الكثير من الأشياء لا معنى لها. الأرقام ليست منطقية، والتفسيرات مليئة بالثغرات. ومع ذلك تستمر الأمور بالحدوث؛ يتخذ الجميع قرارات مجنونة، ويتفاعلون بطرق غريبة مرارًا و تكرارًا.
قال المؤرخ ويل ديورانت ذات مرة: “اخترع الإنسان المنطق ولن يُمانع الكون تجاهله” وذاك غالبًا ما يحدث، مما يدفعك إلى الجنون إذا كنت تتوقع أن يعمل العالم بطرق عقلانية. يمكننا تفسير ظواهر عديدة من الجدالات المثيرة للخلاف إلى التنبؤات السيئة: أنه قد يصعب التمييز بين ما يحدث وما تعتقد أنه يجب أن يحدث.
إليك قصتان قصيرتان عن الحرب توضحان ما أعنيه.
كانت معركة الثغرة ومعروفة عالميًا بمسماها الشعبي The Battle of the Bulge واحدة من أكثر المعارك العسكرية الأمريكية دموية في التاريخ. إذ قُتل 19,000 جندي أمريكي، وفقد أو جرح 70,000 آخرين، وذلك خلال ما يزيد قليلاً عن شهر عندما شنت ألمانيا النازية هجومًا أخيرًا مشؤومًا ضد الحلفاء.
ما جعله دمويًا هو أن الأمريكيين فوجئوا. والسبب: أنه وفق تفكير الجنرالات الأمريكيين العقلاني، لم يكن من المنطقي أن تهاجم ألمانيا؛ لم يمتلك الألمان ما يكفي من القوات للفوز بهجوم مضاد، والقلة المتبقية كانت في الغالب ممن تقل أعمارهم عن 18 عامًا مفتقدي الخبرة القتالية. دون أن ننسى عدم وجود ما يكفي من الوقود والطعام. علاوة عن وقوف التضاريس في غابة أردين البلجيكية -وطقسها الفظيع- الاحتمالات ضدهم.
عرف الحلفاء كل هذا. ورأوا أن أي قائد ألماني -يمتلك بعض المنطق- لن يشن هجومًا مضادًا. لذلك، تُركت الخطوط الأمريكية ضعيفة -إلى حد ما- وغير مزودة بإمدادات.
وبعد ذلك، وبشكل مفاجئ. هاجم الألمان.
ما أغفله الجنرالات الأمريكيون هو مدى اضطراب هتلر. لم يكن شخصًا عقلانيًا. كان يعيش في عالمه الخاص، بعيدًا عن الواقع والعقل. عندما سأله جنرالاته عن مصدر تزويدهم بالوقود لإكمال الهجوم، أجبهم هتلر ان بمقدورهم سرقته من الأمريكيين!
يشير المؤرخ (ستيفن أمبروز Stephen Ambrose) إلى أن أيزنهاور والجنرال عمر برادلي تحرّوا كل سُبل المنطق في التخطيط للحرب حتى أواخر عام 1944، باستثناء تفصيل واحد: مدى جنون هتلر ?☠️، ما كان مهمًا أكثر من أي شيء آخر.
ثم حدث شيء مشابه خلال حرب فيتنام.
رأى وزير الدفاع (روبرت ماكنمارا Robert McNamara) العالم كمسألة حسابية كبيرة، حيث كان يُحدد كل شيء كميًا، وبنى حياته العسكرية على فكرة أنه يمكن حل أي مشكلة إذا خضعت للحقيقة الحيادية للإحصاءات والمنطق.
كان أحد مقاييس النجاح الرئيسية خلال فيتنام هو إحصاء الجثث: كم قتلت القوات الأمريكية من الفيت كونغ (Việt cộng)؟ هل يموت الفيت كونغ أكثر من الأمريكيين؟ كان من السهل تتبع مثل هذه الإحصائيات، ومن السهل عرضها كرسم بياني، حتى بات ذلك هاجسه.
