منذ أكثر من 15 عامًا، خضت أولى تجاربي مع العزلة الصامتة بعيدًا عن الأجهزة. اليوم، وبعد مئات التجارب المماثلة، يمكنني القول بثقة: إذا كان بإمكاني تقديم أي نصيحة إلى ذاتي الأصغر سنًا، فستكون قضاء يوم إجازة أو اثنين من كل شهر في عزلة خالية من الأجهزة (تأكيد: “لا أجهزة” و “لا شركاء”).
الخلفية الدرامية عن قصتي مع العزلة
في الكلية، غادرت البلاد في رحلة لمدة 8 أسابيع إلى ولاية مآين Maine (بدون هاتف أو كمبيوتر) متقمصًا شخصية هنري ديفد ثورو، شاركني رفاقي في الرحلة ما يُطلق عليه “الخلوة”؛ عطلة نهاية أسبوع دون التحدث إلى أي شخص أو ،بالطبع، استخدام أي أجهزة.
عندما بدأت “خلوتي”، أتذكر أنني كنت مضطربًا، عبثت بفروع الأشجار، ركلت الأوراق، باختصار.. شعرت بالملل. رغبت بالعودة إلى مدينتي. ثم، بعد ساعتين، عشت أول حالة عزلة تامّة؛ شعور سأسعى خلفه لبقية حياتي.
وكوحيٍ من السماء، وبينما كنت أسجّل يومياتي، خطر لي -فجأة- شيئًا لطيفًا لأقوله لشخص ما. ثم آخر.. فآخر. لم أستطع التوقف. أحدهما كان اعتذارًا. أما الآخر فرسالة امتنان طال انتظارها.
بدأت كتابة الرسائل بلا توقف، بروح صافية لم أشعر بمثلها سابقًا. بدأت أيضًا في حلّ العُقد في رأسي وقلبي اتجاه والدي، وصديق انقطع التواصل بيننا منذ أمدٍ بعيد.
بدأت في تنمية ما يسميه الشاعر الإنجليزي جون كيتس “John Keats” القدرة السلبية؛عندما يتمكن الشخص من التواجد في حالة من عدم اليقين والشك، دون الاحتداد للوصول إلى الحقيقة.
كنت دائمًا أكثر سعادة عندما تمكنت من ممارسة العزلة بانتظام.
عندما منحت وقتًا لنفسي، تحسّنت علاقاتي، وتوصلت إلى أفضل أفكاري، وتصرفت بشكل عام بمزيد من الاستقامة. غرّدها بثقةرغم أن “تبديدك” ليوم قد يبدو أمرًا مُضنيًا، إلا أن الوقت الذي توفره عبر خوض معارك أقل وتوتر أقل وهراء أقل لا يقدر بثمن.
أغرب ما في الأمر: عندما أنفرد بنفسي لفترات طويلة، أشعر بأنني أقرب إلى الآخرين. وعندما أكون غير متصل بالشابكة، وبعيدًا عن الأجهزة، أشعر أنني متصل بشيء أكبر مني.
من المفارقات أن العزلة تولّد التكافل.
إذًا، ماذا أفعل خلال “العزلة”؟
لا شيء حرفيًا: خلال أيام الأسبوع، أغدو بمثابة رهينة للمدخلات: النصوص – الإشعارات – المدونات الصوتية (البودكاست)، فلا تمر لحظة غير مستغلة. أما يوم الإجازة، فلا مدخلات. ولا استماع للبودكاست أثناء تناول الطعام. ولا أتحقق من هاتفي أثناء أوقات الاسترخاء. باختصار: لا أشخاص. لا محادثات.
لا شيئ.
في البداية، يكون الأمر مملًا حقًا. ما يذكرني برواية ديفيد فوستر والاس “David Foster Wallace” -غير المكتملة- عن الملل (الملك الشاحب) ، حيث يصف أسلوب حياة المحاسب فقط ليمنحك إحساسًا بماهية الملل حقًا، وينتقل إليك أثناء قراءة الكتاب. أشعر بالملل بمجرد التفكير في الأمر!
ولكن بعد ذلك تتدفق الخواطر. في البداية كانوا عاديين: هل استعدت هذا الشخص؟ هل رددت على تلك الرسالة الإلكترونية؟ أفرطت في تفكير (غير ضروري) حيال أمرٍ قاله أحدهم منذ شهور.
ثم تبدأ الأفكار “الحقيقية” بالظهور. المجاملات (والاعتذارات) التي يجب أن تقدمها للناس. أفكار لأماكن الخروج. قوائم الأشياء التي يجب أن أبدأ/أتوقف عن فعلها.
تليها الأسئلة: لماذا ما زلت صديقًا لهذا الشخص؟ لماذا لا أتواصل مع ذاك؟ هل ما زلت أرغب في العمل أو العيش في نفس المكان؟ ما الأشياء المهمة -والمؤجلة-في حياتي والتي، إذا فعلت المزيد منها، ستزيد سعادتي بشكل كبير؟ كيف يمكنني التصرف بمزيد من الاستقامة؟
مع مرور الوقت، تتحلل العقدة النفسية التي تنبثق باستمرار، وتزول التوترات بينك وبين الآخرين. وتتناقص المعتقدات السلبية التي لديك عن نفسك. ومواقف (عُنق الزجاجة) الأخرى التي تمنعك من التواصل مع نفسك وبالتالي مع الآخرين. ثم تأتي المشاعر: الندم على الأخطاء التي ارتكبتها.. مشاعر الغضب.. الألم.. الحزن. مشاعر حقيقية لم تختبر مثلها منذ فترة طويلة.
