كيف تُعاني “بطريقة صحيحة”؟!

غالبًا ما تكون (لحظات التدفق Flow) أكثر لحظات حياتي إرضاءً. عندما نتحدث عن التدفق، فنقصد شعور التركيز العميق، الغرق في اللحظة، والخلود، والحماس التلقائي؛ استحقاق الاستغراق بالعمل لذاته).

عندما تدرك مرور ست ساعات، ونسيانك تناول الغداء، فكل ما كنت تفعله ربما يكون “نشاطًا متدفقًا” بالنسبة لك. هل مررت بواحدة من تلك اللحظات؟

تتباين عوامل التدفق، ولكن -غالبًا- ما تتضمن هدفًا تحفيزيًا واضحًا، ومهامًا يمكن إنجازها، ووقتًا ومساحة للتركيز، إضافةً لبعض التحدي الذي ينتج عنه شعور بالإنجاز.

على سبيل المثال، أثناء كتابة هذه التدوينة، أحاول مشاركة نماذج وممارسات ذهنية على أمل أن تكون مفيدة للقارئ (هدف تحفيزي واضح). وأسعى لحبكها معًا في سرد ​​مقنع، وبعد ذلك سأنقحها طالبًا آراء القراء على Foster.co (مهام قابلة للإنجاز). ورغم أنني أستند لكل ما أعرفه وقرأته واختبرته، واثقًا أن بمقدوري تقديم شيء مفيد، لكنني أشعر -في ذات الوقت- أنني أبذل قصارى جهدي أيضًا (بعض التحدي). وقد عملت عليها لساعات دون أن أشعر (غياب الإحساس بالزمان والمكان دليل على الشعور بالإنجاز).

إذًا، تمثّل كتابة التدوينة (لحظة تدفق) بالنسبة لي.

بعبارة أخرى، أنا متحمس للغاية ومُستثار، ما جعلني منغمسًا فيما أفعله الآن حد نسياني مكونات نفسي الأخرى (خططي، وواجباتي، ومخاوفي، وأحكامي الذاتية). أنا “حاضر” في حالة فعل/تدفق.

المعاناة الصحيحة

ولكن ماذا لو لم تتوحد هذه المكونات لتكوين حالة من التدفق المُبهج؟ ماذا لو كان التحدي “أكبر من اللازم”؟ تندرج التحديات -في نظري- تحت بندين: إما تحدٍ مفيد أو معاناة بلا فائدة. يُبعدك التحدي عن منطقة راحتك (Comfort Zone) ويتطلب منك التركيز والسعي. وهو عامل مهم لأنه يجذب كل انتباهك الواعي خالقًا حالة من التفاني والتدفق الخالد.

على الجانب الآخر، تظهر المعاناة -غير ذات الجدوى- عندما تفوق التحديات طاقتك. ويمكن أن يتخذ ذلك أشكالاً عديدة، والقاسم المشترك بينها: اختلال كبير في التوازن؛ عدم وجود خيارات واضحة (أو كثرتها). الانهزام أمام حجم العمل الذي يجب إنجازه، أو عدم وجود معلومات أو توضيحات كافية لاتخاذ قرار.

إذًا، ماذا تفعل في ظل وجود معاناة ساحقة؟ أو لنَصيغها كما جاء في العنوان: كيف تُعاني “بطريقة صحيحة”؟! وبفرض وجود بعض المعاناة غير المُجدية في حياتك، كيف تزوّد نفسك بالنماذج والأدوات والاحتمالات الذهنية لتلك اللحظات حتى تتمكن من تحويل “المعاناة” إلى “تحدي”؟

التفكّر

عندما أرتبك نتيجة معاناة ما، غالبًا ما ألمس استفادة من التريث والتفكير في التحدي لفهمه أكثر. غالبًا ما تساعدني هذه الخطوة على اكتساب رؤية ووضوح لما يجري ولخياراتي، إضافةً لتحديد أيها سيغدو خطوة تالية. غالبًا ما لا نمنح الوقت والحيز الكافيين للمعاناة، ونتخوف منها عوض التساؤل حولها. شخصيًا، أجد أنني حين أكون حاضر الذهن و”فضوليًا” بشأن المعاناة، أتمكن -أحيانًا- من تجاوزها بنفسي بناءً على معرفتي وحكمتي.

غالبًا ما أعيش ذاك التفكر من خلال دفتر يومياتي، حيث أسأل وأجيب نفسي على أسئلة حول المعاناة. ورغم أنني حاولت تطبيق ذلك من خلال التفكير بمفردي، إلا أنني أجد أن كتابة اليوميات توفر تجربة منظمة أكثر.

بالمناسبة، هل تسائلت يومًا لماذا ينبغي لك كتابة اليوميات والمذكرات؟

وإليك أسلوبي في دفتر يومياتي:

  • أدوّن المعاناة.
  • أطرح أسئلة حولها -لاستكشافها من وجهات نظر مختلفة- وتوسيع فهمي لها.
  • أُجيب عن الأخيرة واكتب الأسئلة الإضافية التي تطرأ على بالي.
  • أستخرج -بعصف ذهني- خياراتٍ يمكنني تجربتها كخطوة تالية (بما فيها التي جربتها سابقًا).
  • أختار الخطوة التالية لتجربتها.
  • أُجرّبها، لأتعلم من خلال التطبيق، وأبدأ عملية التفكّر مجددًا بُغية التعلم من تجربتي.

