عام 2009، واجه (لِن مانويل ميراندا Lin-Manuel Miranda) مشكلة!
إذ كان يُفترض به كتابة مسرحيته الموسيقية الكبرى القادمة؛ خاصةً بعدما فاز -للتو- عرضه الأخير “في المرتفعات In the Heights” بأربع جوائز توني [جائزة سنوية تُمنح لأبرز الإنجازات في المسرح الأمريكي].
وبينما اتصالات المنتجين لا تهدئ، ومطالبات المستثمرين لا تتوقف، حيث أراد الجميع معرفة: “ما التالي؟”. وقف (ميراندا) عاجزًا عن تحديد ذاك “التالي”؛ لأن ألكسندر هاملتون لم يدعه وشأنه!

كان قد قرأ سيرته الذاتية بقلم (رون تشيرنو Ron Chernow) خلال إجازة العام السابق. شيءٌ ما في هذا الأب المؤسس المنسيّ شد انتباه ميراندا ولم يُفارقه. كان هاميلتون مهاجرًا يتيمًا شقّ طريقه -بقلمه- نحو الثورة، فنشر 51 مقالًا في 6 أشهر مروّجًا لدستور أمريكا. ثم توفي في مبارزة عن عمر 47 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا من 22,000 صفحة.
لذا في صبيحة أحد أيام تشرين الثاني (نوفمبر) لعام 2009، وعوض العمل على المشاريع المأجورة، فتح ميراندا مستندًا جديدًا في حاسوبه وكتب:
“كيف لطفل غير شرعي عن علاقة بائعة هوى باسكتلندي، أن ينشئ يتيمًا، ثم يهبط وسط مكان منسي في منطقة البحر الكاريبي…”
سطران فحسب.. هما كل ما فعله في ساعتين!
وقد غرّد على تويتر يومئذٍ: “أنا مذهول. قضيت ساعتين على كتابة سطرين”.
كان أي خبير إنتاجية ليصفعه.
"فزتَ للتو بأربع جوائز توني، ثم تُضيّع صباحك على مسرحية موسيقية موضوعها رجل أبيض ميت لا أحد يتذكره؟!"
لكن كانتا هاتان الساعتان “الضائعتان” بمثابة أولى قطرات ما سيصبح تسونامي. تطورت هاتان الجملتان إلى مسرحية “هاميلتون Hamilton“، والتي تجاوزت إيراداتها المليار دولار، وحصدت 11 جائزة توني وجائزة بوليتزر، وغيّرت نظرة أمريكا لتاريخها جذريًا.
لم يدر في خلد ميراندا أي من ذلك. بل كل ما عَلمه أنه لن يُنجز عمله “الحقيقي” ما لم يُسكت هاجس كتابة المسرحية داخل رأسه.
وعلى مدار السنوات الست التالية، رسم نمط غريب تفاصيل حياته
كان يقبل وظائف مجزية كتأليف موسيقى الأفلام والبرامج التلفزيونية، ثم يؤجلها جميعها ليكتب معارك راب “Rap battles” بين توماس جيفرسون وألكسندر هاملتون.
وأخيرًا واجهه مديره (تومي كايل Tommy Kail) قائلاً: “يجدر بك تأليف أكثر من أغنية في العام”.
فهذا كان حاله: ألّف خلال سنة أغنية واحدة بعنوان “My Shot” فحسب. والتي -بالمناسبة- كانت الأغنية الثانية في هاميلتون. وذلك بينما تنتظر الشيكات صرفها وتفوته الفرص!
الخيار “المسؤول” : تأجيل هاملتون
والتركيز على العمل المُجدي والمُجزي🤑. لكن اكتشف ميراندا شيئًا لا يتعلمه معظمنا: أحيانًا، قد تكون المهمة التي نتجنبها هي الأولَى بمجهودنا، وتكون التي نعمل عليها مجرد مماطلة (مُكلِفة 📉).
فكّر في الأمر. نتهم أنفسنا “بالتسويف” عندما نتجنب العمل المُكلّفين به سعيًا وراء ما يُثير اهتمامنا حقًا. صحيح؟ ولكن ماذا لو كان المذكور أولًا هو التسويف الحقيقي؟ ماذا لو كنا نستخدم “الإنتاجية” للتهرّب من مقصد حياتنا الحقيقي؟
قال ميراندا في وقتٍ لاحق:
“امتلكت زوجتي رؤية ثاقبة. وذاك حين رأت أن أفضل فكرة خطرت لي، وأقصد إنتاج مسرحية موسيقية عن هاملتون، راودتني عندما كنا في إجازة، على عوامة في حوض السباحة، وفي يدي كأس مارغريتا. يحتاج العقل إلى السرحان ليُبدع”
لذا بدأت زوجته بحجز عطلات؛ لا للاسترخاء، بل للعمل. العمل الحقيقي الذي يتجسّد عندما تمتنع عن إجبار نفسك على الإنتاج كآلة وتبدأ بالبروز. كانت ترافقه لأسبوع، ثم تتركه بمفرده مع حاسوبه المحمول و “ربّة الإلهام”.
بزوال ضغط الإنتاجية، اكتملت -فجأةً- أغانٍ عالقة لشهور. وكلماتٍ بدت متكلّفة في نيويورك، تدفقت بسلاسة في المدينة الساحلية.
وصل ميراندا للحقيقة الغائبة: لا يتفجّر الإبداع المبهر من إدارة الوقت، بل من عكسه تمامًا! من فعل الشيء الخطأ في الوقت المناسب، ولفترة كافية لتحويله إلى الصواب.
بشرط أن تتهيئ للظهور كشخصٍ غير منتج، ولتخييب أمل من يبحثون عن نتيجة أسرع وأسهل، ولقضاء ساعتين على سطرين بينما يراقبك العالم وأنت “تهدر” إمكاناتك.
سيعجز معظمنا عن ذلك؛ فنحن مدربون جيدًا، ومسؤولون جدًا. لذا نعمد للعمل “الصحيح” بينما يموت هاملتون داخلنا، يومًا بعد يوم.