مغالطة الغطس البارد: لماذا أكره النصائح بالمُطلق؟ 😤

نُقَيِّم -أنا وأنت- خياراتنا دائمًا. تفتح باب الثلاجة وتقول: “لحظة، لا أرغب بالطبخ، وإنما بوجبة سريعة الليلة”، وأتصفح IMDb لنصف ساعة قبل اختيار ما يُناسبني “سأستمتع بهذا الفِلم أكثر من ذاك”.

المشكلة في عدم ارتباط تقييم الإيجابيات والسلبيات باللحظة الراهنة وحدها:

  • قد تستمر لذّة الفعل لأيام، كأن يكون الفِلم رائعًا لدرجة أن أتحدث عنه مع أصدقائي أو أكتب تدوينة حوله.
  • في المقابل، ربمّا خلّف الاستمتاع باللحظة الراهنة ألمًا شديدًا في المستقبل. مثلما تُصيبك تخمة “فارغة” من الوجبات السريعة، وتعاني خمولًا شديدًا في صباح اليوم التالي!

في آخر أعداد نشرة “فلسفة مُصغرة Mini Philosophy” البريدية، نتعرّف على نظرية عالمة الأعصاب (راشيل بارّ Rachel Barr) حول هذه الإشكالية، وكيف يتطلب تقييم الفعل مراعاة ما قبله وما بعده قدر مراعاة الفعل نفسه، والتي تُطلق عليها مغالطة الغطس البارد 🧊 Cold-plunge Fallacy“.


مغالطة الغطس البارد

رغم اتفاقنا على عدم خضوع بعض الأشياء للحسابات، لا تزال معظم نصائحنا معتمدة على حسابات مٌبسّطة قائمة على تأمل الفعل ذاته والتساؤل عمّا إذا كان سيجعلنا أسعد أو أفضل أو أصحّ.. إلخ؟

تكمن المشكلة في وجود أسباب وعواقب لكل سلوك، ولا يُفترض بتقييمه الخضوع لأي حدود زمنية! بمعنى: فلا نقول (أو لا ينبغي لنا قول) : “لنقيَس قدر متعتي المأمولة للدقائق العشر القادمة فقط”. إنما يشترط التقييم العقلاني والذكي محاولة مراعاة الآثار المترتبة والعواقب المتوقعة قدر الإمكان. وحينها -فقط- يمكننا الحكم على الأمر أكان حسنًا أم قبيحًا.

وينطبق ذلك على نصائح الصحة النفسية وجودة الحياة.

تقول بارّ في كتابها:

"يُفترض أن تتوافق الأنشطة التي تمارسها لتعزيز صحتك النفسية مع احتياجات دماغك وإيقاعاتك الطبيعية. وينبغي أن تُشعرك -في معظم الحالات- بالراحة التامة.

سأُطلعك على شيء، والذي سميته مغالطة الغطس البارد. أعلم أن البعض يستمتعون بالحمامات الباردة وما شابهها، وهذا رائع. المشكلة أن بقية البشر يستهجنون فكرة الغطس في حمام ثلجي لعشر دقائق يوميًا. وقد يتطلب إقناع نفسك بفعل شيء طاقة جبّارة! صحيح أن الغطس البارد قائم على أدلة علمية، ولكن مع قلّة عوائده بالنسبة لك، ستكرهه بالتأكيد.

وهنا، لا يسعني تجاهل أن مقدار الإقناع الذاتي المستمر والكراهية للغطس البارد يفوقان -بمراحل- الفائدة الضئيلة التي ستحصل عليها منه"
مغالطة الغطس البارد: لماذا أكره النصائح بالمُطلق؟ 😤

كابوس نادي الخامسة صباحًا!

بحسب مغالطة الغطس البارد، يجدر بنا تقيّيم صحتنا النفسية على نحو أفضل، وتحديد ما يُسعدنا أو يُقلقنا. وإليك عزيزي ثلاثة أمثلة أخرى حول مغالطة الغطس البارد، وكيف تساعدنا جميعًا على تحديد ما ينفعنا أو يضرنا أكثر:

يبلغ (زيد) الـ 42 عامًا، ولا زال حائرًا عمّا يفعله في حياته. في يومٍ ما، يشاهد فيديو للممثل الشهير (مارك والبيرغ Mark Wahlberg) -بعضلاته المشدودة، وأسنانه اللامعة، وكيف يبدو في الثلاثينيات رغم أنه تجاوز الخمسين- ليكتشف أن “والبيرغ” يستيقظ مبكرًا. ويمارس تمارينه الرياضية من الخامسة إلى التاسعة.