ثم ننقتل إلى المنطق: إذا قُتل عدد كافٍ من الفيتناميين الشماليين، يمكنك تحطيم روح العدو الذي رأى أن فرصه في النصر تتضاءل. كان إلحاق الأضرار في الأرواح يعادل الاقتراب من الفوز. أوضح (ويليام ويستمورلاند William Westmoreland)، قائد القوات الأمريكية، ذلك في عام 1967:
تحولت الحرب إلى معادلة حسابية: إذا فاق عدد قتلى العدو عدد القتلى الأمريكيين، سينتصر الأمريكيون. لكن الجثث تراكمت، واستمرت الحرب.
كانت “المعادلة” لتنجح لو كان قادة فيتنام الشمالية أشخاصًا هادئين وعقلانيين “يحسبون التكاليف والفوائد إلى الحد الذي يمكن أن تكون فيه مرتبطة بمسارات عمل مختلفة، ويتخذون الخيارات وفقًا لذلك”، على حد تعبير إحدى الصحف.
لكنهم لم يكونوا كذلك.
أخبر (إدوارد لانسديل Edward Lansdale) من وكالة المخابرات المركزية وزير الدفاع (ماكنمارا) ذات مرة أن إحصائياته تفتقر إلى شيء ما. وحين سأله (ماكنمارا) عن ذاك الشيء، أجاب لاندسدال: “مشاعر الشعب الفيتنامي ✊”.
لا يمكنك وضع ذلك على الرسم البياني. لكنها كانت تعني كل شيء. في عام 1966، كتب مراسل نيويورك تايمز (هاريسون سالزبوري Harrison Salisbury):
وقد قالها رئيس فيتنام الشمالية سابقًا (هو تشي منه Ho Chi Minh) بلا مواربة: “ستقتل عشرة منّا، وسنقتل واحدًا منكم، لكنك من سيتعب أولًا” هذا بالضبط ما حدث في أمريكا، حيث لا تعني الإحصاءات شيئًا أمام المشاعر.
وكتأكيد، حين قال ويستمورلاند ذات مرة للسيناتور (فريتز هولينجز Fritz Hollings) “نحن نقتل هؤلاء بمعدل 10/1”. أجابه الأخير “الشعب الأمريكي لا يهتم بالعاشر. إنهم يهتمون بأمر ذاك الجندي المسكين.”
كان من الصعب التوفيق بين ذلك في العقل الإحصائي لشخص مثل ماكنمارا. كان الأمر أشبه بتحدي قوانين الفيزياء، أو خطأ مطبعي في معادلة رياضية.
ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل وفقها العالم.
بعض الأشياء لا تخضع للحسابات
قال المستثمر (جيم جرانت Jim Grant) ذات مرة:
كان هذا الحال دائمًا، وسيظل كذلك.
تتمثل إحدى طرائق إدراك ذاك المبدأ في أنه يوجد دائمًا جانبان لكل استثمار: الرقم والقصة. كل قيمة استثمار، وكل تقييم للسوق، لا يخرج عن كونه رقم من اليوم مضروب في قصة عن الغد.
الأرقام يسيرة القياس، سهلة التتبع، بسيطة الصياغة. باتت بتلك السهولة نظرًا لامتلاك كل شخص تقريبًا وصولًا رخيصًا للمعلومات.
لكن غالبًا ما تكون القصص انعكاسات غريبة لآمال الناس وأحلامهم ومخاوفهم وانعدام الأمن والانتماءات القبلية. وما زادها غرابة تضخيّم وسائل التواصل الاجتماعي الآراء الأكثر جاذبية من الناحية العاطفية.
بعض الأمثلة الحديثة عن مدى قوة ذلك:
كان بنك (ليمان براذرز Lehman Brothers) في حالٍ جيدة في 10 سبتمبر 2008. وبلغت نسبة رأس المال من المستوى الأول -وهي مقياس لقدرة البنك على تحمل الخسارة- 11.7%. كان ذلك أعلى من الربع السابق. وأعلى من (جولدمان ساكس Goldman Sachs) و(بنك أمريكا Bank of America). كان رأس مال أكبر مما امتلكه البنك قبلها بعام، عندما كان مجال البنوك في أقوى حالاته.
