حتى.
نعم، أعلم كيف أفسدتنا الحياة الرقمية الحديثة أكثر مما كنا نتوقع، وبدأ شعور العجز يتسلل إلينا شيئًا فشيئًا.
وبعد نشري رؤى شخصية حول الموضوع، ارتأيت البحث عن [إجابة احترافية]، ووجدتها في كتاب: “فترة الانتباه: طريقة رائدة لاستعادة التوازن والسعادة والإنتاجية“ لأستاذة المعلوماتية في جامعة كاليفورنيا، د. جلوريا مارك.
محاور الكتاب
لا يمكنك الاحتفاظ بتركيزك 24/7 ?
همسة في أُذن مَن يرغب بامتلاك تركيز لا محدود: أنت لست (برادلي كوبر) في فيلم Limitless!
فرغم كل الحكايات “الخرافية” التي يُقرّها الجميع، أؤكد لك: لا يمكنك التحوّل لعقل كوني.
دماغك لا يعمل بهذا الطريقة (على الأقل في كوننا الحالي).
التركيز لفترات طويلة -دون استراحات- ليس بالأمر الطبيعي. لفترة انتباهنا إيقاعات؛ تنحسر وتتدفق، وستسبب لك حدّة التركيز -طول الوقت- إجهادًا (سُرعان ما يتحول إلى سلوكيات سيئة).
فما العمل إذًا؟
قبل أي شيء، نمّ جيدًا. دماغك مثل هاتفك: أكثر موثوقية إن شُحنت بطاريته طوال الليل. وبحسب تعبير (غلوريا) في كتابها:
وهذا يعني -بالضرورة- أخذ استراحات خلال النهار؛ تحتاجها لتفعيل وضعية (إعادة ضبط المصنع) لعقلك واستعادة قدرات ذاكرتك.
ذاك واضح. ولكن ما الذي ننساه -عادة- عند محاولة تحسين فترات انتباهنا؟
الحالة المزاجية مهمة ?♂️
عند تضع أهدافك، لا تفكر فحسب فيما تسعى لتحقيقه، بل -أيضًا- بالشعور المنشود.
تساهم المشاعر الإيجابية في تعافينا من ضغوط مواصلة التركيز. أما المشاعر السلبية، حسنًا، فأثرها سلبي! لذا، كلما زاد استنزافك، زاد شعورك سوءًا؛ زميل عمل مزعج + تركيز مستمر = انهيار أكبر ??.
ما “أشيع وأشنع” ضغوطات العمل؟
أظنك خمّنته: البريد الإلكتروني. إنه يرفع ضغط دمك أعلى من أذني زرافة.
أجرت جلوريا دراسة على شركة استغنت عن البريد الإلكتروني لمدة 5 أيام. والنتيجة؟ زيادة الإنتاجية وبالمثل فترة الانتباه وانخفاض معدّل التوتر، إضافة لزيادة التواصل وجهًا لوجه، الذي انعكس إيجابًا على الحالة المزاجية للموظفين.
على الجانب الآخر، توصلت جلوريا إلى أن وقت البريد الإلكتروني هو وقت “مركّز?”؛ أنت تهدر تلك الطاقة الذهنية العالية في تفقد بريدك الإلكتروني عوض استغلالها في العمل الحقيقي!
هل يكمن الحل في “التجميع Batching”؟ سبق ومررت بتدوينة توصي بـ “التجميع”؛ تفقد البريد الإلكتروني فقط خلال الأوقات المحددة وليس على مدار اليوم. لكن ترى جلوريا أن التجميع لا يقلل من التوتر ولا يزيد الإنتاجية. (في الواقع، تسبب التجميع في جعل الأشخاص العصابيين أكثر توترًا) تقرّ غلوريا بأنه قد يحمل منافع أخرى (مثل تقليل المقاطعات Interruptions) ولكنه ليس الدواء الشافي بالتأكيد.
كيف نتعامل مع الأمر إذًا؟
الأمر بسيط: أرسل أقل، فتتلقى رسائل أقل. يُشبه البريد الإلكتروني “دفعة توتر” ترسلها لأحدهم، وعادة ما يردّها إليك مباشرةً.
