بصورةٍ أو بآخرى، نقترب جميعًا من نهاية الحياة، فنحن فانون في نهاية المطاف، ويمكن أن يكون القلق الوجودي عبئًا لوقت طويل. وجدت الدراسات التي أجراها باحثو نظرية إدارة الإرهاب أنه عندما يشيع الموت في مكانٍ ما، يعدّل الأشخاص سلوكهم ويزيد اعتمادهم على آليات دفاعية مثل الإنكار. يقول عالم الأنثروبولوجيا الثقافية إرنست بيكر في كتابه The Denial of Death (إنكار الموت) بأن الحضارة الإنسانية ليست سوى آلية دفاع رمزية نستعين بها ضد محدودية وجودنا. ويرى أن “الوعي بالموت هو المحرّك الأساسي، وليس الجنس” كما يقول سيغموند فرويد. ويرى أنه يمكن للإنكار اللاواعي للموت ترك تأثير محبط على الفرد، مما قد يؤثر على أحبائه والمجتمع ككل.
من خلال عدم مواجهة مسألة “فنائنا قبل وفاتنا”، فإننا نفقد فرصة فريدة، ليس فقط للتصالح والتعايش مع الموت، وإنما أيضًا لاكتساب شعور بالهدوء والصفاء يمكننا معايشته طيلة حياتنا. ولكن كيف يمكننا التغلب على الخوف من الموت المتجذر بعمق في ثقافتنا؟
هل جرّبت الاقتراب من الموت؟
تُظهر الأبحاث أن لبعض حالات الوعي تأثير قوي وإيجابي على كيفية إدراكنا لحتمية موتنا.
ثمّة صلة قوية بين تناقص الخوف من الموت والخضوع لتجربة الاقتراب من الموت (NDE) وتجربة الخروج من الجسد (OBE) والحلم الواعي (Lucid Dream) و”الرحلة” تحت تأثير المُخدّرات (Psychedelic Experience).
يذكر مُختبرو الاقتراب من الموت عدّة سمات (مثل: تجاوز الزمان والمكان، مرور شريط حياتهم أمام أعينهم، وشعورهم بأنها تجربة لا توصف وحقيقية، ولقائهم أحبائهم المتوفين، وشعور عميق بالحب والسلام).
يمكن لمن عايش تجربة الاقتراب من الموت أن يختبر تجربة الخروج من الجسد، والتي ترتبط أيضًا بالرحلة مع المواد المخدرة، ولكن على عكس هذه الحالات الأخرى، يمكن تحريض (تجربة الخروج من الجسد) عمدًا.
لا يحتاج المرء حتى إلى خوض هذه التجارب شخصيًا للاستفادة منها. لاحظ عدد من الباحثين في تجربة الاقتراب من الموت تغيرات عميقة في نظرتهم الخاصة بعد لقاءاتهم مع أشخاص مروا بتجربة الاقتراب من الموت. كما لاحظ أحد الباحثين البارزين أن مجرد الاستماع أو القراءة عن تجارب الاقتراب من الموت يمكن أن يكون له تأثير عميق، حيث يعمل بمثابة “فيروس حميد” يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة في روحانية الشخص وتقديره لكلٍ من الحياة والموت.
سمعت الطبيبة النفسية إيلين درايسديل، التي تعمل مع مرضى السرطان الميؤوس من شفائهم في كندا، إفادات لا حصر لها عن تجارب الاقتراب من الموت، وطمأنت المرضى وأقاربهم أن تجربة الموت بحد ذاتها ليست مؤلمة أو مخيفة كما قد تبدو. كما تعمل حاليًا على تعليم طلاب الطب وموظفي الرعاية التلطيفية فوائد أبحاث الاقتراب من الموت، وتقول:
لكن ما هي تجربة الخروج من الجسد (OBE) أصلًا؟
هي تجربة ما وراء شخصية (Transpersonal) تشعر خلالها أن “إحساسك بالذات” يتحول إلى ما وراء جسدك المادي، وتواجه كائنات وأماكن تشعر بأنها حقيقية.
يمكن أن تحدث هذه التجربة -عفويًا- لدى الأشخاص الأصحاء أثناء استرخائهم العميق، وفي حالات التنويم المغناطيسي، وعلى أعتاب النوم، وأثناء التأمل. ولجميع تلك التجارب -تقريبًا- تأثير إيجابي، حيث يذكر المجربون عادة شعورهم بالصفاء وجلاء الفكر والرهبة.