وبحماسة البدايات، يضبط زيد منبهه ويُقرر الانضمام إلى نادي الخامسة صباحًا. وللأمانة، التزم لمدة سنة، ليسأل نفسه في ختامها: “هل بتّ شخصًا أفضل؟”
حسنًا، ربما كان يستيقظ مبكرًا، وأصبحت صحته أفضل. لكنه -على الجانب الآخر- لم يعد يتحدث مع زوجته كثيرًا؛ باعتبارهما كانا من عشاق السهر والآن لا يستطيع السهر بعد التاسعة مساءً! أضف لذلك عدم التزامه 100% بالاستيقاظ في الخامسة صباحًا، عدا عن جعل صوت المنبه المزعج نومه أسوأ بشكل عام.
الخلاصة: يناسب نادي الخامسة صباحًا والبيرغ، لكنه لا يناسب زيد.


غير مقتنعةٍ ببراءة هواتفنا الذكية، ومدفوعةً بتأنيب الضمير لعدم قراءتها الكتب -بحجّة ضيق الوقت- رغم قضائها 5 ساعات يوميًا على تيك توك. تقرر (لطيفة) إقفال هاتفها “تمامًا” في عطلات نهاية الأسبوع، وإتباع حِمية رقمية Digital detox من ليلة الخميس وحتى صباح الأحد؛ لتغدو أكثر استرخاءً ووعيًا.

يحدث العكس تمامًا! تُمضي لطيفة ليلة الخميس تردّ على الرسائل بعصبية، وتؤتمت رسائل واتسآب تُخبر بها الجميع عن غيابها لمدة 48 ساعة. وبحلول السبت، ينتابها القلق والتوتر؛ ماذا لو احتاجها ابنها، كيف سيتواصل؟ ماذا لو انفجر أحد عملائها غضبًا من تأخير ردّها، وهدد بإلغاء المشروع؟

الخلاصة: لا تُجدي الحمية الرقمية نفعًا مع لطيفة.


عائديَن من حفل عشاء، يلتفت إبراهيم إلى زوجته قائلًا: “ليتني أتمكن من التحدث حول الكتب كما يفعل أمير. فتجيبه زوجته فاتن “حسنًا، لما لا نقرأ بعض الكتب من الآن فصاعدًا؟”

وفعلًا، يلتزم إبراهيم بروتين قراءة قاسي؛ ليكون مثل أمير تمامًا. فيبدأ بقراءة كتاب أسبوعيًا. لبضعة أشهر قبل أن تظهر المشاكل.

  • “هيما، هلّا ساعدتني في تحضير العشاء الليلة؟”
    “لا أستطيع عزيزتي. لا يزال أمامي نصف هذا الكتاب تقريبًا”.
  • لم يعد إبراهيم يشاهد التلفاز، ولا يُراسل أصدقاءه، ونادرًا ما يُساعد زوجته في أعمال المنزل.
  • بل بدأ يكره القراءة! فلم تعد الكتب مُسلية، بل أصبحت قراءتها تستنزفه. ويُدرك تمامًا أن الكتب التي يختارها -أسبوعًا تلو الآخر- تصبح أصغر حجمًا وأكثر بساطةً في كل مرة.
  • بحلول الشهر الحادي عشر، يبدأ بقراءة قصص الأطفال!

لا شك بقدرة إبراهيم على منافسة أمير في الدردشة الأدبية هذه الأيام، لكنه متوتر، وغير سعيد، وزوجته تكرهه.


خلاصة القول

سواء كنّا نتحدث عن الغطس البارد أو غيره، تغطي قراراتك الزمن كله، فتنعكس -في النهاية- على جوانب أخرى من حياتك بطرق يصعب التنبؤ بها.


تذكر: قد لا تناسبك -أبدًا- بعض العادات التي ناسبت البعض، حتى أنها قد تفشل مع والبيرغ شخصيًا! 😌

مغالطة الغطس البارد: لماذا أكره النصائح بالمُطلق؟ 😤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تمرير للأعلى