تبزغ مشكلة أخرى -متعلقة بالحالة المزاجية- عندما نحمل ضغوط العمل معنا إلى المنزل. أظهرت الأبحاث أنه في ظل وجود مهام غير مُنجزة، تميل عقولنا لإدامة التفكير فيها مطوّلًا بعد مغادرتنا بيئة العمل. تحمل تلك الظاهرة اسم تأثير زيجارنيك (Zeigarnik Effect).
الحل بسيط: كتابة قائمة بالمهام التي لا تزال بحاجة لإتمام قبل مغادرة بيئة العمل. انقل (غمامة التشويش) من المهام غير المكتملة داخل رأسك إلى الورق؛ لئلّا تدفعك إلى الجنون، لهذا تأثيرات ملموسة:
ربما تشعر أن قراءة التدوينة أكثر إثارة للتوتر من البريد الإلكتروني. لكنني أحمل لك بعض الأنباء السارة.
سيعيد التكاسل شحن طاقتك ??
إذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي هي الشيطان الأكبر، فلماذا نمضي وقتنا عليها كثيرًا؟ هناك سبب علمي: يكون عقلك أسعد عند القيام بأنشطة خفيفة وسهلة وجذابة: تُشعرنا الأنشطة المتكاسلة (مثل التمرير على انستغرام) بالرضا.
أشياء كهذه تجوّد فترات الراحة وتُعيد قدرتنا على التركيز؛ لذا بدّل بين نشاطات تحتاج شدّة التركيز وأخرى روتينية.
الآن قد يقاوم الأشخاص من نمط- أ والمهووسين بالمثالية أي شيء يضجّ بالمرح، لذلك سأحاول إقناع هؤلاء؛ بدلًا من استنزاف طاقتك في مقاومة شبكات التواصل الاجتماعي، اجعل منها (مكافأة). انشر منشورات إيجابية لتلقيّ بعض التفاعل الودّي وتعزيز المشاعر الإيجابية. وخذ الوقت الكافي لتصميم التجربة بشكل أفضل. ولا تنسى “كتم صوت” الصاخبين على تويتر ممن ينفثون السلبية في وجهك!
نصيحة أخرى رائعة تقدمها (جلوريا): استخدام (خطّافات) مُصممة لإخراجك من المآزق المحتملة؛ عوض أخذ “استراحة لمدة 5 دقائق” على فيسبوك (تعلم أنها ستستمر لساعتين!)، تصفحه قبل 10 دقائق من اجتماع مجدول أو مكالمة هاتفية هامّة.
والآن، فلنتحدث عن شيء ربما تعرفه، لكنك لا تضعه موضع التنفيذ مُطلقًا.
تعدد المهام ليس سوى.. كابوس ?
منذ ما يقرب من قرن، والباحثون يتحدثون عن كون تعدد المهام مشكلة؛ أجرى عالم النفس “آرثر توماس جيرسيلد Arthur T. Jersild” عام 1927 دراسات أكّدت أن تعدد يقلل من الأداء.
سيقول البعض ” لكني أبلي بلاءً حسنًا عندما أؤدي عدة مهام معًا!?“، وأنا أقول: [الاستثناء لا يُلغي القاعدة?]. فَمن يُطارد أرنبين في وقتٍ معًا، سيعود بخفيّ حنين حتمًا.
ما تفعله -باختصار- هو تحويل انتباهك بسرعة بين شيئين ولا يأتي ذاك التحويل بلا ثمن! (? لأخذ العلم فقط، النساء لَسن أفضل من الرجال في تعدد المهام).
- في كل مرة تتنقّل فيها بين المهام، يحتاج عقلك إلى إعادة بناء نموذجه العقلي للمهمة (“أين كنت؟ آه صحيح …“) هذا ما يُبرر شعورك بالاستنزاف بعد يوم حافل.
- يُطيل تعدد المهام زمن إتمام كل مهمة (مقارنةً بزمن إنجازها منفردة)، علاوة عن زيادة نسبة الأخطاء.