بعد 72 ساعة .. أفلس البنك!
الشيء الوحيد الذي تغير خلال تلك الساعات هو ثقة المستثمرين في الشركة. فبين ليلةٍ وضحاها، انتقلوا من الإيمان بالشركة إلى الامتناع عن شراء الديون التي مولت ميزانية البنك.
ذاك الإيمان هو الشيء الوحيد الذي أحدث فرقًا. ولكنه كان الشيء الوحيد الذي يصعُب تحديده كميًا، أو وضع نموذج له، أو التنبؤ به، ولم يُحسب في نموذج التقييم التقليدي.
على النقيض، كان متجر GameStop
أظهرت الإحصاءات أنه كان على وشك الإفلاس في عام 2020. ثم أصبح هوسًا ثقافيًا على ريديت Reddit، وارتفع سهمه لتجمع الشركة ثروة وتصبح قيمتها 11 مليار دولار.
ذات الشيء هنا: المتغير الأهم هو القصص التي رواها الناس والمشاعر التي انبثقت فجأة. وهو الشيء الوحيد الذي لا يمكنك قياسه ولا التنبؤ به.
كلما حدث شيء مُشابه، ترى الناس مصدومين وغاضبين من كيفية انفصال السوق عن المؤشرات الأساسية.
لكن جرانت كان محقًا: لطالما كان الأمر على هذا النحو.
كانت عشرينيات القرن الماضي سنوات بهجة. لتتحول إلى ذعرٍ تام في الثلاثينيات. ثم اقترب العالم من نهايته في الأربعينيات. ثم تناوبت الطفرات والانهيارات طيلة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. أما الثمانينيات والتسعينيات فكانت جنونية. والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين؟ كان أشبه ببرامج الواقع Reality TV Show.
إذا كنت تعتمد على البيانات والمنطق وحدهما لفهم الاقتصاد، فسيصيبك الارتباك لقرنٍ كامل!
تقدم اليابان للشركات خصمًا ضريبيًا بنسبة 40% تشجيعًا لزيادة الأجور. لكن معظم الشركات لم تفعل، هذا لأن رفع الأجور ليس جزءًا من ثقافة الشركات اليابانية. في الوقت نفسه، ارتفعت قيمة ملفات JPEG الخاصة بالقردة عدة أضعاف في الأشهر القليلة الماضية، ويرجع ذلك إلى كونها جزءًا من ثقافة التشفير.
غرد الخبير الاقتصادي (بير بيلوند Per Bylund) بهذا مؤخرًا:
مفهوم #القيمة_الاقتصادية بسيط: لكل ما يريده أي شخص قيمة، بغض النظر عن السبب (إن وجد)، وترتفع قيمته كلما زادت رغبته. غرّدهاليست الجدوى، ولا التدفق النقدي المخصوم – إنما فقط الرغبة، لأي سبب من الأسباب. الكثير مما يحدث في عالم الاقتصاد مرّده العواطف، والتي قد يستحيل تقريبًا فهمها في بعض الأحيان.
بالنسبة لي، من الواضح أن الشيء الوحيد الذي لا يمكنك قياسه، ولا التنبؤ به، ولا وضعه في جدول بيانات هو القوة العظمى في جميع مجالات الأعمال والاستثمار، تمامًا كحاله في المجال العسكري والسياسة والوظائف والعلاقات؛ بعض الأشياء لا تخضع للحسابات.
يكمن الخطر، كما نلمسه غالبًا في الاستثمار، عندما يصبح الناس على غرار بماكنمارا؛ مهووسين بالبيانات وواثقين جدًا في نماذجهم بحيث لا يتركون مجالًا للخطأ أو المفاجأة. أو مجال لأن تكون الأشياء مجنونة وغبية وغير قابلة للتفسير وتبقى على هذا النحو لفترة طويلة. متسائلين دومًا، “لماذا يحدث هذا؟” ومتوقعين أن يتلقوا إجابة منطقية.