يمكن أن تكون التجربة بمثابة محفز لفهم نفسك بشكل أكبر، وعادة ما ترتبط بتقليل الخوف من الموت. كما يشير عالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس:
“لا يهمّ ما إن كان بالإمكان إبعاد وعي الشخص بالفعل أم لا، المهم هنا أن الأمر قد يبدو كذلك”
إحدى السمات الأساسية التي تربط بين هذه التجارب المتنوعة هي الشعور بتجاوز التعريف الأساسي للفرد بالجسد المادي. تُدعم قوة تغيّر وجهة نظرنا لهذا التأثير عبر التجارب التي تُظهر أنه حتى محاكاتها بواسطة تقنية الواقع الافتراضي يمكن أن تقلل من قلقنا حيال الموت!
يُشبه شعور رواد الفضاء!
غالبًا ما تقترن تجربة الخروج من الجسد بشعور الارتباط بشيء يتجاوز الذات مقرونًا بالرهبة، وهي حالة عاطفية تشيع في التجارب الثلاث.
من يختبر هذا الشعور أيضًا؟ رواد الفضاء عند رؤيتهم الأرض من الفضاء، ويُشار إليها باسم “التأثير السامي للنظرة الشاملة/overview effect”. وهو شعور يستحضر تحولًا معرفيًا للاتساع الإدراكي، ويعيد صياغة واقع المرء ومكانه داخله.
يمكن أن تكون هذه الصفات المتغيرة مرتبطة بـ”ذوبان الأنا”، وهو عنصر تجريبي مهم آخر للتجارب السامية. تُحفّز مثل هذه التجارب -بشكل موثوق- عن طريق المخدر وتتميز بفقدان الهوية الذاتية غير الموضوعية.
يكتنف تجربة محاكاة الموت أو الموت بحدّ ذاته والولادة الجديدة في جوهرها -وبعد تحليلها- ضبابية في الحدود المتصورة بين الذات والآخر. يمكن أن تنبع من هذا الشعور العميق بالوحدة والرهبة والترابط. ترتبط هذه التجربة ارتباطًا وثيقًا بالتجارب الصوفية التي يمكن أن يلتمسها الصوفيون ويبدو أنها جزء مهم من آلية تخفيف القلق من الموت. قد تستدعي المعالجة النفسية بالمواد المخدرة أيضًا إحساسًا بالطقوس – وهو شيء فقدته الثقافة الغربية إلى حد كبير، ولكنه جزء مهم من ثقافات الشعوب الأصلية، بمن فيهم أتباع الديانة الشامانية الذين يستخدمون المواد المخدرة، مثل فطر بسيلوسيبين.
بعد الدراسات السريرية التي أجرتها جامعة كاليفورنيا ولوس أنجلوس وجامعة جونز هوبكنز في بالتيمور وجامعة نيويورك، يمكن القول إن الدليل على فعالية فطر بسيلوسيبين في علاج القلق الوجودي هو الأقوى من بين أي دليل حصلنا عليه -حتى الآن- في مجال الأبحاث المخدرة. ففي واحدة من تلك الدراسات، اكتشف الباحثون (في جامعة نيويورك) أن استخدام فطر بسيلوسيبين ك犀利士 علاج للقلق الوجودي لدى مرضى السرطان الميؤوس من شفائهم أدى لانخفاض مستدام في القلق من الموت بعد 4.5 سنوات من جلسة واحدة في الغالبية العظمى من المشاركين في الدراسة. يمكن أن يحفز فطر بسيلوسيبين أيضًا مشاعر تجاوز الموت لدى أولئك الذين لا يواجهون تشخيصًا نهائيًا. هذا اكتشاف غير مسبوق في مجال الطب النفسي.
犀利士على حد تعبير “أنتوني بوسيس”، الأستاذ المساعد السريري للطب النفسي في كلية الطب بجامعة نيويورك والمدير السابق لأبحاث الرعاية التلطيفية لتجربة جامعة نيويورك:
في حين يشهد مجال العلاجات الكيميائية وإدارة الألم تقدمًا، لا يزال هناك ندرة في العلاجات لمعالجة وتخفيف الألم العاطفي الذي يتسبب منه الموت. يمثل نموذج العلاج بالمخدر تحولًا نموذجيًا محتملاً لمستقبل رعاية المسنين والرعاية التلطيفية، مما يوفر علاجًا جديدًا وفعالًا للتخفيف من الضيق العاطفي والروحي التي غالبًا ما تحدث في نهاية الحياة. لا يمكن أن تقدم فقط الشفاء العاطفي والروحي لأولئك الذين يواجهون الموت، ولكن يمكنها أيضًا أن تساعد عائلاتهم التي تشهد راحة أحبائهم من المعاناة.