ماذا لو كانت معاناة عملاقة؟!

سيفيدك في هذه الحالة ترك مسافة بين الخطوات. على سبيل المثال، اكتب المعاناة واسئلتك وإجاباتك حولها (الخطوات الثلاث الأولى)، ثم عُد في اليوم التالي للإجابة على الأسئلة الإضافية، ثم انتقل إلى الخيارات.
أعتقد أن الفاصل الزماني والمكاني ذاك سيساعدك في أن تصبح أكثر موضوعية.

يوميات حوارية

أسمي هذه العملية “يوميات حوارية Conversational Journaling” لأنها تشبه إجراء حوار مع نفسي.إذ ثمّة سرّ في اليوميات الحوارية يجعلها مفيدة. قد يبدو الأمر جنونيًا، لكن جربه ثم قرر بنفسك.

في الواقع، يعمد المبرمجون لشيء كهذا عبر ما يُدعى “البطة المطاطية”

يمكنك تطبيق أسلوب البطة المطاطية عندما تصطدم بمشكلة ما، كل ما عليك فعله: إحضار بطة مطاطية (أو أيٍ من ألعاب أخوك الصغير!)، ووضعها أمامك، ثم بدء الحديث حول مشكلتك. وقد يظهر الحل -أحيانًا- من العدم!

أسلوب جيد. لكني أجد أن تدوين الأسئلة والإجابة عليها يساعدان في “هيكلة” رؤية المسألة من وجهات نظر متعددة ويقدّم نتائج أفضل. ففي النهاية، ترفع دقة تعريفك لمشكلة نسبة نجاحك في حلها؛ وهي فكرة روج لها ألبرت أينشتاين عندما قال

“إذا كان لدي ساعة لحل مشكلة؛ سأقضي 55 دقيقة للتفكير فيها، و5 دقائق في حلها”

مثال عملي عن الأسئلة التي أطرحها على نفسي

كنت أفكر فيما إذا كنت أرغب في الانضمام إلى شركة ناشئة في مرحلتها الأولية (Early-stage)، وواجهت صعوبة صعوبة في البتّ ما إذا كان الأمر سيناسبني أم لا. عانيت لفترة، وفكرت في الأمر كثيرًا. ثم أدركت -لاحقًا- أنني (أعاني) بسبب وجود الكثير من الأسئلة (غير المُجابة) حول هذه الفرصة. كيف أدركت ذلك؟ ذات ليلة، وعندما جافاني النوم لساعات، عرفت أنني بحاجة لتجربة شيء آخر. لذلك نهضت من السرير وكتبت بعض الأسئلة في دفتر يومياتي:

  • ما الذي يتطلبه الأمر لأتحمّس بجنون؟
  • ما المسؤوليات التي أرغب في تحمّلها؟
  • ما المسؤوليات التي لن أرغب في حملها؟
  • ما الموارد التي سأحتاجها (الميزانية – الفريق.. إلخ)؟
  • ما العوائد التي سأجنيها (التعويض – المرونة.. إلخ )؟
  • كيف سيبدو يوم العمل العادي؟
  • ما قد يكون سبب انسحابي (لو حدث)؟


فوجئت بمدى فائدة الإجابة على هذه الأسئلة. لم يحل ذلك جميع التحديات، لكنه ساعدني في توضيح وجهة نظري وتحديد بعض الخيارات المختلفة التي يجب تجربتها. غالبًا ما أتفاجأ بكمية الحكمة الداخلية التي يمكنني إظهارها أثناء المواقف وكيف أنه غالبًا ما يتعلق الأمر بتوفير (الحيّز المناسب) للتعامل مع المشكلة وإمضاء الوقت الكافي في استكشافها.

عادة في نهاية صفحة “يومية” مثل هذه، أضع خطوة لمحاولة تالية -واحدة على الأقل-. وهذا كل ما يهمني حقًا: الثقة في أن تجربة شيء ما، ستعلمني المزيد لأجد طريقي نحو الخطوة التالية، ثم التي تليها. كما يقول ايفون شوينارد Yvon Chouinard مؤسس Patagonia [متجر أمريكي لبيع ملابس الخروج]:

"إذا خطرت ليّ فكرة، أتخذ مباشرةً خطوة إلى الأمام وأرى كيف يُشعرني ذلك. إذا كان الأمر جيدًا، فسأخطو خطوة أخرى نحو الأمام. وإلا، تقهقرت إلى الوراء. إذ أنني أتعلم بالممارسة". غرّدها؟

ماذا لو بقيت حائرًا؟

في هذه الحالة، عليك خوض المحادثة مع شخص آخر.