تغوص بعض المشاعر في أعماق القلب لدرجة يغدو بمقدور العزلة وحدها مساعدتك في العثور عليها مرة أخرى. غرّدها لِمن تُحبكيف تعود من بعد العزلة؟
ستخرج من عزلتك بمزيد من التعاطف؛ إذ تتمكن من فصل مشاهداتك عن حكمك: ربما عندما قال (فلان) ذلك الشيء القاسي كان يمر بظرفٍ معين. وهنا تغفر. تحدث التحولات في المنظور هنا. وكذلك التشافي.
تصبح حساسًا أكثر، منطلقًا، وسبّاقًا: كيف يمكنك أن تكون صديقًا أفضل، وشريكًا أرقى، وزميلًا أجود؟ أنت تطرح هذه الأسئلة، وتبحث عن حلول، ثم تبتكر طرقًا لتفعيل تلك الحلول.
تستغرق العملية وقتًا. فالأفكار متفرقة وفي مستوى سطحي. يبدو الأمر كما لو كنت تقطع شجرة (أو عدة أشجار في وقت واحد). مع الاستمرارية الكافية، يمكنك الوصول إلى الجذر. عادة، تمنع المُدخلات من حولنا اختراقًا أعمق لأنفسنا. لكن مع العزلة، ستصيب هدفك بالتأكيد. أو ربما يكون الأمر أشبه بالصيد. فقط انتظر. ستلتقط الأفكار الجيدة (الأفكار والمشاعر والتحولات النموذجية. أو، بعبارة أدقّ، هي مَن ستُمسك بك).
في بعض الأحيان ستستلقي لساعات. في أحايين أخرى، سترغب في كتابة شيء ما. المهم أن تثق في العملية. مع مرور الوقت الكافي، سيعيد عقلك تشكيل أفكارك، كما لو كان مكعب روبيك Rubik’s Cube يحلّ نفسه بنفسه. أحيانًا يكون الأمر مؤلمًا؛ أن تنفرد مع تلك الذكرى المروعة!
يصبح قلبك مثل جسد وولفرين Wolverine؛ تلتئم جروحه تلقائيًا، إذا سمحت لها بذلك.
يقولون، "الزمن يداوي جروح النفس"، لكنهم نسوا أن يقولوا إنه يتطلب وقتًا محددًا وقت الخلوة. عبارة تستحق التغريدعادة عندما يكون عقلي على وشك التعمق، يتشتت انتباهه. إشعار هنا، “أعجبني” هناك. لكن عندما تكون وحدك، فلن يجد مكانًا يذهب إليه، ما يضعك في مواجهة أفكارك أنت. بعضها لطيف والبعض الآخر حزين.
يجب أن أعترف
كل شيء يبدو عشوائيًا. هو شعور بالفوضى. إذا نظر إليك شخص ما، فمن المؤكد أنك ستبدو له شخصًا فوضويًا
هذا ليس تأملًا حتى. بل مجرد جلسة هادئة: أحيانًا أتأمل. وأحيانًا أنام. إنما 100% لا أحكم على العملية.
عدم الحكم على العملية هو السرّ. أحاول القيام بذلك أسبوعيًا، ولكن -واقعيًا- أعيش عزلة كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. أحيانًا ليوم. وأحيانًا أخرى لثلاثة أيام متتالية.
على عكس خلوات التأمل (التي تعتبر رائعة وتخدم أغراضًا مختلفة)، فأنا لا أركز على العقل. أنا فقط أدع عقلي يتجول بين الأفكار.
القواعد الوحيدة للخلوة
(لا هاتف) .. (لا شركاء)
هل أتبع هذه القواعد؟ لا، انتهى بي المطاف بتفقد هاتفي عدة مرات. أتذكر أنني كنت في حالة تأمل ذاتي لمدة 3 أيام، لكنني كنت بحاجة إلى معرفة ما إذا كان كوهي ليونارد Kawhi Leonard [لاعب كرة سلة أمريكي] قد تمّ بيعه. (بيّع بالفعل!) لكن لا بأس بذلك. فعلى غرار التأمل، المهم ألا تحكم على نفسك أثناء العملية.
أحد الفوائد المثيرة للاهتمام: أنه يجعلك تدرك ما وضعته في ذهنك. الصراع يمكن أن يدفعك للجنون. يمكن للملاحظة العدوانية السلبية أن “تنهش” فيك. حتى أغنية بسيطة يمكن أن تعلق في رأسك.
تريد أفكار جديدة؟ اقضِ يومًا كاملًا بمفردك ولا تفعل شيئًا.
تريد أن تكون على اتصال أكثر مع نفسك؟ اقضِ يومًا كاملًا بمفردك ولا تفعل شيئًا.
هل ترغب في الحصول على قدر أكبر من التقدير والتواصل مع الآخرين؟ اقضِ يومًا كاملاً لا تفعل شيئًا.
بالطبع، إذا كان لديك أطفال أو مسؤوليات أخرى، فقد تكون العزلة الخالية من الأجهزة مستحيلة. إنه لمميز أن تكون قادرًا على القيام بذلك، أما إذا عجزت، فربما تأخذ “نوبات بسيطة” من العزلة المتعمدة كلما استطعت .
متى تعرف أنك حظيت بعزلة جيدة؟
عندما تتلهف لرؤية الناس مرة أخرى.
ومن هنا توجد مفارقة أخرى تتعلق بالعزلة: المشكلات التي يمكن أن تساعدك العزلة في التغلب عليها غالبًا ما تجعل من الصعب عليك قضاء الوقت في العزلة في المقام الأول.
لكن الوقت الذي أستغرقه يمنحني أضعافًا. فأنا -الآن- أكثر فاعلية وانضباطًا. ومتناغمًا مع الكون أكثر.
كانت هذه قصة إيريك تورينبيرج Erik Torenberg مع العزلة.