ربما يكون الحلّ في العقاقير البيطرية!
الكيتامين، هو عقار أخر تنتج عنه بصورة موثوقة، وربما واعدة، تجارب تجاوزية لذوبان الأنا. وجدت العديد من الدراسات أن التجارب التي يثيرها الكيتامين (واسمه التجاري كيتالار) هي الأقرب إلى تجربة الاقتراب من الموت، من حيث الجودة الفينومينولوجية، من بين جميع المواد المُختَبرة.
فيما يتعلق بالمصداقية السايكدلية، قال العالم الصيدلاني الأمريكي المخضرم “ديفيد نيكولز”:
ربما يكون الطبيب النفسي “ستانيسلاف جروف” قد أشرف على جلسات علاج نفسي بالمواد المُخدرة أكثر من أي شخص آخر على قيد الحياة: كجزء من عمله مع مركز أبحاث الطب النفسي في ماريلاند، عالج مرضى السرطان الميؤوس من شفائهم بالمواد المخدرة. وقد لاحظ كيف وصف مرضاه هذه الجلسات بأنها تدريب تجريبي -معتمد على نظرية كولب التعليمية– لا يقدر بثمن للموت، حيث شرح البعض اختبارهم تجربة الاقتراب من الموت مع تقدم مرضهم، والذي وصفوه بأنه ينتج حالات مشابهة جدًا من الوعي. علق غروف قائلاً:
يؤثر “الموت قبل الموت” بعمق على نوعية الحياة والاستراتيجية الرئيسية للوجود (Basic Strategy of Existence). كما أنه يقلل من الدوافع غير العقلانية … ويزيد من القدرة على عيش اللحظة والاستمتاع بأنشطة الحياة البسيطة. نتيجة مهمة أخرى … هي الانفتاح الجذري على الروحانية من نوع عالمي وغير طائفي.
حقيقة (رؤية الأحباء المتوفين)
قاسم مشترك بين تجارب الاقتراب من الموت والأحلام الجليّة (الأحلام التي يدرك فيها الحالم أنهم يحلمون) جلسات و جلسات العلاج النفسي بالمواد المُخدرة (مثل مخدّر الأمازون: آياهواسكا) هو مقابلة الأحباء المتوفين. وسواء كان المرء يتبنى يرى أن مثل هذه التجارب وهمية أو “حقيقية”، فذلك لا ينتقص من القوة العلاجية لهذه اللقاءات.
اختبر الناجي من الهولوكوست والممول والمحسن “جورج سارلو” لقاءًا غير حياته مع آياهواسكا في السبعينيات من عمره، حيث أجرى محادثة مع والده المتوفى الذي عاتبه على عدم توديعه قبل أن يُرحّل إلى معسكر عمل نازي.
في المقابل، تبخرت مشاعر الاكتئاب التي كانت تسيطر على سارلو طوال معظم حياته. أفصح آخرون عن حل نزاعات العلاقة، ومشاعر الراحة، والإحساس بالرضى بعد مواجهة قريب متوفى. ومع ذلك، فإن هذه التجارب (غير العادية) ليست جديدة، حيث كان البوذيون التبتيون يحرضون -عن عمد- كلاً من تجربة الخروج من الجسد والأحلام الجليّة كجزء من تمرين [دريم يوغا] لآلاف السنين، بغرض استكشاف طبيعة الواقع والاستعداد للموت.
يمكن أن تكون تلك تجارب قوية، لكنها تختلف في طبيعتها
في دراسة مقارنة تبحث في الأحلام الواضحة و الخروج من الجسد، وجدت سامانثا تريجر (طالبة ماجستير في الأنثروبولوجيا الطبية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية “SOAS” في لندن) أن لقاء الشخصيات أثناء تجربة الخروج من الجسد أكثر تأثيرًا وتخفيفًا من الأحلام الواضحة. بينما تُفسّر اللقاءات في الأحلام الواضحة عمومًا على أنها نتاج عقل الحالم نفسه، كان يُنظر إلى الشخصيات في الخروج من الجسد على أنها أكثر “قربًا للحياة” وواقعية. في هذا الجانب من الخروج من الجسد، يشعر الشخص بأنه مرتبط بشيء يتجاوز الذات، ويبدو أنه يجعلهم علاجًا فعالًا للرهبة الوجودية.