- كلما تنّقل أسرع، زاد توترك.
لذا، دعنا نتعلّم من أجدادنا؛ فنُنهي المهمة قبل الانتقال إلى التالية.
تعاملنا حتى الآن مع الفوضى داخل رأسك الجميل. لكن ماذا عن المُشتتات الخارجية؟
وحش المُشتتات.. وأخيرًا ?
المقاطعات سيئة. ولكن إذا كنت تبحث عن دافع جديد لتجنبها، فإليك شيئًا ملفتًا للنظر: تتساوى احتمالية أن يقاطع الناس أنفسهم مع مقاطعة شخص آخر لهم (تقريبًا: 56% مقابل 44%). والأسوء اقترانهما معًا: يستمر الناس في إزعاجك بطلباتهم، فيتعاظم الضرر؛حيث تشتت انتباهك -بنفسك- عبر إلقاء نظرة على بريدك الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي!
هل تريد حلًا عمليًا؟
وجدت جلوريا أن أدائنا يتحسن عندما نتحكم في المقاطعات. حدد أوقاتًا تتقبل فيها مقاطعات الآخرين. أعلم أن القول أسهل من الفعل، ولكن كلما تمكنت من وضع حدود لما سيُصادفك، تحسّن تركيزك. [?♂️ وهنا، لا أستيطع إخفاء إعجابي بتجربة أحمد قربان الشخصية]
استخدم وضع “ملء الشاشة Full screen” لتكون بمثابة عُصابات لعينيك عن المُشتتات. وإن أمكنك، أوقف تشغيل الإشعارات، إذ أعلم مقدار صعوبة عدم التفاعل معها (هل تساءلت يومًا لماذا تشجعك التطبيقات بشدة على تشغيلها؟) بمجرد وصول إشعار، يجب أن يبذل عقلك جهدًا عظيمًا فقط لألّا تتفقد هاتفك. إنه تأثير زيجارنيك مرة أخرى؛ تبقى الأشياء في أذهاننا وتستنزف موارد الانتباه لدينا.
إن تأزّم الأمر، استعن بأحد البرامج التي تمنعك من الوصول إلى الإنترنت. (أعدك أن الأعراض التي ستسببها ستكون ضئيلة). هذه البرامج مفيدة حتى لمن يتمتعون بقدرة عالية على ضبط النفس، حيث شهدوا بفضلها زيادة أكبر في الإنتاجية، حدّ أنهم تحدثوا عن شعورهم بتعب أكثر في نهاية اليوم!
والآن، ما رأيك بخطة عملية تجمع كل ما سبق؟
ابحث عن إيقاعك ولتكن لديك خطة ?
يعني تحكمك في فترة الانتباه معرفتك كيفية استخدامه. هل تحقق لك مهامك الحالية القيمة المرجوة؟ الانتباه محدود، تمامًا كالمال. فكر في أفضل الطرق لإنفاقه.
قبل أن تفعل شيئًا، اسأل نفسك “ما تأثيره على بقية يومي وأهدافي؟” غالبًا ما تعني الإنتاجية الأعلى توترًا أعلى، لذا حاذر من السعي خلف العَظمة. حاجتنا لاستراحات -نحقق من خلالها التوازن- مُلحّة.
بدلًا من التخطيط لفترات انتباه طويلة ومتواصلة، ابحث عن إيقاع وجدول زمني يناسبك. اسال نفسك:
- ما أفضل شيء أبدأ به يومي؟
- ما أكثر مهمة تستهلكني؟
- ما الذي يغذي شغفي؟
- أي الأوقات أفضل للانخراط بهذا الشيء المُجهِد؟
- متى أحظى بأكبر/بأقل قدر من الانتباه؟
يُفترض أن تساهم الاسئلة السابقة في توجيهك نحو جدول مهام منتظم وقواعد جيدة تضبطه. لمعرفة -ومن ثمّ تخصيص- الوقت المناسب لكل مهمة مفعول السحر.
لقد وصلت إلى نهاية التدوينة (المُترجَمة بالمناسبة)! ومَن حقك تنفّس الصعداء الآن.