تجاذب أطراف الحديث

دائمًا ما يساعدني التحدث مع شخص آخر -شريك أو صديق أو زميل في العمل- على إحراز تقدم من خلال التحدي. فقط أقول “مرحبًا، أحتاج بعض المساعدة لاجتياز تحدي. هل لديك بضع دقائق؟” غالبًا ما تتبع هذه المحادثات نمطًا مشابهًا:

  • أشارك الموقف.
  • يسأل الطرف الآخر بعض الأسئلة تساعده على استكشاف وتوسيع فهمنا المشترك للموقف.
  • يشارك الشخص بعض الخيارات والنصائح والحكمة والقصص.
  • وبعد ذلك أُطلعه على ما أفادني وما سأجربه كخطوة تالية.

ربما تشعر برغبة في طلب المساعدة ولكنك قلق من أن تشكّل عبئًا. لست وحدك في هذا، لكن التجربة علمتني أن معظم الناس يحبون مشاركة النصائح والحِكم. أيضًا، يمكن أن تكون مشاركة ما وجدته مفيدًا شكلاً رائعًا حقًا من الردود، ليعرف ما المفيد لشخص آخر.

أحب تأطير رديّ كتقدير. على سبيل المثال، “روميو، أقدّر حقًا أنك ساعدتني في إدراك شعوري في هذا الموقف. سأتحدث مع مايك بشأنه خلال لقائنا القادم”. قد يكون من المفيد أيضًا إعلامه بعد تجربة الخطوة التالية ليرى ما آلت إليه الأمور. ذاك شكل جميل لتقدير وقت الشخص وطاقته وحكمته من خلال إظهار كيفية استخدامك لما شاركه معك.

من خلال تجربتي الخاصة، وعبر اختباري ممارسات مختلفة مثل هذه، شعرت بالفضول أيضًا اتجاه “السحر” الذي يحدث أحيانًا في محادثة مع شخص آخر (عندما أضع التفكر جانبًا). أعتقد أنه من المفيد استكشاف هذه الجوانب كطريقة لفهم كيف يمكن أن تساعد الممارسات المختلفة في مواجهة التحديات المختلفة.

الوضوح

على سبيل المثال، أعتقد أن الطريقة التي نصرّح فيها عن أفكارنا ونستكشفها بصوت عالٍ مختلفة عما لو عبرنا عنها في أذهاننا أو على الورق. نحن نحاول شرحها بطريقة يفهمها الشخص الآخر. من المحتمل أن نضيف الفروق الدقيقة والتفاصيل بسبب هذا. أيضًا، إذا كان الشخص الآخر لا يفهم شيئًا ما، فإنه يطرح سؤالاً للتوضيح. في كثير من الأحيان، هذا سؤال يساعدنا أيضًا في استجلاء فهمي. بعد قولي هذا، أجد أنه قد يكون من المفيد ممارسة التأمل الذاتي “التفكّر” قبل إجراء محادثة لتوضيح ما تعرفه بالفعل وأين تحتاج إلى أكبر قدر من المساعدة.

التنوع

كما أن الخبرة والمعرفة والحكمة التي يعيشها كل شخص مختلفة بلا شكّ. أعتقد أن هذا شكل من أشكال التنوع. وفي هذا التنوع توجد وجهات نظر مختلفة وخيارات مختلفة. من خلال مشاركة تنوعهم، يمكن لشخص آخر تحويل المجهول إلى (مجهول معروف) ومن ثم (معروف). هذا يمكن أن يكشف عن النقاط العمياء. يمكن أن يكشف هذا أيضًا عن الخيارات التي تؤدي إلى الخطوة التالية، والتي تتحول -بدورها- إلى ((مسار نحو الأمام)).

المصادقة

وغالبًا، أثناء مشاركتي التحدي الذي أواجهه ومناقشته، يشارك الشخص الآخر نفس التحدي الذي واجهه أو ربما يواجهه حاليًا. وفي تلك اللحظة التي ندرك فيها أن لدينا معاناة مشتركة، أشعر بالمصادقة على مشاعري وتصرفاتي، أفكر وأشعر بأنني “لست وحدي” وهو ما أحتاجه -بالضبط- للتوقف عن اجترار الماضي واتخاذ الخطوة التالية على الرغم من صعوبتها.

الخلاصة

في المرة القادمة التي تواجه فيها تحديًا، ربما تحاول التفكّر مع نفسك. وإذا لم يفلح ذلك، يمكنك إجراء محادثة مع شخص ما حول هذا الموضوع. لست متأكدًا مما ستجده، لكنني متأكد من أنك ستجد شيئًا مفيدًا. وأنا متأكد من أن الشخص الآخر سيقدّر حصوله على فرصة ليكون مفيدًا وقد يرد الجميل فقط من خلال طلب المساعدة منك في المستقبل. وبهذه الطريقة لا نساعد أنفسنا فحسب، بل نخلق الثقة ونوطد العلاقات والصداقات التي تدوم مدى الحياة.

ما الذي يتردد صداه هنا بالنسبة لك؟ ما هي الخيارات الجديدة التي تجدها؟ ما هي الخطوة التالية التي قد تجربها؟

كل التقدير لمنصة Tools For Humanity على التدوينة!

كيف تُعاني “بطريقة صحيحة”؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تمرير للأعلى