تمنى أ. عبدالله المهيري لو نشارك -كمدونين- ضمن موضوع الشهر:التبسيط، فوجدتها فرصة مناسبة للحديث حول قضية شغلتني لفترة طويلة.
كثيرًا ما يتخلل أحاديث الناس عبارات تحسّر على (أيام الماضي) وخاصةً مظاهرها البسيطة:
وقد حاولت –في تدوينة سابقة– دحض هذا الإدعاء، وذكرت في خاتمتها حلًا للتخلص من النوستالجيا. المشكلة فقط أنه كان حلًا نظريًا!
لماذا نعجز عن الشعور بالامتنان في وقتنا الحالي؟
كان (عيش اللحظة والامتنان لوجودنا اليوم) هو حليّ المُقترح في التدوينة المذكورة. وهو ليس فقط حلًا نظريًا كما أشرت منذ قليل (حيث لم أذكر أي آلية عملية لفعل ذلك)، وإنما صعب التطبيق أيضًا.
لإثبات ذلك، سأسرد قصة شخصية.
أثناء كتابة المسودة الأولى لرواية سياحة إجبارية قبل بضعة سنوات، كانت عشرات الأوراق تفترش طاولة مكتبي، حيث جمعتني علاقة رائعة مع الأوراق والأقلام جعلت من إتمام الرواية -بأي طريقة كانت- هدفي الأوحد والأسمى.
تمرّ الأيام، وإذ بيّ أقرأ عن معالجات الكلمات. فُتنت بالفكرة وطاردتها على اختلاف صورها، فتارةً أتابع حملات تمويل مشاريعها، وتارةً أبحث عن طرق بناء نموذج عبر رازبيري.
ولو أقتصر الأمر على (الافتنان) فحسب، لهانت المشكلة. سوى أنني رأيت أنه ليس بمقدوري البدء بروايتي الثانية ما لم أمتلك جهازًا كهذا!
وبذا أصبحت (الأداة) أهمّ من (الغاية).
هذا بالضبط ما يحدث معنا حين نتصفح قوائم أحدث المنتجات عبر الانترنت، ونرى كيف أصبح للأفعال البسيطة (كالكتابة وشرب القهوة والاستماع إلى الموسيقى) أدواتٍ ووسائل حديثة. حينها، أنّى لنا أن نعود إلى البساطة؟!
كثرة الخيارات و”الفرصة الضائعة”: عدوا التبسيط الأخطر
ناقش د. باري شوارتس في كتابه (مفارقة الاختيار-The Paradox of Choice) هذه الفكرة، حيث قال:
تمتلك مجتمعات اليوم أكبر قدر من الاختيارات مقارنة بنظيراتها في العقود السابقة، حيث وجب عليهم المفاضلة بين خياران لا ثالث لهما إن قرروا دخول متجر ملابس لشراء بنطال من الجينز، ووجبات معينة يُفضلون تناولها في المطاعم، ولم يكن لديهم وسيلة للاتصال سوى عن طريق الهاتف الأرضي الثابت (ذو الشكل الفريد والوحيد).
ونظرًا لندرة الخيارات كان سقف توقعاتهم متواضعًا، فعلى الرغم من عدم كفاءة كل ما كانوا يمتلكونه في ذلك الوقت، وعدم وصولهم إلى مستوى الجودة أو مستوى الراحة الذي وصل إليه الناس الآن، إلا أنهم شعروا بالرضى.
بالعودة إلى قصتي الشخصية، توسعت دائرة بحثي عن جهاز الكتابة الأمثل -أضعاف ما كانت عليه- مع دخول أجهزة مثل Mobiscribe (التي تمنح مستخدميها شعورًا أقرب ما يكون لملمس الورق!) المعادلة!
كثرة الخيارات عززت من تأثير (الفرصة الضائعة) داخلي.
يعتبر مصطلح “الفرصة الضائعة” في علم الاقتصاد أحد أهم المصطلحات التي تجمع بين حرية الاختيار والسلوك الإنساني، ويمكن تعريفه باختصار: كل ما يتخلى عنه المرء في سبيل ما اختاره، وكما هو الحال في حرية الاختيار، يختار المرء الرضا بمنتج ما أو مكان ما أو وظيفة ما مقابل تخليه عن بدائل أخرى، وذلك لأنها في نظره ستحقق المنفعة الأقصى.
والنتيجة؟ الابتعاد عن الكتابة أكثر فأكثر.
وكان لا بدّ من إيجاد حلّ!
يعلم جميع أصحاب الحِرف الإبداعية، ومنهم الكتّاب والمدونون، خطورة إبقاء الأفكار حبيسة الأدراج والاذهان على الصحة النفسية.
كنت أذوي.. وأذوب.. وأزداد غضبًا يومًا بعد يوم. ولم تكن رواية (ج.ن.س) مجرد فكرة أودّ إخراجها على الورق، بل مشروعًا أؤمن أنه سيغيّر حياة المئات (إن لم أقل الآلاف). وكانت كثير الخيارات -وما أصابني من شللٍ فكري بسببها- دافعًا كافيًا لأبدء بأبسط وسيلة: القلم والورقة.
جاءت النتيجة سريعًا، وأقصد هنا فوزي بسباق شهر الكتابة. فلم أتوانى عن تطبيق استراتيجية التبسيط على شتّى مجالات حياتي:
- أفرغت متصفح الانترنت من الإشارات المرجعية (Bookmarks) لجميع المشاريع غير الكتابية (مثل: تصميم المواقع وبرمجة الألعاب وسلاسل الأفلام التي أُدرك أنني لن أشاهدها يومًا.
- تبرعت بجميع الكتب التي لم تعد تستهويني مواضيعها.
- تخليت عن المشاريع التي لا تحقق ليّ الاستقرار النفسي.
أعترف، لم يكن الأمر سهلًا.. لكنني فعلته في نهاية المطاف!
الأسباب كثيرة و متداخلة. برأيي رفع سقف التوقعات عامل مؤثر في طريقة عيشنا و استمتاعنا بما لدينا. في حالتك تتوقع عجزك عن الكتابة إلا لو ملكت معالج كلمات. برنامج معالج الكلمات في الحاسوب خيار موجود و متاح لمن ليده حاسوب. التبسيط نفسه خيار متاح في جهاز الحاسوب. لا يعقل أن أعود لزمن حيث أستمع من قرص فينيل كبير و أضطر لتبديله كل مرة، أو أشاهد المسلسلات في التلفزيون و أنتظر خلال الفواصل و الإعلانات، أو أحتاج جهاز ألعاب مخصص حتى ألعب لعبة فيديو. جهاز واحد يؤدي أعمالاً متعددة يغني عن امتلاك أجهزة متعددة تؤدي أعمالاً منفردة.