الناجحون على المدى الطويل هم أولئك الذين يفهمون أن العالم الحقيقي هو سلسلة لا تنتهي من العبث والارتباك والعلاقات الفوضوية والأشخاص غير الكاملين.
يتطلب فهم هذا العالم الاعتراف ببعض الأمور
(جون ناش John Nash) هو أحد أذكى علماء الرياضيات الذين عاشوا على ظهر الكوكب، وهو أحد الفائزين بجائزة نوبل. كان أيضًا مصابًا بالفصام، وقضى معظم حياته مقتنعًا بأن الكائنات الفضائية تُرسل له رسائل مشفرة.
تروي (سيلفيا نصار Silvia Nasar) في كتابها “عقل جميل A Beautiful Mind” محادثة بين ناش والأستاذ في جامعة هارفارد (جورج ماكي George Mackey):
“كيف يمكن لعالم رياضيات ورجل مخلص للعقل والإثبات المنطقي مثلك، أن يصدّق أن كائنات فضائية تراسله؟ كيف تصدق أنك مُجنّد من قِبلها لإنقاذ العالم؟”
أجابه ناش ببطء بلهجته الجنوبية الرقيقة المنطقية:
“لأن الأفكار التي امتلكتها عن كائنات خارقة للطبيعة جاءتني بنفس الطريقة التي استلهمت بها أفكاري الرياضياتية. لذلك أخذتها على محمل الجد”.
أولى خطوات تقبّل أن بعض الأمور لا تخضع للحسابات هي إدراك أن سبب الابتكارات والتقدم الذي نشهده هو أننا محظوظون بوجود أشخاص في هذا العالم تعمل عقولهم بشكل مختلف عن عقولنا.
أشخاصًا مثل إيلون ماسك وستيف جوبز، يتساوى في شخصياتهم الذكاء والعبثية، ولا يمكن فصل العبث عن الذكاء؛ إذ عليك قبول كليهما. وما كنا لنصل إلى أي مكان أبدًا لو نظر الجميع إلى العالم على أنه مجموعة واضحة من القواعد العقلانية الواجب اتباعها.
يلي ذلك، فهم أن المنطقي لشخص ما قد يكون جنونًا بالنسبة لشخص آخر؛ يعتبر الذعر من بيع الأسهم بعد انخفاضها بنسبة 5% فكرة مريعة إذا كنت مستثمرًا على المدى الطويل لكنه ضرورة مهنية للمضارب المحترف. لا يوجد عالم يجب أن يتوافق فيه كل عمل أو قرار استثماري تراه مع وجهة نظرك الخاصة للعالم.
الخطوة الثالثة: فهم قوة الحوافز. نظريًا، الفقاعات أمور غير عقلانية، لكن العاملين في فقاعات -كسماسرة الرهن العقاري في عام 2004 أو سماسرة البورصة في عام 1999- يكسبون الكثير من المال منها لدرجة أن هناك حافزًا قويًا للاستمرار. إنهم لا يخدعون عملائهم فحسب، بل يخدعون أنفسهم أيضًا. لا شيء يجعلنا نتغاضى عن المنطق أكثر من أساليب الثراء السريع.
الخطوة الأخيرة: فهم قوة القصص على حساب الإحصائيات. “أسعار العقارات بالنسبة إلى متوسط الدخل أعلى الآن من متوسطها التاريخي وعادة ما تنبئ بالارتداد”، تلك إحصائيات. “ربح جيم للتو 500,000$ من سوق العقارات المتقلّب ويمكنه الآن التقاعد مبكرًا وتعتقد زوجته أنه شخص مذهل” فتلك قصة. وهي طريقة أكثر إقناعًا في الوقت الحالي.
إذا أمعنت النظر، ستجد أنه أينما تداولت المعلومات -أي حيثما وجدت منتجات وشركات ومهن وسياسة ومعرفة وتعليم وثقافة- تفوز أفضل قصة.
قال الروائي (ريتشارد باورز Richard Powers):